ما يقارب الـ40 عامًا والعراق يرسم صورة ذهنية واحدة في المخيلة الجمعية للعالم وهي صورة البلد المقاتل الذي لا يقبل أن يُلقي السلاح، تلك الصورة المشابة لصورة مدينة أسبرطة في اليونان القديمة التي تغلبت عليها النزعة العسكرية، فكانت طاغية على كل ما يمكنه أن يعلق بالذهن عن تلك المدينة التي أصبحت أيقونة للانضباط والحزم العسكري للمجتمع بشكل كامل وليس فئة محددة منه فقط.
هذه الصورة المغلوطة المختزلة عن العراق إضافة للاقتتال الداخلي بعد 2003 جعل التفكير في إمكانية وضع العراق ضمن قائمة الدول التي ترغب في زيارتها شبه مغامرة غير منطقية لعشاق السفر والسياحة، فرغم أن العراق تخلص من حروبه الأخيرة بالقضاء على وجود تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في أراضيه، فإن الصورة الذهنية ما زالت عالقة في ذهن العالم وصور الحرب والدماء والخراب أول ما يمكن أن يتبادر للذهن عند ذكر كلمة العراق أمام الناس، لكن ما الذي يمتلكه العراق ليجعل الناس تختاره كمحطة للسفر والسياحة؟
الطبيعة الجغرافية
يمتد العراق على مساحة 437.072 كيلومتر مربع في قلب الشرق الأوسط، ويتمتع بطبيعة متنوعة بداية من سلاسل جبال وعرة في أقصى الشمال والشمال الشرقي للعراق، ليكون موطنًا للمنتجعات الصيفية خاصة أن عدد من روافد نهر دجلة تمر بين تلك الجبال خالقة لوحة طبيعية فائقة الجمال.
الربيع في جبال شمال العراق
فيما يخترق نهرا دجلة والفرات عدد كبير من مدن العراق مكونين على ضفافهما عددًا من المرافق السياحية بميزات وانطباعات مختلفة عند كل مدينة، وصولاً إلى واحات النخيل في البصرة التي تشكل صورة اختزلها الشاعر البصري بدر شاكر السياب في أحد أعذب بيوت الغزل العربي حين قال:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ ،
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر
يلتقي دجلة والفرات في جنوب العراق بشط العرب المتصل بالخليج العربي مكونين مسطحات مائية تتراوح مساحتها بين 35-40 ألف كيلومتر مربع تعرف بالأهوار وهي أحد أجمل المناطق الطبيعية التي يمكن مشاهدتها في حياتك، وقد تم إدراجها ضمن قائمة اليونسكو للمناطق التراثية العالمية، لما تحتويه من منازل مصنوعة من القصب الخالص فوق المسطحات المائية بشكل تحفة فنية.
مضيف عراقي مصنوع من القصب في منطقة الأهوار جنوب البلاد
بينما يمتلك العراق في غربه وجنوب غربه صحراء ممتدة بالواحات التي تصلح لتكون وجهة للتخييم ورحلات الصيد، فيما يمتلك العراق أحد أبرز عيون الكبريت التي تصلح للعلاج الطبيعي في مدينة الموصل شمال غرب البلاد وكذلك في منطقة جنوب المدينة تسمى بـ”حمام العليل” يقصدها الناس للعلاج بالطين والمياه الكبريتية، حيث يتركز بشكل عيون حارة تستخدم للسياحة العلاجية.
الحضارات المتراكمة
على أرض العراق قد تجد عددًا من المعالم التارخية لفترات زمنية متفاوتة وحضارات مختلفة في بقعة جغرافية صغيرة، فلا عجب فأنت في بلاد الحرف الأول والقانون الأول والمكتبة والعجلة الأولى، فجنوب العراق يحتوي على حضارتين من أبرز حضارات العالم القديم، وهي الحضارة السومرية والحضارة البابلية، كما تقع في شماله أحد أعظم حضارات العالم القديمة “الحضارة الأشورية” بثيرانها المجنحة.
الثور المجنح رمز الحضارة الأشورية في نينوى
كل هذا ونحن ما زالنا في تلك الحقبة الزمنية ولم نصل للعصور الوسطى التي كانت بغداد فيها قلب الدولة العباسية وعاصمتها، وقبلها كانت الكوفة عاصمة الخلافة الراشدة في عهد علي بن أبي طالب وسامراء عاصمة المعتصم بالله مرورًا بالحضارة الأتابكية والأيوبية والحمدانية في الموصل شمالًا.
هذا الكم الهائل من التاريخ جعل المتحف الوطني العراقي الذي تأسس عام 1923 أحد أبرز وأهم المتاحف في المنطقة؛ حيث تبلغ القطع الأثرية المصنفة نحو 200 ألف قطعة موزعة بين قاعات العرض والمخازن، مما يجعل زيارة هذا المتحف فقط كفيلة بأن تجعلك جديًا أن تستقل طائرة باتجاه دار السلام.
المعالم الدينية
يمتلك العراق كمًا كبيرًا من المدن المقدسة دينيًا ومعالم ومزارات متعددة يقصدها الزائرون من كل مكان، لعل أبرزها ضريح الحسين بن علي بن أبي طالب في كربلاء وضريح علي بن أبي طالب في النجف، وكذلك ضريحي موسى الكاظم وأبو حنيفة النعمان في العاصمة بغداد، فيما يقبع مسجد وضريح النبي يونس عليه السلام في مدينة الموصل الذي تم تفجيره من داعش عام 2014، وكذلك أضرحة العسكري والهادي في مدينة سامراء، وضريح الصحابي زبير بن العوام والصحابي طلحة في مدينة البصرة.
في مدينة كربلاء يظهر ضريح الحسين والعباس بن علي بن أبي طالب
إضافة للمعالم الإسلامية، فالعراق ذاخر بالمعالم الدينية المسيحية خاصة في منطقة سهل نينوى، كذلك معالم مقدسة للطائفة الأيزيدية في منطقة سنجار شمال العراق والطائفة الصابئية أتباع النبي يحيى عليه السلام في وسطه، كل هذه المعالم تجعل من العراق مقصدًا وموقعًا مميزًا للسياحة الدينية.
المطبخ العراقي الفريد
قد تستغرب من وضعي للمطبخ العراقي في قائمة الأسباب التي تدفعك لجعل العراق وجهتك القادمة، فالعراق يتمتع بغزارة كبيرة للأطباق التي قدمت من التراكم التراثي والثقافي، فعندما تأكل السمك في العراق سوف يقدم لك بالطريقة السومرية، فالعراقيون يطبخون السمك بطريقة فريدة تسمى “المسكوف”، فيما ستتذوق الحلويات المحلية وهي نفس الحلويات التي كان يتناولها أمراء بني العباس في قصورهم قبل ألف سنة؛ فالكليچة العراقية نسخة طبق الأصل من حلويات التمر بالعجين العباسية.
السمك المشوي على الطريقة العراقية “المسكوف”
كما أن المحشي التركي تطور على يد سيدات المطبخ العراقي لتتكون أكلة الدولمة ذالك الطبق الفريد الذي يجمع المحاشي المصرية والشامية والتركية في طبق وضع له لمسة عراقية ليكون ممزوجًا بسحر الشرق المجتمع.
لن تجد هذا الطعام الفريد وطعمه المميز خارج العراق بسبب اختلاف المكونات والأجواء؛ فالطقوس المصاحبة للطعام تجعل منه طبقًا مختلفًا، فالمسكوف لا يؤكل إلا في ظلال دجلة، والشاي لا يشرب إلا في مقاهي بغداد الشعبية أو على أسوار قلعة أربيل الشهيرة.
البنية التحتية العراقية
إن مدنًا مثل بغداد وأربيل والسليمانية وكربلاء والبصرة تمتلك مقومات متكاملة للسياحة بداية من الفنادق الفخمة ذات الخمس نجوم ونهاية بالمطارات، كما أن المرافق السياحية والترفيهية في العاصمة العراقية متعددة من مولات ومطاعم وشوارع تجارية قد تستغرق أسابيع لاستكشافها وذلك بسبب الامتداد الكبير للعاصمة وتعدد البناء التاريخي والحديث فيها.
فندق ديفان ذو الخمس نجوم في مدينة أربيل شمال العراق
إضافة لنقطة مشجعة جدًا وهي طبيعة الشعب العراقي المضياف، فإذا كنت في زيارة للعراق وتوافق وجودك مناسبة مثل المولد النبوي أو ذكرى استشهاد الإمام الحسين، فإنك ستجد مائدة ممتدة في كل مدن العراق، وكذلك لن تستغرب من إصرار أحد العراقيين – حتى الاقتتال بينهم لكسب ضيافتك – البسطاء في ريف العراق الممتد من شماله إلى جنوبه أن يستضيفك في منزله ويقدم لك ما يجود به من موجودات الحياة هناك.
كل هذه المقومات وأكثر في بلد يمتلك الكثير باستثناء الإدارة الناجحة للمواد والسمعة ليعود العراق لخريطة السياحة العالمية ويكون قبلة للسياح من جديد، عندها ستجد نفسك تضع العراق في خياراتك القادمة للسياحة والسفر.