ترجمة حفصة جودة
مع استمرار اختباء آلاف الأسر في الغوطة الشرقية في تلك الأقبية المزدحمة، اتخذت النساء زمام المبادرة لدعم الأطفال الذين يختبئون في تلك الملاجئ المظلمة منذ أسابيع، تقول ليلى بكري – طالبة سابقة في الهندسة الزراعية في دوما -: “نحاول أن نبقى نحن والأطفال على قيد الحياة، فنطبخ لهم ما يتوفر من الطعام ونحاول إبقائهم منشغلين بالأنشطة والفصول التعليمية”.
يقول أحد المراقبين إن هجمات الحكومة السورية ضد الغوطة الشرقية التي بدأت يوم 18 من فبراير، تعد من أشد حملات الحرب التي تدخل عامها الثامن، قتلت هذه القنابل والغارات الجوية أكثر من 1000 مدني من بينهم 215 طفلاً.
تقول بكري: “نعيش هنا تحت الأرض منذ أكثر من 3 أسابيع، 70% ممن يعيشون في تلك الأقبية من الأطفال، أما البقية فمن النساء والعجائز من الرجال، يتولى النساء طليعة العمل هنا تحت الأرض، فبينما يشارك الرجال في عمليات الإنقاذ ويعمل آخرون في خطوط الحرب الأمامية، تحاول النساء هنا الحفاظ على الحياة بينما يتعقد الموقف ويصبح أصعب يومًا بعد يومٍ”.
يدخل الكثير من الأطفال في نوبات صراخ عند سماع أصوات القنابل والغارات الجوية
“النساء هنا مسؤولات عن ضمان تغذية الأطفال وإبقائهم مشغولين ودعم إحساسهم بالأمان، ورغم التحديات التي تواجه السوريين في الغوطة لكي يبقوا على قيد الحياة، فالمعيشة هنا تحت الأرض لم نكن لنحتملها لو لم نكن منشغلين، دون تلك الأنشطة كنا سننكسر وهذا بالضبط ما يريده النظام”.
أحد الجوانب الأخرى للجهود التي تبذلها النساء لكي تستمر الحياة تحت الأرض؛ هو تقديم الدعم النفسي لآلاف الأطفال المتضررين من الحرب، تقول بيان ريحان – طالبة جغرافيا سابقة من دوما -: “بعض منا ممن حصلوا على تدريب نفسي يقدمون جلسات دعم للأطفال الذي فقدوا أفراد أسرتهم أو أصيبوا بجروح، حيث يدخل الكثير منهم في نوبات صراخ عند سماع أصوات القنابل والغارات الجوية”.
كالعديد من النساء الأخريات، أصبحت ريحان ناشطة، تقوم بالتدريس والمساعدة أيضًا في الحالات الطارئة بعد أن أجُبرت على ترك دراساتها عندما حاصرت القوات الحكومية الغوطة الشرقية عام 2013.
يحتاج الكثير من الأطفال الذين شهدوا قتل أفراد عائلتهم أو إصابتهم إلى جلسات دعم نفسي
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن هناك 400 ألف مدني يعيشون دون أن يحصلون على كفايتهم من الطعام والماء والدواء في المناطق المحاصرة، ولم يبق سوى الغوطة كأكبر المناطق التي يسيطر عليها الثوار بالقرب من دمشق حيث مقر حكم الأسد.
رسم الابتسامات
في إحدى المناسبات جمعت ريحان ومجموعة أخرى من النساء التبرعات لدعم جيرانهم في قرية حسرات بعد أن تعرضت لقصف جوي شديد في الأسبوع الثاني من شهر فبراير، تقول ريحان: “تعرضت حسرات لقصف جوي شديد أدى إلى مجزرة جماعية، لذا أردنا أن نظهر دعمنا للأسر هناك وحاولنا تقديم الأمل للأطفال، ذهبت مع مجموعة من النساء إلى ملاجئ تلك القرية مع بعض الطعام، عندما وصلنا كان الوضع صادمًا، فالعائلات تكومت فوق بعضها البعض تحت الأرض، لكن أجمل ما رأيناه كان ابتسامة الأطفال عندما أدركوا أننا جلبنا الطعام”.
الحياة في العصور المظلمة
رغم أن الأقبية والملاجئ تحت الأرض وفرت للعائلات المأوى الذي يحميها من القصف المستمر، فالظروف هناك ليست إنسانية على الإطلاق، تقول ريحان: “الوضع يبدو وكأننا نعيش في العصور المظلمة، فلا يوجد مياه أو كهرباء أو دواء، هذه الأقبية تشبه المستودعات المهجورة، غير صالحة للحياة البشرية، كما أن الأمراض الجلدية وأمراض الصدر تنتشر هناك بسرعة كبيرة نتيجة الازدحام ونقص الأدوية وقلة النظافة والوضع الصحي”.
الأمر أشبه بالحياة في أنابيب المجاري لأسابيع دون أن تتمكن من الحصول على الهواء النقي أو ضوء الشمس
أما بكري فتقول: “الأمر أشبه بالحياة في أنابيب المجاري لأسابيع دون أن تتمكن من الحصول على الهواء النقي أو ضوء الشمس، كما أننا لا نستطيع أن نغتسل أو ننظف أنفسنا؛ لذا فالرائحة مقززة للغاية، أما هؤلاء الذين يعانون في الأصل من مشكلات في التنفس فهم يجاهدون للبقاء على قيد الحياة”، وتضيف بكري: “لم نحصل حتى الآن على أي مساعدات، ومخزون الطعام ينفذ لدينا سريعًا، من الصعب عليّ أن تسألني ابنتي عن الطعام ولا أجد ما أعطيه لها”.
يقول حسن – أحد مواطني دوما -: “العديد من العائلات تتضور جوعًا في الأقبية، حيث يمر على الناس 48 ساعة دون طعام، فلا يوجد مخزون طعام معهم، ولا يصلهم أي مساعادات من منظمات الإغاثة”.
كانت المنظمات التابعة للأمم المتحدة قد طالبت الحكومة السورية وحليفتها روسيا بوقف الحملة العسكرية والسماح لشاحنات المساعدات بالدخول بعد أن فشلت قافلة يوم الإثنين في إتمام مهمتها بسبب القتال، وتمكنت أول قافلة طارئة من عبور الخطوط الأمامية والوصول إلى الغوطة الشرقية منذ بدء القتال يوم الجمعة، لكن العديد من المدنيين ما زالوا يائسين.
لا بديل
استولت القوات السورية على الأراضي الزراعية وتوغلت داخل المدن، مما أدى إلى الضغط على الضواحي الشرقية لدمشق، ومع اقتراب المعارك، ترك آلاف المواطنين منازلهم وهربوا إلى عمق الضواحي، أما الأقبية فقد كانت ممتلئة من قبل.
في يوم 26 من فبراير؛ أعلنت روسيا التي تدعم الحكومة السورية أنها تقدم عرضًا بممر آمن للمقاتلين من الثوار، كما تقدم “وقفة إنسانية” يومية داخل الضواحي، وتعرض أيضًا ممرًا آمنًا للمدنيين الذين يرغبون في الفرار.
شاحنات الهلال الأحمر السوري تنقل المساعدات إلى قرية دوما
لكن المدنيين في الغوطة الشرقية استمروا في رفضهم للعرض الروسي بالرحيل، بينما يتهم الثوار وموسكو بعضهم البعض بالمأزق الإنساني هناك، تقول بكري: “لم تتوقف الغارات دقيقة واحدة في أثناء العملية الأخيرة وحتى خلال فترة “الوقفة الإنسانية”، لذا ليس أمامنا بديل سوى البقاء تحت الأرض”.
لم تكن بكري تغادر الأقبية إلا من أجل تخزين الطعام أو الاطمئنان على منزلها، تقول بكري: “في كل مرة أضطر فيها للصعود على سطح الأرض من أجل الطعام وبعض المهمات الأخرى الأساسية، أقبل ابنتي وأودعها لعلها تكون آخر مرة أراها فيها”.
حدثت عمليات الإجلاء في مناطق سورية أخرى؛ حيث اضطر المقاتلون والمدنيون إلى التراجع للمناطق التي يسيطر عليها الثوار قرب الحدود التركية؛ في مثل هذه الصفقات لا يبقى أمام الناس سوى الاختيار بين الرحيل أو القبول بحكم الدولة، هذا الوضع ساعد الأسد عسكريًا على استعادة السيطرة على المدن الكبرى بدعم من روسيا وإيران، ويخشى الناس في الغوطة الشرقية أن يتعرضوا لمصير مماثل.
المصدر: ميدل إيست آي