كشفت البرديات المصرية ورسوم المعابد وتحليلات المومياوات الإمكانات الاقتصادية والخيرات الطبيعية والعادات الغذائية التي اتسمت بها الثقافة المصرية القديمة وأوضحت التأثيرات المختلفة لبعض البلدان الأخرى والحضارات مثل الإغريق والرومان على عاداتها المطبخية، وذلك، عبر اقتباس طرق الطهي أو استيراد بعض المواد الغذائية منها، كما سلطت الضوء على التقنيات الزراعية التي جعلت مصر مصدرًا آمنًا للغذاء في تلك الفترة.
يشرح كتاب “الطبخ في الحضارات القديمة” في الفصل الثاني، مطبخ مصر القديمة، ويعرفنا تاريخ الطعام المصري الممتد لثلاثة آلاف سنة منذ بداية هيمنة الفرس على العرش وحتى مجيء الإغريق والرومان الذين اعتقدوا أن لا شيء يضاهي أهمية دور نهر النيل اقتصاديًا.
تحديات الزراعة المصرية القديمة
استفاد مصريو العصر الحجري الحديث من البحيرات والواحات التي كانت توجد في صحاري مصر الكبرى، وذلك لغنى محصولها النباتي، حيث كانت تجذب الحيوانات إليها، وهذا يعني نصيبًا أوفر من الغذاء ومخزونًا أكبر، وكان تفاوت كميات الأمطار المتساقطة يؤثر على مستوى مياه نهر النيل وبالتالي تتأثر الجماعات الموجودة حول هذا الكنز المائي، ولتحقيق الحضارة كان على المصريين القدماء الاستقرار وتأمين غذائهم والسيطرة على مياه النيل من الفيضانات التي تدمر البساتين وتقتل المحاصيل.
كان العمال يحملون الماء في دلوين معلقين إلى قضيب متوازن على الكتفين، مما جعل الحدائق ترفًا حقيقًا وتحديًا يوميًا صعبًا
للتخلص من مشكلة الشح الغذائي، توجه المصريون إلى البساتين وحدائق الظل والكروم، فكان التحدي التقني الأكبر للزراعة المصرية يتمثل في كيفية رفع المياه إلى تلك الحدائق، فكان العمال يحملون الماء في دلوين معلقين إلى قضيب متوازن على الكتفين، مما جعل الحدائق ترفًا حقيقًا وتحديًا يوميًا صعبًا، وفي السنوات اللاحقة، استجلب “الشادوف” من بلاد الرافدين، وهو وسيلة لرفع المياه واستعمل لمدة ألف سنة، حتى قدم المحاربون مع فارس في مصر وجلبوا الساقية وهي عجلة المياه التي تحركها الحيوانات لسقي الحقول.
وبعد ذلك، قدم الإغريق تقنية جديدة باسم “لولب أرخميدس” وهو قضيب مسطح داخل برميل يرفع كميات مياه أكثر مما يرفع الشادوف، وهذه الآليات المختلفة جعلت الزراعة التجارية أمرًا واردًا وحولت مصر إلى مصدر للأطعمة إلى اليونان وروما.
العادات الغذائية العامة عند المصريين القدامى
كانت الحنطة والشعير من الحبوب الأساسية في مصر، وزدات أهميتها في الحقبة الإغريقية – الرومانية، إذ شكلت من هذه الحبوب الوجبة الرئيسية للإنسان المصري القديم التي كانت تشمل الخبز والجعة، مع فروقات أخرى كبيرة بين الطبقات الاجتماعية.
وكما هو الحال في بلاد الرافدين، نظر إلى السمك على أنه محرم، خاصة بالنسبة إلى الكهنة ورجال الدين الذين اعتبروه انتهاكًا للطهارة القدسية، لكن هذا التحريم لم يشمل غالبية المصريين، فلقد وجدت التنقيبات بعض آثار من السمك الذي اصطيد من مياه نهر النيل العذبة.
أما بالنسبة إلى الخضراوات، اعتمدوا بشكل كبير على الملوخية التي وصلتهم من سوريا، والفجل واللفت والخس والقرع، إضافة إلى البقوليات مثل العدس الذي يعد من أقدم الأغذية في مصر، وغيره مثل الفول والحمص، بينما اقتصرت الفواكه على التين والأعناب والرمان وبعض الفواكه الأخرى الشبيهة بالكرز والخوخ التي كانت تصنع منها خمور باهظة الثمن.
أظهرت الحفريات أن الخنزير كان جزءًا مهمًا من غذاء المصري القديم وكان منتشرًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، لكن اختلفت مكانته تدريجيًا في أزمنة المملكة الجديدة حيث صار لحم الخنزير يعتبر طعام الطبقات الدنيا
وعند الحديث عن اللحوم، لا بد من ذكر أن النيل وفر مراعٍ كبيرة لتربية المواشي والأغنام والماعز، إذ كان المجتمع المصري القديم يفضل الحيوانات الدهنية الدسمة، لذلك كانت الماشية والبط والإوز تعلف قسرًا باليد حتى تتشكل طبقة كثيفة من الشحوم وتتضخم أكبادها حتى ينهار الحيوان تحت ثقله قبل أن يذبح ويطهى ويقدم على الموائد، وهذا ما بينته صور المقابر القديمة.
وفيما يخص لحوم الخنزير، اعتقد العلماء والباحثون لسنوات طويلة أن لحوم الخنزير كانت محرمة وغير طاهرة في ذاك الوقت، لكن أظهرت الحفريات وآثار المعابد أن الخنزير كان جزءًا مهمًا من غذاء المصري القديم وكان منتشرًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، لكن اختلفت مكانته تدريجيًا في أزمنة المملكة الجديدة حيث صار لحم الخنزير يعتبر طعام الطبقات الدنيا وهذا ما أثبتته التنقيبات في قرى العمال الذين كانوا يعملون لدى الملوك.
وأخيرًا الكماليات، لم يقتصر استخدام العسل والتمور للتحلية على شعب بلاد الرافدين، بل استخدمه المصريون القدامى أيضًا، إلا أن العسل كان باهظ الثمن جدًا فصار استخدامه مقتصرًا على النخب، وفيما يتعلق بالمنكهات فعرفوا الكزبرة والنعناع والسماق والكمون والزعتر، أما البهارات مثل الفلفل الأسود كانت تستورد وتستخدم فقط في الأمور الطبية وفي مجال التحنيط لندرتها وتكلفتها العالية.
أما الأعشاب فاستعملت كمبيدات حشرية وكجزء من طقوس دفن النخب، حيث وجدت في قبر توت عنخ آمون، واختتامًا للعادات الغذائية، استعملوا زيت السمسم وفضلوا الزيوت الحيوانية على النباتية مثل الكتان والزيتون الذي تم استيراده من بلاد الشام في البداية.
كيف أثرت الفجوات الاجتماعية على المطبخ المصري القديم؟
كانت النخب المصرية تتناول ثلاث وجبات يوميًا ويتناولون أطعمة مستوردة، وكلما زادت موائدهم تنوعًا دل على ثرائهم ونفوذهم، وهذا بالعكس من العمال الذين كانوا يتناولون وجبتين في اليوم، ومثل الطبخ في بلاد الرافدين، فلقد اختلفت الأدوات المستخدمة بين الطبقات الاجتماعية، إذ استعملت الطبقات الرفيعة الأواني الفضية والذهبية والزجاجية، أما أهالي الطبقة الدنيا استعملوا الأواني الفخارية والمعدنية.
لطالما كان تنوع الطعام علامة ثراء ويصبح المصريون أُثرياءً بامتلاك الأراضي والنتاج التي تهبه الأرض له، ففي المماليك القديمة والمتوسطة الأولى والوسطى، فإن الفرعون من يمتلك جميع الأراضي رغم أنه كان يهدي بعض الإداريين والمعابد حرية استخدامها مما خلق فئة نخبوية صغيرة لكن ذات نفوذ وأملاك كثيرة.
بينت سجلات قديمة عن المدفوعات القديمة أن العائلات الراقية كانت تدفع لها مبالغ كبيرة جدًا وهذه المواد ملكًا للعوائل وجميع الخادمين والعاملين
لم توجد النقود في مصر حتى الحقبة الإغريقية الرومانية وكان الاقتصاد المصري مثله مثل بعض الحضارات الأخرى يعتمد على المنتجات الزراعية التي كانت الدولة تحرص على جمعها ثم توزيعها وفقًا للمكانة إلى العائلة الحاكمة أو الكهنة أو الجنود والعمال، وبينت سجلات قديمة عن المدفوعات القديمة أن العائلات الراقية كانت تدفع لها مبالغ كبيرة جدًا وهذه المواد ملكًا للعوائل وجميع الخادمين والعاملين، من ثم أصبحت الجماعات الدينية تشكل تنافسًا قويًا للعائلات الرفيعة في الثروة والملكية لمدة سنوات طويلة، فهي تمثل نحو 30% من المجتمع المصري، ولكن مع اختلاف الأزمنة، توسعت ملكية الأراضي للعائلات الأصغر لفئات مثل التجار والحرفيين المهرة.
كان استهلاك لحوم البقر مقتصرًا على الطبقات العليا والنخب وكانت توزع حصصًا منها للعامة في المناسبات والاحتفالات العامة، ومع اتساع امتيازات ملكية الأرض لبعض الطبقات الوسطى بقيت هذه اللحوم محافظة على مكانها في موائد الأثرياء، وذلك لصعوبة تربيتها وكثرة مصاريفها، هذا وتظهر الرسومات القديمة أن المصريين اعتادوا تحميص مفاصل كبيرة من لحوم البقر باستخدام الأسياخ الطويلة.
هذا، وكشفت تحليلات المومياء عن الطعام الذي اعتادت كل فئة من المجتمع المصري القديم تناوله، فأظهرت الأبحاث أن النخب كان طعامها أكثر تنوعًا وجودةً والعديد من أغذيتهم كانت مستوردة، وبينت أن البعض منهم كانوا يعانون من البدانة، وذلك بحسب الأمراض التي وجدت مثل الترسبات الدهنية على الشرايين والسكري، وبالمقابل وجدت الدودة الشريطية في مومياوات العمال والحرفيين، مما دل على أن لحم الخنزير كان منتشرًا بكثرة بين الطبقات العاملة والوسطى.
مطابخهم كانت مصممة بشكل محترف، حيث بنيت على السطوح بغية التخلص من الروائح والدخان والحرارة، التي كان فيها أفران للخبز أشبه بالتنور الذي يشتعل بالفحم
قاست الديانة المصرية حياة الآلهة والموتى بحياة الأحياء، لذلك فإنه من المرجح أن الأطعمة المدفونة مع الموتى كانت ضمن قائمة طعامهم في الحياة، وتحليل بقاياها داخل القبور كشف مهارة المصريين القدامى في خبز الخبز وتخمير الجعة، وأكدت الأدلة التاريخية أن مطابخهم كانت مصممة بشكل محترف، حيث بنيت على السطوح بغية التخلص من الروائح والدخان والحرارة التي كان فيها أفران للخبز أشبه بالتنور الذي يشتعل بالفحم أو السماد المجفف، وجرار الماء والأجران والسلال والفخار ومواقد، أما مطابخ الأثرياء فوجد فيها أفران بأعداد كبيرة وأدوات أكثر، ومساحاتها أيضًا ضعف مطابخ الطبقات المتوسطة خاصة أن بعض هذه الفئات كانت مسؤولة عن إعداد الطعام لأعداد غفيرة.
ما زالت الثقافة المصرية الحاليّة تحتوي بعض الأطباق التي كانت تؤكل منذ آلاف السنين وهذا بعد محاولات لا حصر لها من التكيف مع تقلبات المناخ وسياسات الأنظمة الحاكمة والتحديات الاقتصادية.