القراءة هي المادة الأساسية التي يتغذى عليها العقل، وينمو عن طريقها الفكر، ويثرى من خلالها الوجدان، هي مولدة الأفكار، ومحسنة الأطوار، كلما شربت من معينها، زاد وزن عقلك، وكلما اغترفت من كنوزها، زاد غنى نفسك، كل هذا يحدث إذا ما أحسنت اختيار ما تقرأ، وهداك الله إلى ما ينفع من الكتب، فالكتب كأي شيء في دنيا الناس منها الغث ومنها السمين، وفيها ما يستقبله العقل فيسمو، ومن بينها ما ينزل على العقل فيهوي به إلى أسفل سافلين، فيأتي الداء مما يظن الإنسان أنه الترياق والدواء.
وهذا الأمر يخفى على الكثير من الناس، لا سيما المبتدئ في مضمار القراءة، فالناس وخصوصًا الشباب يميلون إلى تصديق كل ما كتب في كتاب، ويرى في كل ما خط بين دفتي كتاب حقًا مطلقًا لا يقبل المناقشة، فالشباب الصغير لا يملك الحاسة النقدية، لأن هذه الخبرة لا تأتي إلا من خلال التجربة والاختبار، وكثرة التقلب بين العقول والأفكار، فكم من عقول تناوشتها أعاصير الفكر، لمجرد أن حكم عليها الحظ السيئ، بالوقوع ضحية لكتاب مؤلفه فاسد المعتقد، مختلط العقل، وكل بضاعته فيه أنه يحسن تنميق الكلام، والتدجيل بالحروف والكلمات، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فكم قرأت يا صديقي من كتب قيمة، أفكارها نيرة، ولكنها لم تلبث في رأسك إلا اليسير من الأيام، وإذا حاولت أن تصوغ ما خرجت به من الكتاب، تذهب كل محاولاتك أدراج الرياح، لا نستطيع أن ننكر هنا أن محتويات الكتاب الذي نسيت بعض أو كل أفكاره لم تندثر، وأن وقتك لم يضع، بل إن ما ناقشته مع كتابك النافع من أفكار، ذهب إلى داخل عقلك ووجدانك، وذاب داخل نفسك كما يذوب الطعام والشراب داخل عروق الجسد.
اجترار الأفكار داخل النقاشات بين القراء، يؤدي إلى استخراج مكنونات ومقاصد المبدعين من كتبهم، والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة عن الكتاب الواحد، مما يولد الأفكار ويكسوها صورًا مختلفة عن وجهة النظر الأحادية للقارئ الواحد
لكننا نريد لأفكارنا التي نستخلصها من الكتب النافعة أن تترسخ داخل أذهاننا، وأن تشكل وحدات متجانسة نستطيع استدعائها وقتما نشاء، لكي نحاجج بها ونذود عن معتقداتنا التي اكتسبناها من تراكم الكتب التي قرأناها، وحتى نستطيع نشر ما نؤمن به من أفكار وقضايا، ونحن هنا أمام غايتان نريد إدراكهما:
الأولى: أن يقدم أصحاب الخبرة والدراية في مجال القراءة والاطلاع عصارة أفكارهم لشباب القراء، حتى لا يتركوهم عرضة للتيارات الفاسدة، وتنمو فيهم الحاسة النقدية التي تجعلهم يستفيدون من كل ما يقع تحت أيديهم من الكتب، دون مصادرة لحريتهم في اختيار ما يقرأون، أو حتى إشعارهم بالوصاية على عقولهم الشابة الفتية التي تميل للحرية، فنحن في نهاية المطاف نريد عقولاً حرة تستطيع التمييز بوعي كامل بين الخير والشر والغث والسمين من الأفكار كما أسلفنا القول.
والثانية: أن يتثبت القارئ مما قرأ من كتب، ويستطيع الأخذ بناصية الأفكار التي حوتها الكتب التي قرأها، ولا تذوب تلك الأفكار في ذاكرته، بل تكون الأفكار متمايزة ومرتبة داخل عقله، فكم من شخص تجد أفكاره مرتبة وحينما يتكلم في فكرة تجده يتذكر بدقة أين قرأها وما التفاصيل التي حوتها صفحات الكتاب الذي قرأها فيه.
وهاتان الغايتان نستطيع إدراكهما في وسيلة واحدة ألا وهي النقاش المنظم بين القراء، وقد يتخذ هذا النقاش أي صورة، فقد يظهر في صورة صالون أدبي – كصالون مي زيادة وعباس العقاد – يناقش كتاب أو موضوع بصورة دورية، وهذه الوسيلة كانت منتشرة في مصر مثلاً في بداية القرن السابق، وأنتجت لنا باقة من ألمع نجوم الفكر والأدب، وقد يتخذ هذا النقاش صورة مجموعة على الفيس بوك أو أي وسيلة تواصل أخرى تستفيد من التكنولوجيا الاستفادة المثلى.
فاجترار الأفكار داخل هذه النقاشات، يؤدي إلى استخراج مكنونات ومقاصد المبدعين من كتبهم، والاستماع إلى وجهات نظر مختلفة عن الكتاب الواحد، مما يولد الأفكار ويكسوها صورًا مختلفة عن وجهة النظر الأحادية للقارئ الواحد، الأمر الذي يضاعف من فائدة القراءة، فالقراءة وحدها لا تكفي.