يواجه الفلسطينيون قيادةً وحكومة وشعبًا أزمة اقتصادية لإيصالهم لخيار الأرض مقابل المساعدات، وهي شبيهة بالسياسة الأمريكية التي اتبعتها مع العراق بزمن الرئيس السابق صدام حسين، حين استعملت معهم سياسة النفط مقابل الدواء، ولكن الفلسطينيين هنا أمامهم خياران، إما الأرض أو المساعدات، وقد ظهر هذا واضحًا بعد قيام الولايات المتحدة الأمريكية بقطع المساعدات عن الفلسطينيين بعد رفضهم التخلي عن مدينة القدس المحتلة.
واشتدت الأزمة بعد تهديدات أمريكية بإغلاق مكتب منظمة التحرير بواشنطن في حال رفضت الرئاسة الفلسطينية التنازل عن مقايضة الاحتلال الإسرائيلي بمحكمة الجنايات الدولية بعد توسعة رقعة الاستيطان بجبل البابا قرب القدس المحتلة، وبمنطقة الأغوار، كونها تمثل أهم المناطق الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، إلا أن المنظمة أوقفت من تلقاء نفسها جميع علاقاتها مع الأمريكان، بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”.
وقامت الولايات المتحدة بقطع 221 مليون دولار عن المنحة التي تقدمها سنويًا للسلطة الفلسطينية والبالغ إجمالًا 380 مليون دولار، وذلك بسبب تخصيص السلطة الفلسطينية جزء من موازنتها لصالح الأسرى الفلسطينيين بسجون الاحتلال الإسرائيلي ولعائلات الشهداء والجرحى، حيث تعتبر الإدارة الأمريكية هذا الدعم يذهب لأشخاص يندرجون تحت قائمة الإرهاب، وكان الرئيس الفلسطيني عباس قد أعلن مسبقًا رفضه لأي شروط من شأنها عزل قضية الأسرى عن عملية السلام، وذلك عقب زيارته الأولى للرئيس الأمريكي ترامب بعد فوزه بالانتخابات.
انخفضت ميزانية السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة من مليار دولار إلى 365 مليون دولار سنويًا، ووصلت قيمة الديون المتراكمة على السلطة إلى أكثر من 5 مليارات دولار
وتبع ذلك القرار قيام أمريكا بقطع جزء من الميزانية التي تخصصها لصالح وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي لم تنظر لقضية اللاجئين بنظرة محايدة بخلافاتها مع منظمة التحرير، وذلك عقب فشل جميع المفاوضات بينهما.
وقد تأثر الفلسطينيون عدة مرات من أزمة نقص المساعدات، فتم الاقتطاع من رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة عدة مرات، وخاصة بعد تخصيص الرئاسة الفلسطينية مبلغ 25 مليون دولار لدعم صمود أهالي القدس في مواجهة الاحتلال بعد افتعال أزمة البوابات الإلكترونية، كما قامت فيما بعد باقتطاع جزء من رواتب الموظفين مرة أخرى لصرف رواتب للاجئين الفلسطينيين بالجمهورية السورية.
وتتحمل السلطة الفلسطينية رواتب 175 ألف موظف مدني وعسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى كل رسوم الصحة والتعليم.
نكبة اقتصادية
انخفضت ميزانية السلطة الفلسطينية في السنوات الأخيرة من مليار دولار إلى 365 مليون دولار سنويًا، ووصلت قيمة الديون المتراكمة على السلطة إلى أكثر من 5 مليارات دولار، كما أعلن تجمع المؤسسات الخيرية بمؤتمر صحفي مطلع هذا العام بأن غزة منطقة منكوبة.
ويوضح رئيس العلاقات العامة في الغرفة التجارية التابعة لوزارة الاقتصاد الدكتور ماهر الطباع، بأن أزمة نقص المساعدات تأتي في أحلك الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة، في الوقت الذي تزداد فيه نسبة الأشخاص الذي يقبعون تحت خط الفقر في القطاع إلى 67%، ونسبة الأشخاص العاطلين عن العمل إلى 67% أيضًا، أي ما يعادل 1.3 مليون شخص يقبعون تحت خط الفقر من أصل مليونين يعيشون في القطاع، لتكون غزة المدينة الثالثة عربيًا من حيث نسبة الفقر المدقع، والأولى عالميًا من حيث البطالة.
أشار الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة بأن أولى الحلول الجذرية للحكومة الفلسطينية بزيادة إيراداتها أن تبدأ الحكومة بفرض ضرائب على السلع المهربة عبر المستوطنات
كما تشهد مؤسسات القطاعات الإنتاجية والخدماتية وكل ممتلكات الشعب الفلسطيني بغزة خسائر تصل لأكثر من 15 مليار دولار خلال السنوات العشرة الأخيرة، جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على القطاع، ووصلت نسبة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر الفلسطينية حسب إحصائية الوزارة مؤخرًا إلى أكثر من 50%، كما يبين الطباع.
حلول مطروحة
من هنا أصبح الأمر يتطلب حلولًا لمواجهة هذا العجز والتخلص من جميع الأزمات على الأصعدة كافة، فكيف يمكن مواجهة هذه الأزمة وإيجاد حلول أخرى لها؟
أشار الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة بأن أولى الحلول الجذرية للحكومة الفلسطينية بزيادة إيراداتها أن تبدأ الحكومة بفرض ضرائب على السلع المهربة عبر المستوطنات، على حد تعبيره، حيث أفاد البنك الدولي مؤخرًا بأن نسبة الضرائب التي تتجاهلها السلطة الفلسطينية نتيجة البضائع التي تهرب تقدر بـ350 مليون دولار، وهي تعادل ميزانية المساعدات الأمريكية التي تم قطعها عن الفلسطينيين، وأن تعتمد السلطة نظام الموازنة التقشفية عند كبار موظفيها وخاصة في مرحلة التحرر الوطني التي نمر بها حاليًّا.
ومن بين الحلول الأخرى كما أشار أبو مدللة، أن تباشر الحكومة أيضًا بفرض ضرائب على الشركات التجارية والاحتكارية بفلسطين التي تتهرب من ضرائبها وتحقق أرباحًا تفوق مجمل الشركات العربية المشابهة لها في عملها، وأن تكون هذه الضرائب رأسية وليست أفقية بحيث لا يتضرر المواطن منها.
أكد رئيس شركة الكهرباء بغزة محمد ثابت أن تشغيل محطة كهرباء غزة بالغاز سيُغني الحكومة الفلسطينية عن كل مصادر الطاقة من” إسرائيل”
فلسطين مصدرة للغاز
يعتبر حقل غاز “مارين” الذي يبعد عن ساحل قطاع غزة قرابة ثلاثين ميلاً، عاملًا مهمًا في تقوية الاقتصاد الفلسطيني، خاصة أنه يتبع المياه الإقليمية التي نصت عليها اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993، فبعد أن تم اكتشافه عام 1999، بدأ التنفيذ الفعلي لاستخراجه عام 2000، بعد أن وقعت السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عقدًا مع شركة (PG) البريطانية، وشركة (CCC) اللبنانية، نصت على استخراج هذا الغاز وبيعه على المستوى المحلي والإقليمي، ولكن هذه الأمور باءت بالفشل بعد نشوب المعارك بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي ابتداءً من انتفاضة الأقصى عام 2000 وحتى عام 2005.
وعادت مفاوضات الغاز تطفو على السطح من جديد عام 2006، ولكن أحداث الانقسام بغزة ونشوبها حالت دون حدوث ذلك، وخاصة أن حماس طرف ليس له علاقة بمفاوضات الغاز، الأمر الذي يئست منه شركة (PG) وباعت حصتها لشركة “شل” الهولندية، وأعلنت الأخيرة فك عقدها مع السلطة الفلسطينية أواخر عام 2017.
ولكن مع الضغوط المصرية على طرفي الانقسام للتخلص من الأعباء على طاقتها، وخاصة بعد لجوء مصر لاستيراد الغاز من “إسرائيل”، اجتمع الطرفان (حماس وفتح) لتوقيع اتفاقية المصالحة بالعاصمة المصرية القاهرة، وأكد رئيس الوزراء الفلسطيني الدكتور رامي الحمد الله بأن أولى المشاريع التي ستقوم بها حكومة الوحدة الوطنية استخراج غاز غزة بعد توقيع عقد جديد مع شركة يونانية دون ذكر اسمها.
وأكد رئيس شركة الكهرباء بغزة محمد ثابت بأن تشغيل محطة كهرباء غزة بالغاز سيُغني الحكومة الفلسطينية عن كل مصادر الطاقة من “إسرائيل”، كما أنها ستُنهي مشكلة كهرباء غزة التي تصل للمواطنين 3 ساعات يوميًا، مقابل 12 ساعة فقط، وتستورد السلطة الفلسطينية 95% من طاقتها من “إسرائيل” بتكلفة تفوق 1.4 مليار دولار سنويًا، و5% من الجانب المصري.
قامت الحكومة الفلسطينية بالشراكة مع “الأونروا” للاجئين والتابعة لمنظمة الأمم المتحدة بإطلاق حملة عالمية لجمع التبرعات من أجل سد العجز بعد تقليص أمريكا مساعدتها للجانبين
وتبلغ حصة صندوق الاستثمار الفلسطيني من الغاز بنسبة 17.5% وهو ما يُدر عليها أرباحًا بمعدل 1.5 مليار دولار سنويًا، ولمدة 15 عامًا، الأمر الذي سيساعدها على التخلص من جميع الديون المتراكمة عليها وحل مشكلة البطالة والفقر وخاصة في قطاع غزة. وبحسب شركة الكهرباء الإسرائيلية فإن حقل غاز غزة يحتوي على 33 مليار متر مكعب من الغاز، سيكفي الفلسطينيين لمدة 25 عامًا حسب استخدامهم الحاليّ.
على الصعيد الدولي
قامت الحكومة الفلسطينية بالشراكة مع “الأونروا” للاجئين والتابعة لمنظمة الأمم المتحدة بإطلاق حملة عالمية لجمع التبرعات من أجل سد العجز بعد تقليص أمريكا مساعدتها للجانبين، وأُطلقت هذه الحملة بنهاية الشهر الأول من هذا العام، وما زالت مستمرة حتى اليوم، وهي تهدف لجمع 500 مليون دولار تخوفًا لأي تهديد آخر من الدول المانحة بتقليص مساهمتها للأونروا.
وكانت بلجيكا أولى الدول التي تجاوبت مع هذه الحملة التي أعلنت تبرعها بمبلغ 65 مليون دولار سنويًا، وهي تعادل الميزانية التي تم تقليصها من أمريكا، ولتسير ورائها معظم دول العالم، فيما قامت السعودية برفع الميزانية الشهرية لصالح السلطة الفلسطينية من 7 ملايين دولار إلى 20 مليون.
وطالب رئيس عمليات الأونروا في فلسطين ماتياس شمالي في حديث خاص لـ”نون بوست” جميع دول العالم بالإيفاء للوعود التي قطعوها قبل 70 عامًا بتوفير حياة كريمة للاجئ الفلسطيني، كما طالب بتحييد اللاجئين وقضيتهم الإنسانية عن كل الصراعات السياسية بين جميع الأطراف، وعدم خلط السياسي بالإنساني.
عضو المجلس الثوري لحركة فتح إياد نصر لـ”نون بوست”: “تنفيذ جامعة الدول العربية بقراراتها المتعلقة بتعزيز صمود الفلسطينيين قيادة وشعبًا وتوفير كل ما يلزم لذلك، يعتبر من أفضل الخيارات المفتوحة لمواجهة جميع الأزمات”
وأكد الناطق باسم الأونروا عدنان أبو حسنة على أهمية وكالة “الأونروا” وخاصة في قطاع غزة الذي يعد أكثر المناطق الفلسطينية فقرًا، إذ يصل عدد المستفيدين من خدمات الأونروا بغزة 1.3 مليون من أصل مليوني شخص يقطن في القطاع وبنسبة 65%، سواء كانت هذه الخدمات مساعدات غذائية أو تعليم أو صحة وغيرها، كما أن مراكز الصحة والعلاج التابعة للأونروا شهدت أكثر من 5 ملايين زيارة خلال عام 2017، فيما يضم قطاع التعليم أكثر من ربع مليون طالب و13 ألف موظف.
وأوضح المحلل الاقتصادي أبو مدللة بأن سد عجز هذه الأزمة على المستوى الإقليمي والدولي هو نقل ميزانية الأونروا من الدول المانحة وتخصيص ميزانية لها من الأمم المتحدة التي أنشأت بقرار منها، كما هو الحال في المنظمات الأخرى للأمم المتحدة كاليونيسكو ومنظمة الفاو واليونيسيف وغيرها، أو بتعديل على القرارات العربية التي نصت بأن لا تخصص لـ”الأونروا” دعمًا أكثر من 7% حين إنشائها.
وعلى الصعيد السياسي، قال عضو المجلس الثوري لحركة فتح السيد إياد نصر لـ”نون بوست” إن “تنفيذ جامعة الدول العربية بقراراتها المتعلقة بتعزيز صمود الفلسطينيين قيادةً وشعبًا وتوفير كل ما يلزم لذلك، ودعم قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس، وبانضمامها إلى المؤسسات والمنظمات الدولية المختلفة، يعتبر من أفضل الخيارات المفتوحة لمواجهة جميع الأزمات، وكذلك تسريع عجلة المصالحة الفلسطينية، التي ستمكن حكومة الوحدة الفلسطينية من استغلال الموارد الطبيعية لصالح الاقتصاد الوطني الفلسطيني”.