في الـ16 من سبتمبر 2011 وبعد أشهر قليلة من الثورة الليبية كتبت الصحفية الأمريكية “آن برنارد” مقالاً لها بصحيفة “نيويورك تايمز” تحت عنوان “رجل الرب والتكنولوجيا، يحاول إصلاح ليبيا”، سعت من خلاله إلى تسليط الضوء على شخصية ليبية جديدة ذاع صيتها بعد أيام قليلة من الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، تدعى “عارف علي النايض”.
أبهر النايض الصحفية الأمريكية بحديثه اللبق والمنمق عن مفهوم السماحة في الإسلام، وإمكانية تعايش المسلمين في ظل دولة ليبرالية علمانية، وهو ما كان وراء تصدره للعديد من مانشيتات وعناوين الموضوعات التي كتبتها “آن” خاصة بعد تأكيده عدم اهتمامه بالمناصب السياسية، ورغبته بالعودة للتدريس ودعم المشاريع التنموية بليبيا.
ومع تتابع الأحداث بعد 2011 يبدو أن وعود النايض بالعزوف عن عالم السياسة كما حدّث الصحفية الأمريكية لم تصمد طويلًا، فقد عيّنته أول حكومة بعد الثورة سفيرًا لدى دولة الإمارات، وعلى ما يبدو أن أبوظبي ارتأت له دورًا أكثر مما أراد هو، وهو ما كشفت الأيام الأخيرة النقاب عنه.
بالأمس أعلن سفير طرابلس السابق لدى أبو ظبي خلال حوار له مع صحيفة “اليوم السابع” المصرية عزمه الترشح لخوض أول انتخابات رئاسية أعلن المبعوث الأممي في ليبيا إجراؤها خلال العام الحاليّ، ليصبح الاسم الأول الذي أعلن ترشحه لهذا المضمار الذي ينتظره الكثير من الليبيين.
النايض.. من الفكر إلى السياسة
ولد النايض في بنغازي عام 1962، حصل على درجة البكالوريوس في الهندسة (الصناعية ثم البيولوجية) من جامعة جويلف في كندا، وفيها زاد اهتمامه بالفلسفة والعلوم، وبقي هناك لإكمال درجة الماجستير في فلسفة العلوم الطبيعية، ثم درجة الدكتوراة في الفلسفة، متخصصًا في علم التأويل (الهرمنيوطيقا)، كما قام بالدراسات العليا الموازية في الفلسفة الإسلامية وعلم التوحيد في جامعة تورونتو، ثم جامعة جريجوريانا في روما التي درس فيها فلسفة الأديان وعلم اللاهوت المسيحي.
النايض خلال إلقائه لأحد دروسه في مدينة زليتن بليبيا عام 2012
بجانب عمله الأكاديمي كأستاذ متخصص في العقائد ومقارنة الأديان، فإن النايض يترأس شركة لتكنولوجيا المعلومات، وبعد اندلاع ثورة 17 من فبراير انضم إلى الثوار، فعمل كمنسق لمجموعة الاستقرار الليبية، كما تم تعيينه من المجلس الوطني الانتقالي سفيرًا لليبيا في دولة الإمارات.
رغم أوراق الاعتماد التي قدمها سفير طرابلس السابق لدى الإمارات لكل من القاهرة وأبو ظبي، فإن ذلك لا يعني أن الطريق بات ممهدًا أمامه، خاصة مع وجود شخص مثل خليفة حفتر
مثلت الثورة الليبية لحظة فارقة في مشوار النايض، حيث كانت نقطة الشرارة الأولى لتحوله إلى الجهود السياسية والدبلوماسية، مشاركًا في التظاهرات التي خرجت ضد القذافي، والداعمة للثوار، إلا أن انقلابه فيما بعد على مبادئ الثورة وعداءه الواضح لكل فصائلها على حساب قربه الشديد من الأطياف التي تمثل الثورة المضادة كان علامة استفهام كبيرة لدى الكثير من المراقبين.
المتابع للسيرة الذاتية للنايض يكتشف أن مشاركته في التظاهرات ضد القذافي كانت بطابع انتقامي شخصي في المقام الأول وليست إيمانًا بمبادئ الثورة كما كان يروج البعض، ففي 1978 وضعت حكومة القذافي يدها على شركة الإنشاءات التي كان يملكها والده “علي النايض”، وهو ما عزز من كراهيته لهذا النظام الذي خرج ضده في الـ17 من فبراير 2011، لكن سرعان ما ارتمى في أحضان القوى المناهضة للثورة بعد ذلك على رأسها الإمارات.
النايض وملك الأردن
عقل الإمارات الليبي
فتحت أبو ظبي الباب أمام النايض على مصراعيه، وسعت إلى إعداده بشكل موسع، عبر تفعيل نشاطاته الفكرية والسياسية والثقافية، وتمويل تأسيسه لمركز ليبيا للدراسات المتقدمة عام 2012، ومركز كلام للبحوث والإعلام عام 2013 بمقريّه في دبي وطرابلس.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فبعد خمس سنوات تقريبًا على الثورة الليبية، بات النايض الضيف الأكثر حضورًا على موائد النقاش داخل الإمارات وخارجها، فقد استضافه القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، في اجتماع بالعاصمة الأردنية عمّان في يونيو عام 2016 مع عدد من الشخصيات الإعلامية الليبية لتنسيق حملة إعلامية ضد حكومة الوفاق في طرابلس، ثم استضافه في مارس 2017 عضو الكونغرس الجمهوري المتطرف ستيف كينغ في اجتماع خاص، وأشار له في تغريدة على موقع تويتر، ملمّحًا لاحتمالية رئاسته مستقبلًا لحكومة ليبيا، وقائلًا بأن “ليبيا تحتاج إليه”.
واليوم يقيم عارف النايض في مقره بالعاصمة الإماراتية أبوظبي، كسفير ليبيا رسميًا – قبل أن يتقدم باستقالته مؤخرًا التي يرجعها البعض إلى عزمه الترشح للانتخابات الرئاسية -، والوسيط الأهم لتحالف قوات خليفة حفتر ومجلس النواب في طبرق فعليًا، محاولًا – عبر نفوذ وأموال الإمارات – ترجيح كفة الجنرال الليبي في مواجهة قوات مصراتة والإسلاميين – أو “الفاشيين” كما يسمّيهم – رغم تحالفه معهم واحتضانه لهم خلال الأيام الأولى لانطلاق الثورة.
لم يكن النايض الوسيط الوحيد الذي اشترته الإمارات، حتى وإن كان الأهم، فقد نجح أبناء زايد – عبر أموالهم – في شراء الكثير من الأصوات داخل ليبيا، على رأسهم اللواء المتقاعد خليفة حفتر، كذلك عدد من الدبلوماسيين الدوليين، في مقدمتهم برناردينو ليون، مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا سابقًا، (المضطلع بمهمة إحداث التوافق بين طرفي الصراع الليبي، حكومة الوفاق في طرابلس بقيادة فايز السراج مدعومة بقوات مصراتة، ومجلس النواب في طبرق مدعومًا بقوات خليفة حفتر، ليصبح مبعوثها ورئيس مهمتها الخاصة في ليبيا بالفعل بدءًا من أغسطس 2014 وحتى نوفمبر 2015)، الذي قال في رسالة مسربة لوزير الخارجية الإماراتي: “سأكون في العون بالسيطرة على المفاوضات طوال وجودي هنا، لكنني لا أنوي البقاء طويلًا كما تعرفون، ويُنظر لي كشخص منحاز لمجلس النواب في طبرق، لذا فقد نصحت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي بالعمل معكم”.
جمال سلطان: ستيف كنج عضو الكونغرس المعادي للإسلام (إسلاموفوبيا) يروج لليبي عارف النايض شريك علي الجفري في مؤسسة طابة الإمارات ويقول إنه مستقبل ليبيا
تقديم أورق الاعتماد
سعى النايض إلى تقديم أوراق اعتماده مبكرًا لمنصب الرئيس، سواء لحاضنته الإمارات أو للحليفة مصر، وذلك بعد أن فتح النار – كالعادة – على جماعة الإخوان المسلمين واصفًا إياها بـ”الخوارج” وتأثرها بالفكر الفاشي الإيطالي، مشيرًا أن الجماعة ليس لها حاضنة شعبية في ليبيا، لذا عندما تجرى انتخابات نزيهة في البلاد لن يحظى الإخوان بأي أعداد تذكر، وأعتقد أن التهويل من أهميتهم غير مطلوب، وذلك خلال حواره للصحيفة المصرية.
كما امتدح تدخل الجيش المصري في الشأن الليبي، والدعم الفني واللوجستي الذي تقدمه القوات المسلحة المصرية للجيش الليبي، وهو ما فسره البعض بمغازلة صريحة من النايض لنظام السيسي الذي يحيا حالة من التقارب مع اللواء حفتر لم تشهدها العلاقات المصرية الليبية منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
ألمح سفير ليبيا السابق لدى الإمارات عن دعم أبناء زايد لجيش وشرطة بلاده، غير أنه ارتأى ألا يفصح عن تفاصيله لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي، حيث قال في حواره: “خلال فترة عملي كسفير في الإمارات لم أقصر في دعم الجيش والشرطة في أصعب الظروف، وخلال فترة رئاسة عبد الله الثني تم تعييني مستشارًا للأمن القومي لرئيس الوزراء، وأنجزت مهمتي بالشكل المطلوب، ورئيس البرلمان ورئيس الوزراء مطلعان على كل ما قمت به لدعم الجيش والشرطة، كل شيء موثق، ولن أخوض في تفاصيله حتى ترفع عنه طبيعة السرية، حفظًا للأمن القومي الليبي”.
الترابط القوي بين أبو ظبي وطرابلس دفع بعض الناشطين الليبيين المعارضين إلى السخرية خاصة بعد إعلان النايض الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، حيث علق عضو المؤتمر الوطني السابق عبد الرحمن الشاطر، قائلاً إن الإمارات تسيطر على 70% من الإعلام الموجه لبلاده، وطائراتها تقصف المدن الليبية، فيما أشار آخر بقوله: “المفروض أن نسجل ليبيا باسم الإمارات ونرتاح”!
احتضان أبو ظبي للنايض كان تأهيلاً لدور أكبر من مجرد سفير بلاده لديها
هل ينجح؟
جهود حثيثة تقوم بها أبو ظبي وبعض حلفائها للتسويق للنايض غير أن ذلك لا يعني أنه الوحيد، إذ إن السياسة الحديثة التي يعتمد عليها أبناء زايد في تعاملهم مع الملف الليبي على وجه الخصوص تعتمد على توفير عدة بدائل وإستراتيجيات متعددة تسمح لها بإحكام قبضتها على السيناريوهات المتوقعة كافة.
الكاتب الصحفي جمال سلطان رئيس تحرير صحيفة “المصريون”، أشار أكثر من مرة إلى وجود محاولات أمريكية إماراتية لتسويق “عارف النايض”، باعتباره “مستقبل ليبيا”، لافتًا إلى أن عملية التسويق تلك يقوم بها “ستيف كنج” عضو الكونغرس الأمريكي المعادي للإسلام.
ستيف كنج عضو الكونجرس المعادي للاسلام (اسلاموفوبيا)يروج لليبي عارف النايض شريك علي الجفري في مؤسسة طابة #الإمارات ويقول أنه مستقبل #ليبيا ؟! https://t.co/dZ1bH78QhA
— جمال سلطان (@GamalSultan1) March 12, 2017
سلطان في تغريدة له على “تويتر” مارس الماضي، كتب يقول :”ستيف كنج عضو الكونغرس المعادي للإسلام (إسلاموفوبيا) يروج لليبي عارف النايض شريك علي الجفري في مؤسسة طابة الإمارات ويقول إنه مستقبل ليبيا؟!”.
رغم أوراق الاعتماد التي قدمها سفير طرابلس السابق لدى الإمارات لكل من القاهرة وأبو ظبي، فإن ذلك لا يعني أن الطريق بات ممهدًا أمامه، خاصة مع وجود شخص مثل خليفة حفتر، فمن غير المتوقع لهذا الجنرال الممتطي جواد التهور وفقدان التوازن، والحالم بخلافة القذافي على كرسي الحكم، أن يترك شخصًا آخر، قادمًا من أوساط الفكر والدبلوماسية، ينافسه على ما يعتبر أنه حقه الذي حازه بقوة السلاح.