كانت الدولة العثمانية مصب اهتمامها الغرب، والتوسع ونشر الإسلام كان الهدف، ونجحت بالفعل في ضم العديد من الدول الأوروبية، وكانت مطمئنة على الشرق المسلم، لوجود قوة تحميه، وثقتها في العرب وحضارتهم آنذاك، وأمان المقدسات.
ولكن عندما ضعف الشرق الذي كان حينذاك يسيطر عليه المماليك (كان نفوذ المماليك يشمل مصر والشام والحجاز) بعد ضرب اقتصاد الشرق عن طريق رأس الرجاء الصالح عن طريق البرتغاليين، تجرأ الغرب وهدد مقدسات المسلمين في الحجاز، وأشغل المماليك في صراعاتهم على السلطة، فحسم الأمر السلطان سليم الأول، فترك الفتوحات في الغرب وبدأ في التوجه لإنقاذ الشرق وحماية المقدسات، فعندما طال التهديد من الغرب، بدأ في التوجه إلى الشرق، وبسط السيطرة على المماليك الذين رفضوا حتى مساعدة السلطان سليم في حروبه ضد الدولة الصفوية الشيعية، فنظر إلى أن الشرق في خطر.
في الحقيقة يرتبط فتح مصر ارتباطًا وثيقًا بفتح الشام وذلك لأن مصر والشام كانا خاضعين للدولة المملوكية، وعندما أراد العثمانيون ضم مصر والشام كان عليهم إخضاع الدولة المملوكية إليهم، فكانت شرارة الحرب بين العثمانيين والمماليك، وبالفعل اشتعلت الحرب بينهما، فزحف السلطان سليم إلى الشام، ونجح في كسب بعض أعوان الغوري (الوالي المملوكي للشام) مثل خاير بك نائب السلطان في حلب وجان بردي الغزالي نائبه في حماة، وبعد توافق العثمانيين مع بعض أعوان الغوري واستعمال الجيش العثماني للمدفعية الثقيلة انهزمت القوات المملوكية في مرج دابق عام 1516 وفيها قتل قنصوة الغوري.
وبعد ذلك دخل سليم حلب وانحاز إليه الخليفة العباسي المتوكل على الله؛ مما شجع السلطان على مواصلة الزحف إلى مصر، وأخذت بقية مدن الشام تسقط تباعًا في يده متجهًا صوب مصر.
توصيف دخول العثمانيين البلاد العربية، بالغزو أو الفتح، يمثل أيديولوجيا بحتة
في مصر أنزل السلطان سليم الهزيمة بالسلطان المملوكي الجديد طومان باي عند الريدانية بصحراء العباسية في 23 من يناير/كانون الثاني1517، ودخل العثمانيون القاهرة، وخطب السلطان سليم في مساجدها، وبعد دخول القاهرة أبدى طومان باي ومن التف حوله من المماليك والعرب وأفراد الشعب مقاومة للعثمانيين سواء في القاهرة ذاتها أم في الصعيد، ومع ذلك كان النصر في النهاية حليف العثمانيين وقبض على طومان باى.
وكان سليم معجبًا به وبشجاعته لدرجة أنه فكر في الإبقاء على حياته لولا أن خاير بك وجان بردي الغزالي أثارا مخاوفه من احتمال قيام طومان باي بثورة في مصر تؤدي إلى طرد العثمانيين؛ فأعدم شنقًا على باب زويلة في 23 من أبريل/نيسان 1517، وبذلك أصبحت الشام ومصر من الممتلكات العثمانية وعين سليم جان بردي الغزالي واليًا على الشام وخاير بك واليًا على مصر فكان ثاني والي من العثمانيين، إذ تولى قبله ولفترة قصيرة يونس باشا العثماني، انظر: د. علي الصلابي، تاريخ الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط ، د. إسماعيل أحمد ياغي، الدولة العثمانية في التاريخ الإسلامي، العبيكان للنشر والتوزيع”.
العثمانيون وقضية الشرق.. غزاة أم فاتحون؟
توصيف دخول العثمانيين البلاد العربية، بالغزو أو الفتح، يمثل أيديولوجيا بحتة، فالمحبون للدولة العثمانية يطلقون على ذلك لقب فتح، بينما كارهوها يصفونه بالغزو، رغم أن كلمة غازٍ في اللغة العثمانية لقب فخم، فلا توجد مشكلة بين غزو وفتح، لكن التوصيف يخضع للتوظيف السياسي.
والفرق بين الغزو والفتح أن الغزو يستعمل في حين هجوم دولة غير مسلمة أو معتدية على دولة إسلامية بغير رضى أهلها كالغزو المغولي (التتري) والغزو الفاطمي (العبيدي) والغزو الصليبي، أما بالنسبة للفتح فهو تحرير الشعوب المقهورة من حكم غير المسلم أو الظلمة ونشر العدل فيها.
لكي تكون مؤرخًا منصفًا قس الأحداث والمسميات على عصرها وزمنها وأحداثها، لا بعصرك الذي تعيشه، وهواك وسياستك وفكرك الذي تتبعه
فالحقبة العثمانية يجب أن تظل محل الدراسات التاريخية، وألا ينتقل تأثيرها للحاضر، فالخلافة العثمانية سقطت وعودتها من المحال، فالماضي لا يعود، مضيفًا: “بينما العالم يتجاوز حروبه وخلافاته مثلما حدث بين ألمانيا وفرنسا، فإن العرب ما زالوا يعيشون في كهف التاريخ”.
لكل سياسة في الكون إيجابيات وسلبيات، وكل دولة لها ما لها وعليها ما عليها، فالدولة العثمانية دولة ولها سياسة، وبالتالي، لها أوقات ضعف وأوقات قوة، لها صلاح وفي بعض الجوانب تقصير وفساد، ولكن في مجمل الأحداث والمسيرة، قدمت الدولة العثمانية الكثير للإسلام من فتوحات ونشر وإعلاء لكلمة الله وحاربت الغرب ودافعت عن الشرق والمقدسات من عداء الغرب للشرق بعد التهديد المباشر من البرتغال لقطع طرق الحج في البحر الأحمر عن الحجاح المسلمين، فكانت حائط صد منيع وخط فاصل بين الغرب وهجماته ضد الشرق والسيطرة عليه. فلكي تكون مؤرخًا منصفًا قس الأحداث والمسميات على عصرها وزمنها وأحداثها، لا بعصرك الذي تعيشه، وهواك وسياستك وفكرك الذي تتبعه.
قدم العثمانيون إلى مصر بسبب خلافات سياسية مع دولة المماليك، ومن ذلك مظاهرة سلاطينها للدولة الصفوية أيام حربها مع العثمانيين، وكان هذا السبب المباشر لاصطدام الدولة العثمانية مع سلطنة المماليك في مصر والشام
فكان في ذلك الوقت هناك صراع قوى عالمية وتوسع غربي تجاه الشرق للاستيلاء على خيراته، والبقاء والسيطرة لقوى، فمنح الله سببًا ليحميه، فأرسل الخلافة العثمانية بما لها وبما عليها لتكون حائط صد منيع ضد هذا العداء، وتكون الصخرة التي تحطمت عليها أحلام الغرب في السيطرة على الشرق وثرواته ومقدساته، فهذه حقيقة لا ينكرها مؤيد أو رافض، لها تقصير أوافقك، ولكن لها الأفضال الكثيرة، وظلت مصر مؤمنة بوحدة العالم الإسلامي حتى بداية القرن العشرين، وذلك يتضح في موقف مصطفى كامل ورفضه الانفصال عن الخلافة العثمانية.
وبالنسبة للسلطنة العثمانية، فقد أتوا إلى مصر والشام بناءً على طلب العلماء والصلحاء من أهلها لأن حكامها المماليك ظاهروا النصارى على المسلمين وخانوا العهود مع السلطنة العثمانية وحاولوا إسقاطها بل وظلموا الشعوب وأخذوا مالهم وسيطروا على خلافة الخليفة وكانوا سببًا مباشرًا لعدم نصرة العثمانيين لمسلمي الأندلس وانشغال المماليك بالقتال فيما بينهم والصراع على السلطة.
إنما قدم العثمانيون إلى مصر بسبب خلافات سياسية مع دولة المماليك، ومن ذلك مظاهرة سلاطينها للدولة الصفوية أيام حربها مع العثمانيين، وكان هذا السبب المباشر لاصطدام الدولة العثمانية مع سلطنة المماليك في مصر والشام.
قال عبد الله بن رضوان في كتابه “تاريخ مصر” (مخطوط رقم 4971 بمكتبة بايزيد في أسطنبول): “علماء مصر – وهم نبض الشعب المصري وممثلوه – يلتقون سرًّا بكل سفير عثماني يأتي إلى مصر، ويقصون عليه شكواهم من جور الغوري ويقولون له بأن الغوري يخالف الشرع الشريف، ويستنهضون عدالة السلطان العثماني لكي يأتي ويأخذ مصر”.
وقال يانسكي في كتابه عن السلطان سليم الأول: “علماء مصر كانوا يراسلون السلطان سليم الأول منذ بداية توليه عرش بلاده، لكي يقدم إلى مصر على رأس جيشه، ليستولى عليها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك)”.
أما عن الجانب الشامي من المشرق العربي، فإننا نرى ترحيب الشعب السوري هناك بمقدم العثمانيين، قبل قدومهم الفعلي، وعلى سبيل المثال، كان الغوري قد تحرك من مصر – بجيوشه – إلى الشام لملاقاة العثمانيين، وعند دخوله إلى حلب، فوجئ الغوري وجيوشه بأن الأهالي هناك لقنوا أطفالهم صيحة: (ينصرك الله العظيم يا سلطان سليم).
تصطبغ فترة طويلة من تاريخ المنطقة العربية بصبغة أيديولوجية، في إطار صراعات بين التيارات الفكرية والسياسية التي ما فتئت تترك الحاضر والمستقبل لتنقب في الماضي باحثةً عن ساحات للخلاف والصراع
الفتح العثماني لمصر والشام كان بناءً على طلب العلماء والوجهاء والأعيان في البلدين، وهذا بسبب مظالم المماليك وانحرافهم الواضح عن شرع الله تعالى، بينما كان من المعروف عن العثمانيين أنهم حاملو رسالة الجهاد ضد الكفار في أوروبا، ومعروفٌ عنهم تعظيمهم للشرع ولأهله، ولم يخرج السلطان العثماني لفتح مصر والشام إلا بعد أن ألحت عليه رسائل علماء مصر والشام، وبعد أن استفتى علماء بلده في هذا الفتح.
فضلاً عما بدا للعثمانيين من تقصير دولة المماليك في حماية البحر الأحمر واليمن من أساطيل البرتغاليين وغاراتهم، وغيرها من العوامل التي جعلت إسقاط دولة المماليك أمرًا محتومًا بالمعايير الشرعية قبل الدنيوية، ويتضح ذلك هزيمة الأسطول المملوكي رغم مساندة العثمانيين لهم في معركة ديو البحرية عام 1509، على سواحل الهند، فكان أمرًا ينذر بسقوط الشرق في يد الغرب إذ لم يكن هناك دولة قوية تحمي المقدسات والشرق من تلك الهجمات المتكررة من الغرب نحو الشرق.
هل كان دخول العثمانيين بلاد العرب منذ 500 عام غزوًا أم فتحًا؟ وهل الحقبة التي استمرت فيها معظم البلدان العربية تحت الحكم العثماني (أربعة قرون) احتلال أجنبي أم وحدة تحت راية دولة الخلافة؟ وهل كان العثمانيون سببًا في تخلف العرب أم أسهموا في نهضة وعمران المدن العربية؟
هذه الأسئلة وغيرها عن الحقبة العثمانية في بلاد العرب ليست بالجديدة، لكن الجدل بشأنها ما إن يخمد حتى يتجدد منتقلًا من ساحة التاريخ إلى ساحات الدين والسياسة.
تصطبغ فترة طويلة من تاريخ المنطقة العربية بصبغة أيديولوجية، في إطار صراعات بين التيارات الفكرية والسياسية التي ما فتئت تترك الحاضر والمستقبل لتنقب في الماضي باحثةً عن ساحات للخلاف والصراع، وكأن خلافات وصراعات الحاضر لا تكفيها.
كان للبلاد العربية وقتها حضارتها، فترك العثمانيون الناس على ما هم عليه واكتفوا بالولاء، من خلال تعيين ولاة عثمانيين لا يبقون في الحكم طويلًا ويعينون لمدة ثلاث سنوات مخافة أن يستقلوا عن الدولة المركزية التي وأدت أي محاولة للتمرد عليها.
دولة عاشت أكثر من 600 سنة لا بدّ أن يكون لديها إيجابيات وسلبيات
العثمانيون حكموا المنطقة العربية أربعة قرون، فيها سنوات نهضة وسنوات فشل، واختزال مصطلح “عثماني” في العرق التركي خطأ جسيم، فالذي شارك في الدولة العثمانية أجناس متعددة ولغات مختلفة بما فيها العرب الذين شاركوا في الحضارة والسياسة في تلك الفترة.
إن “شيطنة الدولة العثمانية أو إضفاء المسحات الملائكية عليها، موقف نابع من التوجهات الفكرية لأصحابه، فالمادحون ينظرون إليها كونها آخر دول الخلافة ورمز الوحدة الإسلامية، بينما الذامون ينظرون إليها كرمز لتخلف الإسلاميين”.
دولة عاشت أكثر من 600 سنة لا بدّ أن يكون لديها إيجابيات وسلبيات، ودولة منحها الله هذا العمر المديد فلا شك أن خيرها غالب على شرها، ونستحضر هنا ذلك الدعاء الذي كانت تدعو به بعض المجموعات المسيحية في كنائسها في بلغاريا ووجده أيضا أحد أصدقائنا الباحثين في أمريكا في دفتر أصلي تابع لإحدى الكنائس، ويقول الدعاء: “اللهم اجعنا ممن تدخلهم في حماية العثمانيين فينعمون بدينهم في أمن وأمان”.
هل رحّب العرب بالحكم العثماني؟ هل قاوموه؟ كيف نظروا إليه؟ هل أبغضوه؟ هل أحبوه؟ كيف كانت رؤية العرب للعثمانيين.. غزاة أم فاتحين أم منقذين أم مستعمرين؟ هل كانت الرؤية العربية لهم مثل رؤيتهم للفرنسيين عندما دخلوا مصر أم للفاطميين عندما حكموا البلاد المصرية أم للصليبيين وقت أن أسسوا كيانًا في بلاد الشام، قام وانتهى؟ أهي مختلفة عن هذا وذاك؟