ترجمة وتحرير: نون بوست
الحالمون الحقيقيون لن يتوقفوا عن المحاولة حتى ينجحوا في تغيير العالم. بعض هذه التغييرات ستكون مثيرة، وبعضها سيجعلنا لا ننام الليل من القلق.
في اليوم الذي تنهار فيه عملة البيتكوين، ستسود أجواء هادئة في مواقع الإنترنت التي أتردد عليها، تماما مثل الشوارع في أيام العطلات. سينشر الناس تغريدات يستعرضون فيها المعارك التي تدور بين المستخدمين على مواقع التواصل الاجتماعي. أما بالنسبة لي، فأنا أستمتع دائما بمشاهدة الغرباء يتشاجرون ويعبرون عن إحباطهم، بسبب ضياع ممتلكاتهم الرقمية وعودة قيمتها إلى الصفر.
ليس السبب أنني أتمنى لمالكي البيتكوين المعاناة والخسارة. بل إنني كخبير في التكنولوجيا ومستثمر، أشعر دائما بالتعاطف مع من يتمتعون بروح المغامرة وأكن لهم الإعجاب. ولكن بصفتي كاتبا، فإنني أستمتع أكثر بمشاهدة تلك اللحظات العصيبة التي تكشف عن الطبيعة الحقيقية للإنسان. أنا أحب دائما مشاهدة الناس وهم يمارسون ألعاب الفيديو، دون أن ألعب أنا بنفسي. كما أقوم أحيانا بمشاهدة لاعبي البوكر، لكن لم أفكر في يوم من الأيام في مسك هذه الأوراق، وحتى عندما أشاهد مباراة في كرة القدم الأمريكية، فإني أبقي دائما على كتيب قوانين اللعبة بين يدي.
ولسبب غير واضح، فإنني أميل دائما للاهتمام بقواعد اللعبة أكثر من اللعبة ذاتها. والبيتكوين هي في جزء منها ليست إلا مجموعة من القوانين، التي تحددها برمجية حاسوب، والتي أصبحت اليوم واحدة من أغرب الألعاب في العالم. وهؤلاء الناس الذين يستثمرون أموالهم في هذا العالم الافتراضي والفوضوي، ثم يصابون بالذعر عندما تسوء الأمور وتنهار الأسعار، يعتبرون بالنسبة لي مصدر تسلية.
الجميع فرح ويقضي وقتا ممتعا في هذه اللعبة، ولكنها نفس المتعة التي تسبق الكارثة، تماما كما حدث قبيل غزو باريس. إذ أن مشاهدة عالم عمليات الطرح الأولي للعملات الرقمية خلال السنوات الأخيرة الماضية، كان بالنسبة لي مثل مشاهدة حبات الذرة وهي تنضج وتقفز من الوعاء الساخن؛ كل شيء يقفز ويتطاير وسط كتلة هواء ساخن، مشكلا شيئا يشبه “البوبكورن”.
الناس الذين تسابقوا بلهفة على شراء العملة المشفرة، كان ذنبهم أنهم آمنوا بهذه الفكرة، ولكن لا ننسى أيضا أنهم تحركوا بدافع الجشع
بداية الماستر كوين، إلى الإيثيريوم، البانكور وتيزوس، والبروتوكولات الأخرى التي ظهرت، وبتنا الآن نعتمد عليها بشكل مبالغ فيه في عالم العملة المشفرة. إذ أن الشركات الناشئة التي تروج للبلوكتشاين تقوم بزيارة شركات البرمجيات والحاسوب وتعدها بجني أرباح كبيرة، ولكن تقول لها: “هنالك أيضا وسائل أخرى للدفع. وكلها ذكية ومضمونة”.
وفي الواقع، هنالك بالفعل بعض شركات البلوكتشاين الناشئة التي تبدو مضللة بشكل هزلي. ورغم ذلك فإن بعضها، مثل عملات الإيثيريوم التي لا قيمة لها، نجحت في البروز وجذب المستثمرين. ثم تأتي المنصات التي تدير هذه العملات المشفرة لتقول للمستثمرين بكل سخرية: “لا تتوقعوا جني أرباح في نهاية هذا العام”، وهو ما أعلنه موقع “uetoken.com” على سبيل المثال، في وقت كان فيه المشترون يتوقعون أرباحا تصل إلى 300 ألف دولار.
الناس الذين تسابقوا بلهفة على شراء العملة المشفرة، كان ذنبهم أنهم آمنوا بهذه الفكرة، ولكن لا ننسى أيضا أنهم تحركوا بدافع الجشع. ولكن لا يمكن اللوم على هؤلاء الأشخاص، لأنه من الطبيعي أن كل من يؤمن بشيء يراهن عليه بكل ما يملك.
أنا أيضا وقعت في حب شبكة الإنترنت منذ أول مرة رأيتها فيها، حين تعرفت على أولى العبارات التقنية الغامضة المستخدمة في مجال الحاسوب، وبدأت في اكتشاف النصوص والصور والروابط الملونة بالأزرق. لقد مكننا هذا الابتكار المذهل من قراءة أشياء تنشر في بلدان بعيدة عنا، بقطع النظر عن المسافة والموقع الجغرافي. لقد كنت طالبا في الجامعة عندما ظهرت صفحات الويب لأول مرة.
لقد كنت قبلها قد استخدمت الإنترنت لإرسال البريد الإلكتروني وتنزيل بعض الملفات، ولكن مع ظهور صفحات الويب ظهرت وظائف جديدة مذهلة، مكنتني من كتابة النصوص وتأدية وظائف جديدة ودخول علم البرمجيات. لم أعد مجبرا على طباعة عدد كبير من النسخ من المجلة أو المعلقات التي أنشرها، إذ أن الإنترنت يمكنها القيام بهذا الأمر ونشر العدد الذي أريده من النسخ.
تعرفت على البيتكوين لأول مرة في سنة 2009 عن طريق الصدفة، ووجدتها حينها غامضة ومثيرة للاهتمام
بعد انتهاء دراستي الجامعية، وفي إحدى الليالي في ضاحية بروكلين في نيويورك، صممت أول صفحة ويب خاصة بي. وفي الصباح، استيقظت من النوم لأرى ما إذا كان هنالك شخص قد زار موقعي، ثم توجهت إلى عملي في مانهاتن لصناعة صفحات ويب للشركات. بفضل هذا النشاط، بدأت الأموال بالتدفق، بعضها في اتجاه حسابي البنكي، وبعض لفائدة أشخاص آخرين.
لقد عملت لفائدة شركة صغيرة مكونة من ثلاثين شخصا، استحوذت عليها شركة أخرى أكبر لدعم أنشطتها. وكان مكتبي الجديد في شارع “الجادة الخامسة”، ومديرتي الجديدة من شركة مايكروسوفت، وقد أحضرت معها كلبها الصغير إلى العمل. لقد كان ذلك عالما من الخيال الممتزج بالكوميديا. كل الدعايات التي كانت تظهر في المباراة النهائية في كرة القدم الأمريكية كانت تعرض مواقع تنتهي بامتداد “نقطة كوم”، الموظفون كانوا ينامون معا في مكان العمل، وقبل اجتماع مهم تغوط الكلب تحت طاولة البلور الكبيرة الخاصة بالاجتماعات.
بعد ذلك انتقلت إلى شركة ياهو، وكانت الأوضاع هنالك تشبه صنع بركان مزيف. فقد كانت المكتبات في مانهاتن في سنة 2008، تعرض كتاب “داو 30 ألف” (كتاب يقدم استراتيجية جديدة للاستفادة من الموجة الصاعدة من البورصة، ألّفه خبراء في الاقتصاد ويتوقعون صعودا في أسعار أسهم شركات الحوسبة والبرمجيات وينصحون المستثمرين بالمسارعة للاستفادة منه)، ثم كتاب “داو 36 ألف” و”داو 40 ألف”، التي كانت كلها تشجع على جني الأرباح من الحركة الجملية للسوق، وكان من الصعب التفريق بين الحقيقة والخيال في هذه الفترة.
كان الجميع يتحدثون بشغف وجنون حول عمليات الطرح الأولي للأسهم، الاستثمارات والمخاطرة برأس المال، ويرددون كثيرا كلمة “ثوري”. وقد شعرت حينها بأنني يجب أن يكون لي رأي في كيفية التفاعل بين شبكات الويب وأسواق رأس المال. ولكنني كنت أرغب فقط في كتابة المحتوى ونشره على الإنترنت، أو الحديث حول معايير مواقع الويب، وهي تلك الوثائق التي صاغتها اللجان في المجمع العالمي لمواقع الويب، والتي حددت منذ ذلك الحين العقد بين متصفحات الإنترنت وقواعد بيانات الإنترنت، وحددت كيفية عمل لغة بناء مواقع الإنترنت. هذه المعايير لم تكن محددة فقط لشكل البرمجيات، بل لثقافة كاملة، مثلت حجر الأساس للتفاعلات الإنسانية في هذا الفضاء. وكنت بالكاد أتمكن من فهم الظواهر الجديدة التي نشأت بسبب ذلك.
امتلاك هذه العملة المشفرة (البيتكوين) يشبه استخدام الصراف الآلي، ولكن عوض الحصول على أموال معترف بها رسميا، فإنك تحصل على شهادة بأن هنالك حاسوبا في مكان ما في العالم حل معادلة صعبة أسرع من بقية الحواسيب
لقد تعرفت على البيتكوين لأول مرة في سنة 2009 عن طريق الصدفة، ووجدتها حينها غامضة ومثيرة للاهتمام. لقد فهمتها (أو ربما أسأت فهمها) كنظرة مختلفة لعمليات التجارة الإلكترونية والدفع عن بعد، مع لمسة من عالم العملات الافتراضية القديمة مثل “بينز” و”فلوز”، إضافة إلى بعض الأفكار لمحاربة البريد المزعج.
قدراتي في الرياضيات كانت ضعيفة، ولذلك فإن وثيقة تعريف البيتكوين كانت صعبة الفهم بالنسبة لي، ولكنني رغم ذلك حاولت تعدين بعض القطع من العملة، وفشلت في ذلك. لم أكن مرتاحا لإضاعة جهد معالج حاسوبي والطاقة الكهربائية على شيء دون معنى، ولذلك قررت التخلي عن الأمر كليا.
ليست هنالك طريقة بسيطة لشرح البيتكوين، ولكن دعوني أقم بمحاولة: عندما تذهب إلى الصراف الآلي في أحد محلات التسوق وتحتاج إلى المال لشراء غرض معين، فإنك تضع بطاقتك البنكية في الصراف، فيقوم معالج التحويلات المالية بالتأكد من رصيدك، واقتطاع رسوم الخدمة، ثم يخرج لك أوراقك المالية. العملية برمتها تعتمد برمجية حاسوب.
والآن نمر إلى الأمر الأكثر تعقيدا، وهو البيتكوين، إذ أن امتلاك هذه العملة المشفرة يشبه استخدام الصراف الآلي. ولكن عوض الحصول على أموال معترف بها رسميا، فإنك تحصل على شهادة بأن هنالك حاسوبا في مكان ما في العالم حل معادلة صعبة أسرع من بقية الحواسيب، وعوضا عن استخدام الصراف، أنت تستخدم عملة رمزية تنتج بشكل آلي ولا أحد يملكها غيرك، وعوضا عن الاتصال ببنك لإعطائك المال من رصيدك، فإنك تتصل بشبكة لا مركزية من الحواسيب التي تعمل جماعيا على صيانة وتحديث نسخ من قاعدة بيانات ضخمة من التحويلات (وتقوم أيضا جماعيا بالمصادقة على التحويلات، باستخدام المعادلات الرياضية، وتمنح قطع بيتكوين جديدة من وقت إلى آخر كمكافئة لمن يكدون في حل المعادلات المعقدة).
إضافة إلى ذلك، فإنك عوضا عن شراء غرض ملموس ودفع المال لصاحب المحل، تقوم بتحويل قطع البيتكوين إلى حساب آخر افتراضي ومجهول الهوية. وبمرور الوقت، كل التحويلات التي يقوم بها الناس تتكدس في دفاتر حسابات وتتم المصادقة عليها، تحصل على شفرة محددة بحسب شفرات العمليات التي سبقتها، وهذا هو ما يعبر عليه بالبلوكتشاين.
كنت متفاجئا حين أصدرت بعض البنوك الكبرى آراء متحفظة نسبيا ولكن إيجابية حول عملة البيتكوين وتكنولوجيا البلوكتشاين
وبحسب موقع bitcoin.org، فإن حجم قاعدة بيانات سلسلة كتل البيتكوين يبلغ 145 جيجا بايت، وهو رقم يزداد باستمرار مع الوقت. ويمكنك تنزيل هذه الكمية من البيانات بالكامل، أي الملف الكامل لاقتصاد البيتكوين، في مفتاح “يو أس بي”.
لذلك أرى أن اعتبار كل هذه العملات الخيالية جزءً من المالي الحقيقي، هو أمر مثير للسخرية، ويجب علينا أن نسخر منه ليلا نهارا. يجب علينا أن نفكر في البيكوين كخدعة وضيعة، إنها مجرد مسرحية هزلية، أو محاكاة ساخرة للنظام المالي العالمي، تحولت فجأة إلى فقاعة واكتسبت قيمة. يبدو الأمر كما لو أن هؤلاء المخادعين يقولون: “أنتم يا أصحاب النفوذ والمال المجتمعون في مؤتمر دافوس للاقتصاد تعتقدون أنكم يمكنكم السيطرة على تدفق المال في العالم، ولكن نحن البشر يمكننا صنع اقتصاد مواز بالاعتماد على أي شيء، حتى هذه العملات الافتراضية”.
ولنكون صريحين، أنا لم أكن في يوم معجب بالبنوك المركزية، فهي مجرد طريقة أخرى للسيطرة علينا واستعبادنا، مثل بقية المؤسسات السلطوية كوسائل الإعلام.
لقد كنت متفاجئا حين أصدرت بعض البنوك الكبرى آراء متحفظة نسبيا ولكن إيجابية حول عملة البيتكوين وتكنولوجيا البلوكتشاين، ورغم أن موظفي البنوك يتصفون بضيق الأفق وتصلب الأفكار، فإنهم أكثر من أي شخص آخر ينظرون إلى المال كشيء ملموس. ورغم أن هؤلاء لا يعشقون البيتكوين حد النخاع كما يعشقون نسب الفائدة، فإن هذه العملة الجديدة كان يتم تداولها، والناس يقبلون على شرائها، وهي تحمل طموحات مثل الأموال التقليدية.
ولذلك قالوا في أنفسهم: “لماذا لا نرحب بها، يمكن أن يكون هذا الأمر جادا”. كما أن هذه العملات المشفرة تمثل الحل بالنسبة للناس الذين يعيشون تحت حكم أنظمة دكتاتورية، تماما مثل حساب سري في بنك سويسري لفائدة الجماهير المنفتحة على التكنولوجيا والهواتف الذكية.
ما حققته عملة البيتكوين في الواقع هو تحويل بعض الأفكار الممتعة والأصلية إلى أموال. دعك من سعر الصرف، وسوف ترى الأمر عبارة عن مجموعة من الابتكارات التكنولوجية، التي تمكنك من إنتاج شيء مميز. إذ أنه فيما يتعلق بالتفرد، فإنه بإمكانك تشفير مجموعة من المعلومات والبيانات داخل البلوكتشاين بطريقة تجعلك تقول: “هذه السلسلة هي الأولى من نوعها في هذا العالم الرقمي”.
جاء انهيار سوق الإنترنت إثر انفجار الفقاعة في بداية الألفية الثالثة، فكثرت المكاتب الخالية وخسر المستثمرون أموالهم
من ناحية أخرى، فإن البلوكتشاين يمكن أن تكون نوعا من الإعلام. وستبدأ الكاتبة ماريا بوستيلس بنشر مجلة جديدة ستهتم بتكنولوجيا البلوكتشاين (سأقوم بكتابة مقالات لفائدة هذه المجلة، وفي المقابل فأن مديرتها، وهي صديقة لي، ستدفع لي مرتبي بالعملة المشفرة، أو ما تسميه هي مجوهرات الفضاء). وأحد أهداف هذه المجلة هو توفير فضاء للتعبير عن الرأي بكل حرية، والتصدي لمن يسعون لمنع الناس من تقديم موقف مخالف من هذه الظاهرة عبر تهديد من ينشرون مقالات لا تعجبهم.
يمكن لأي شخص الآن بعث مجلة جديدة حول أي موضوع مثير للرأي العام، ونشر أفكار يصعب حجبها أو تجاهلها. إذ أن السوق الآن مفتوحة لكل الأخبار. وهو ما حدث عندما قام شخص مجهول بنشر قائمة من الرجال العاملين في مجال الإعلام، واتهمهم بالتورط في التحرش الجنسي. هكذا يمكن لأي شخص نشر الشائعات بكل هدوء، وتركها لتنتقل داخل البلوكتشاين. خاصة وأن مسألة الشائعات باتت تشكل سوقا مربحة، وأكبر دليل على أن الناس يدفعون المال لسماع الشائعات هو “جوسيب كوين”.
أنا لست بصدد التلميح إلى أن هذه الممارسات هي فكرة جيدة. في الواقع أنا متأكد تماما من أنها ستكون فكرة سيئة، ولكن قصدي هو أن هذه الشائعات والمعلومات المضللة يسهل نشرها ويصعب سحبها بعد ذلك من شبكة الإنترنت، لأن منصات نقل المعلومات لا يمكن السيطرة عليها، وتسهل مهاجمتها وإغراقها بالأكاذيب.
والآن، ظهرت أطراف تسعى لبناء شبكة تحافظ على سرية هوية المستخدمين، وتمتاز باللامركزية، وتحترم أخلاقيات الإنترنت. ولكنني أرى أن هذا الأمر لا معنى له، وسيزيد الأمور سوءً، بعد أن كانت أصلا سيئة، بما أن الناس يصرفون قطع البيتكوين لشراء المخدرات عبر شبكة الإنترنت.
بعد ذلك، جاء انهيار سوق الإنترنت إثر انفجار الفقاعة في بداية الألفية الثالثة، فكثرت المكاتب الخالية وخسر المستثمرون أموالهم. وسارعت الشركات للهروب من الكارثة، عبر تغيير جلدها والتوجه نحو أسماء وأنشطة جديدة، والاندماج فيما بينها أو الاستحواذ، بينما خرج مستثمرون آخرون سالمين من هذه الأزمة، بعد أن استثمروا أموالهم في العقارات ومؤسسات الإعلام والاقتصاد الرياضي.
بعد ذلك، بات موظفو شركات الحوسبة والبرمجيات محل سخرية، ويتحدثون فيما بينهم بعبارات تقنية لا يفهمها غيرهم، ويواجهون اتهمامات بالتسبب بأزمة اقتصادية وجرّ الشركات المعتمدة عليهم إلى الهاوية. في نفس الفترة، عانيت أنا أيضا من صعوبات مالية، كنت بالكاد أجني 590 دولار شهريا من عملي ككاتب مقالات مستقل في سنة 2002.
تم ابتكار الهواتف الجوالة، وتفجرت وسائل التواصل الاجتماعي، وباتت الوظائف متوفرة بكثرة، وتم افتتاح العديد من المعاهد لتعليم برمجيات التشفير وتحويل الناس إلى مبرمجين وإطلاقهم لتنشيط الاقتصاد العالمي
ولكنني أتذكر تلك الفترة بإعجاب كبير، وبسعادة لم أعشها حتى في فترة انتعاش هذا القطاع. فقد كان الناس يحاولون التواصل فيما بينهم عبر البريد الالكتروني، ويقيمون الاجتماعات في أحياء بروكلين، وكان شرط السماح بالدخول للاجتماع هو إحضار المشروبات والشطائر، وذلك من أجل تدارس لغة البرمجة XML، والإبحار عبر شبكة الإنترنت، وهندسة المواقع. لقد كتبنا حول هذه المواضيع في صفحاتنا، وكان كل واحد منا يعمل في نفس الوقت كمحرر ومصمم ومدير لموقعه الصغير.
بعد ذلك، بدأت الأحداث تتسارع مرة أخرى، فقد قام أحد الأشخاص بإطلاق لعبة جديدة على الإنترنت تسمى “neverending” (بلا نهاية)، والناس أقبلوا عليها. لقد كانت تلك المرحلة عصيبة، وخيم عليها الحزن، ونفس ذلك الشخص صنع لاحقا موقع فليكر. كما اشترت شركة غوغل خدمة نشر التدوينات “بلوغر”، بعد ذلك عادت المرابيح لتتدفق من جديد، خرجنا من عنق الزجاجة، وعادت صناعة البرمجيات لتحتل مكانة هامة في الاقتصاد العالمي.
وتم ابتكار الهواتف الجوالة، وتفجرت وسائل التواصل الاجتماعي، وباتت الوظائف متوفرة بكثرة، وتم افتتاح العديد من المعاهد لتعليم برمجيات التشفير وتحويل الناس إلى مبرمجين وإطلاقهم لتنشيط الاقتصاد العالمي. حينها أصبحت عمليات الحوسبة التي أعرفها نشاطا اقتصاديا مربحا.
والآن الناس يشعرون بأنهم مجبرون على تقديم تكهناتهم بشأن البلوكتشاين، ولذلك سأدلي أنا أيضا بدلوي: إن الموجة الحالية من هذه العملات المشفرة سوف تكون نهايتها الانهيار، لأنها أصبحت موجة كبيرة جدا، غير فعالة، وبمثابة فوضى تامة. لقد بات الامر مثل إيديولوجيا أكثر من كونه أداة مالية، ولذلك فإنه لن يحافظ على قيمته على المدى الطويل.
كما أن التحويلات المالية في البلوكتشاين تتسم بالبطء (رغم أنهم يقولون إنهم بصدد إصلاح هذا المشكل)، وليس من المنطقي أن نستخدم جهاز حاسوب ونهدر قدرا كبيرا من الطاقة لنحصل على عملات جديدة. الكثير من الأشياء التي تعد البلوكتشاين بتحقيقها يمكن الحصول عليها بطريقة أسهل وعبر تقنيات أخرى، منها عملات النقد الإلزامي التقليدية، ولكن المشكل يكمن في عقول الأشخاص المستفيدين من البلوكتشاين.
البيتكوين والبلوكتشاين جاءتا ومعهما نظرة مخالفة للأموال، تهدف لخلق نموذج جديد بديل عن البنوك المركزية
إليكم الخلاصة التي توصلت إليها بعد 25 سنة في هذا المجال: إن الشركات في وادي السيلكون لا تعشق المنتوج أو المنصات الافتراضية، بل تهتم بالأسواق. وهو نفس الأمر الذي حدث مع فقاعة الإنترنت الربحية في بدايتها، حيث أنهم ركزوا على تحويلها إلى تجارة قبل كل شيء. وطريقة جني الأموال من جيوب المستهلكين تتمثل في خلق منتج جديد يدفع الناس لاستخدامه باستمرار، مثل محرك البحث غوغل أو شبكة التواصل الاجتماعي فايسبوك.
حيث تقوم ببناء منصة لتحويل المعلومات، وفوقها تبني أشياء مذهلة، وتقوم بجمع البيانات مثل نتائج عمليات البحث وترتيب ظهور الأخبار، ثم تنظم كل هذه الأشياء وتعرضها على الشركات التي تبحث عن الدعاية في مقابل دفع المال، وهكذا تتحول الأفكار الافتراضية إلى آلة لجمع المال.
في الماضي، كان بناء سوق معينة يستوجب وجود منتوجات وزبائن، مثل ذهاب مربي العجول للسوق لبيعها. ولكن ما يحدث الآن هو عدد كبير من المزادات العلنية، التي يستفيد منها الوسطاء والسماسرة. ومع عمليات الطرح الأولي للعملات المشفرة، وعمليات بيع وشراء البيتكوين، فإننا باتت لدينا سوق افتراضية لبيع وشراء المال نفسه. وهذا أمر خطير.
إن الناس لا يفهمون الأفكار المجردة إلا بعد تحويلها إلى أموال. وهذه الطريقة التي تفهم بها ثقافة العصر الحالي المعلومات، أي عن طريق المرابيح والأرقام. ولكن البيتكوين والبلوكتشاين جاءتا ومعهما نظرة مخالفة للأموال، تهدف لخلق نموذج جديد بديل عن البنوك المركزية. لكن ماذا لو كان أهم شيء تقدمه لنا البيتكوين هو ليس الحلول في مكان الأموال التقليدية، بل بناء ثقافة جديدة؟
أنا أعلم كيف يكون الأمر عندما يمتلك الإنسان فكرة صنع برمجية، ويرى أمام عينيه كل الخيارات واحتمالات النجاح أو الفشل، مثل البيض، حيث يكون بعضه فاسد، بعضه فارغ، وبعضه يحتوي على فراخ في صحة جيدة، ولكن مع البلوكتشاين فإنه من حين إلى آخر قد تحتوي البيضة على تنين. كلما سمعت الناس يتحدثون عن الفرص اللامتناهية التي تقدمها البيتكوين، أفكر بالانهيارات السابقة التي عصفت بأسواق المال بسبب التوقعات المغرقة في التفاؤل.
أريد من مجانين البلوكتشاين أن يتذكروا جيدا، أنهم لن يشعروا بالراحة ما دامت هذه العملة ليست حقيقية
إن هذه الفقاعات هي قصص محزنة تختلط فيها الأكاذيب بالتفاؤل المصطنع. وأنا أعتقد أن سعر البيتكوين في النهاية سينهار، لأن هذا هو مصيرها المحتوم. والفقاعات بطبيعتها تتعرض بالتأكيد للانفجار. والناس الذين يستثمرون في العقارات والقطاع الرياضي، دائما ما يخرجون سالمين، أما الحالمون بالإنترنت والاقتصاد المشفر فإنهم تعصف بهم الأزمة، ويبدؤون بالتخطيط لمغامرة جديدة.
قد يستغرق الأمر سنوات، أو حتى عقدا من الزمن، ولكن أريد من مجانين البلوكتشاين أن يتذكروا جيدا، أنهم لن يشعروا بالراحة ما دامت هذه العملة ليست حقيقية. والأشياء التي سيبتكرونها ويطورونها انطلاقا من هذه التكنولوجيا، سيكون بعضها سحريا، مثل بناء شبكات العمل المشترك، وبعضها سيكون مثيرا من الناحية الاقتصادية، فيما سيسبب لنا البعض الآخر القلق ويحرمنا من النوم.
ولكن رغم هذا الفشل المحتوم، فإنني أشعر بالغيرة تجاه هؤلاء الحالمين، ليس بسبب الثروة الخيالية التي يعتقدون أنهم يمتلكونهاالأن، بل لأنهم سيصابون في النهاية بخيبة أمل. أنا أشعر بالغيرة لأنهم سيمرون بالتجارب التي مررنا بها نحن رواد عالم الحاسوب في بداية الألفية الثالثة، أي انهيار الأسهم، والتعرض للرفض، ثم العودة للاجتماعات والتفكير لإعادة الانطلاق من جديد وبناء مشاريع، بعد أن يتعلموا الفرق بين ما هو مفيد حقا وبين ما هو مجرد خيال.
المصدر: بلومبيرغ