معتمدون على قانون الاصطفاء الطبيعي الذي حاول تشارلز داروين من خلاله تفسير تطور بعض الأنواع الحية وقدرتها على التكيف والنجاة، عمد الداروينيون الاجتماعيون وأهمهم هربرت سبينسر ووالتر باغهوت وويليام سومنر إلى تفسير تفوق نخب من الجنس البشري مقابل تخلف الآخرين مستخدمين القانون ذاته.
ينصّ قانون الاصطفاء الطبيعي “Natural Selection” على أن الطبيعة تقوم بانتقاء الأنواع القوية من النباتات والحيوانات للنجاة والاستمرار بينما تذهب الأنواع الأضعف نحو الاندثار أو الانقراض، علمًا أن القوة عند داروين تقاس بقدرة الكائنات على التكيف والتطور ضمن الظروف البيئية، حيث يكون البقاء للأكثر ملاءمة “survival of the fittest”، وبناء عليه فإن الإنسان هو المرحلة الأكثر تطورًا من القردة التي استطاعت أن تتكيف بشكل كبير مع مرور الزمن لتكون المجتمعات التي نعرفها.
وهكذا أكمل سبينسر مسيرة داروين معتبرًا أن بعض المجتمعات البشرية قد استطاعت بالفعل أن تتكيف وتتطور اقتصاديًا وعلميًا مقارنة بالمجتمعات الأخرى التي بقيت متخلفة، ولهذا السبب فإن استعباد الأفراد المنتمين للمجتمعات المتخلفة من الأفراد المنتمين للمجتمعات المتطورة هو أمر مباح، بل وقانون طبيعي لا تجوز مخالفته، كما أن فناء المجتمعات المتخلفة هو أمر مبرر ولا مفر منه.
تمكننا هذه النظرية من فهم النظرة الأوروبية للشعوب الأخرى وخاصة الإفريقية والأمريكية الأصلية خلال حقبة سباق الاستعمار الأوروبي عقب اكتشاف القارة الأمريكية، كما يمكن اعتبار مفهوم الداروينية الاجتماعية الوجه القبيح لليبرالية الرأسمالية وهو الأمر الذي لطالما أشار إليه ماركس وأتباعه، كما يمكن أن نجد آثار الداروينية الاجتماعية في معظم المدارس النقدية في حقل العلوم الاجتماعية وبشكل خاص مدرسة ما بعد الاستعمار “postcolonialism” التي وضع أسسها إدوارد سعيد.
الداروينية الاجتماعية الوجه المتعفن لليبرالية الرأسمالية
جاءت الليبرالية كمنتج لما سُمّي بعصر التنوير عقب الثورة الفرنسية وترافق مع مفهوم العقلانية Rationalism أو الاعتماد على العقل لتفسير كل شيء، ومما لا شك فيه أن الليبرالية قد ساهمت ببناء المجتمعات الصناعية الحديثة، حيث أخذت حركة رؤوس الأموال تنتظم وتتنامى لتشكل طبقة صناعية أدت إلى تطور البشرية جمعاء.
سياسيًّا ركز الليبراليون على مفاهيم مثل الديمقراطية والتحرر، مع الإبقاء على افتراض مفاده أنّ الاقتصادات الحرة والتفاعل فيما بينها هو المحدد الأساسي لشكل النظام الدولي، حيث افترضوا أنّ الحركة الاقتصادية الحرة قادرة على أن تُكوّن شبكة من التعاملات المتداخلة التي تعود بالنفع على الدول كافة، ولهذا السبب فإن الدول لن تجد أي مصلحة لها في اندلاع الحرب.
ولم يكتف الليبراليون باعتبار الليبرالية الرأسمالية كشرط أساسي لإرساء التوازن الدولي، بل ذهبوا أبعد من ذلك وتبنوا نظرية آدم سميث اليد الخفية أو اقتصاد السوق الحر “laissez-faire”، حيث دعا سميث إلى تحرير الأسواق، معتبرًا أنه لا يوجد حاجة لتدخل الدولة في حركة الأسواق، لأن السوق يصحح نفسه تلقائيًا وهو ما سمي باليد الخفية التي تصحح الأمور وتكفل الاستقرار والتوازن.
الرأسماليين الغربيين بدأوا يرون أنفسهم كمخلوقات أكثر تقدمًا وهو ما دفعهم لاستعمار الشعوب الهندية والإفريقية وغيرها بحجة أن تلك الشعوب تنتمي للجنس الأدنى الذي لا يستطيع حكم ذاته
هنا تحديدًا يمكن إيجاد نقطة الارتباط بين الداروينية الاجتماعية والليبرالية الرأسمالية، فاليد الخفية هي التعبير المادي عن قانون الاصطفاء الطبيعي، ولفهم الأمر بشكل أبسط يكفي أن ننظر إلى الأسواق قي أيامنا الحاليّة، حيث نجد أن الأعمال الصغيرة والمتوسطة آخذة بالاضمحلال تدريجيًا لتأتي مكانها الشركات الكبرى التي تمتلك رأس مال أضخم ومقدرات مالية تساعدها على ابتلاع الأسواق، أما بالنسبة لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة فغالبًا ما يتحولون عبيدًا للشركات الكبرى (على شكل عمال أو مستهلكين أو ضحايا للاستحواذ غير العادل).
وهو الأمر الذي يمكن تعميمه على الدول، حيث إن كثرة الثروات المنهوبة من المستعمرات في أثناء سباق الاستعمار أدت لتراكم رأس المال عند الإمبراطوريات الأوروبية في وقتها، مما مكنها من السيطرة على أكثر من ثلثي المناطق المأهولة عالميًا، لتستمر في نهبها مراكمة بذلك القوة العسكرية والعلمية والبشرية.
الأمر الذي أدى لنشوء مفهوم العالم الغربي المتحضّر والشعوب الأخرى غير المتحضّرة، حيث إن الرأسماليين الغربيين بدأوا يرون أنفسهم كمخلوقات أكثر تقدمًا وهو ما دفعهم لاستعمار الشعوب الهندية والإفريقية وغيرها بحجة أن تلك الشعوب تنتمي للجنس الأدنى الذي لا يستطيع حكم ذاته.
الداروينية الاجتماعية والدولة القومية والأفكار العنصرية والتطرف الديني
بداية يتوجب أن نقر بحقيقة أن فكرة الهوية أو الانتماء لأي جماعة بشرية بما فيها الانتماء للدولة القومية تحمل في طياتها شيئًا من العنصرية، حيث إن كل جماعة تمتلك أساطيرًا وروايات تمجد فردًا أو مجموعةً من الأفراد المؤسسين لفكرتها وتعتبرهم أفضل من الآخرين.
لهذا فإن شعور الهوية المحددة بالانتماء تقوم في أساسها على فكرة التفوق على الجماعات الأخرى، وهو الأمر الذي أسهب أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة” في تفسيره، حيث يشير معلوف إلى تفاوت درجة العنصرية بين مجموعة وأخرى كما بين أفراد المجموعة الواحدة.
يتم اعتبار اتباع الديانة الإسلامية كمخلوقات لم تستطع التكيف والتطور مع الحداثة، وهو ما أشار إليه إدوارد سعيد الذي انتقد “النظرة الفوقية التي تمجد الرجل الأوروبي الأبيض الذي يعتبر نفسه أعلى من غيره فكريًا وحضاريًا
فإذا نظرنا للحركات القومية الأكثر راديكاليّة أو ما نطلق عليها القوميات الرومانسية مثل الحركة النازية أو الحركة الصهيونية نجد أن الداروينية الاجتماعية توجد بشكل ظاهر وصريح إما في أفكار الحركة أو في ممارسات أعضائها، فالصهيونية على سبيل المثال تقوم على فكرة أن بني إسرائيل هم شعب الله المختار ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم من الأمم، أما عن ممارسات النازيّة فلا يخفى على أحد إحراق هتلر لأصحاب الإعاقات الدائمة والمرضى لأنهم لم يستطيعوا التطور والتكيف مع البيئة؛ لهذا فتم اعتبارهم كملوثات للمجتمع الألماني المتفوق.
ولا تقتصر العنصرية الداروينية على النماذج القومية بل يمكن أن تشتمل على الاختلافات العرقية والدينية، فإذا ما نظرنا لواحد من أكثر المجتمعات ليبراليّة وهو الولايات المتحدة يمكننا أن نلحظ أن أصحاب البشرة السمراء ما زالوا يعانون من التمييز مع أن نظام العبودية قد أُلغي منذ العام 1865، كما يمكننا أن نميّز الإسلامفوبيا التي تستشري في كل من أوروبا والولايات المتحدة التي تؤدي إلى أفعال تمييزية ضد كل من يدين بالديانة الإسلامية.
حيث يتم اعتبار اتباع الديانة الإسلامية كمخلوقات لم تستطع التكيف والتطور مع الحداثة، وهو ما أشار إليه إدوارد سعيد الذي انتقد “النظرة الفوقية التي تمجد الرجل الأوروبي الأبيض الذي يعتبر نفسه أعلى من غيره فكريًا وحضاريًا.
كما يمكن أيضًا أن نعزو التطرف الديني الذي تنتهجه التنظيمات الجهاديّة العالمية إلى شيء مشابه للداروينية الاجتماعية، حيث يعمد هؤلاء إلى تفسير النصوص الدينية بطريقة تخدم أفكارهم التي يسوقون لها ويستخدمونها كمبررات لأفعالهم، التي تتمثل بكونهم الصفوة التي اختارها الله لتطهير الأرض من الكفر، وهو ما يبيح لهم أن يفعلوا أي شيء في سبيل هذه المهمة المقدسة.
الداروينية الاجتماعية في حقبة الاستعمار وما بعده
بما أن مفهوم الداروينية الاجتماعية يرتبط بشكل وثيق بالرأسمالية وصراع الطبقات الذي تحدث عنه كارل ماركس، فيمكننا أيضًا إسقاطه على الإمبريالية الاستعمارية، فكما سبق وأوردت في هذا المقال كانت الأفكار الداروينية الاجتماعية تسيطر على العقلية الأوروبية وتبرر الأفعال الاستعمارية، ومما لا شك فيه أن تلك الأفكار لا تزال تحكم العقلية ما بعد الاستعمارية التي تتمثل بالهيمنة الثقافية الغربية التي يطلق عليها إدوارد سعيد مصطلح الاستشراق ويفسره بقدرة الغرب على إعادة إنتاج الشرق ثقافيًا للدرجة التي يرى الشرق فيها نفسه بعيون غربية داروينية بحتة، حيث ينظر الغرب للشرق كشيء بدائي متوحش وبربري، وغير حضاري، وهو الأمر الذي يمنح الغرب نفسه بموجبه الحق للتدخل في شؤون الشرق والتحكم في موارده.
لا يمكننا أن نعتبر أن الداروينية الاجتماعية المحرك الرئيس للسياسة الأوروبية تجاه المناطق الأخرى، ولكن يمكن للنظرية أن تفسر لنا العديد من السياسات ما بعد الاستعمارية التي انتهجها الغرب ولا يزال ينتهجها تجاه الشرق
يمكن أن يفسر هذا الأمر إصرار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة (من أمثال بوش الابن وكونداليزا رايس) على نشر نموذجهم الديمقراطي حول العالم وخاصة في الشرق الأوسط، دون أي اعتبار لإدارة الشعوب لأنها تمثل الكائنات الأقل تطورًا وبالتالي لا تعرف ما الذي تحتاجه.
يمكن أيضًا أن يفسر حرص الدول الوريثة للإمبراطوريات القديمة مثل الجمهورية الفرنسية، على إبقاء الروابط الثقافية واللغوية التي تربطها بمستعمراتها القديمة (أكثرها في إفريقيا)، كون اللغات المحلية لغات لم تستطع أن تتطور وتتكيف لتواكب العصر، لهذا فلا بد أن يكون مصيرها الاندثار بسبب قانون الاصطفاء الطبيعي.
في النهاية يتوجب الإشارة إلى أن التيار الذي يتبنى الداروينية الاجتماعية في الغرب يمثل فئة من المجتمع، ومن المجحف أن يتم تعميمه، خاصةً في ظل سياسة أوروبية راغبة بإحداث التنمية في المناطق الأقل تطورًا، لهذا لا يمكننا أن نعتبر أن الداروينية الاجتماعية المحرك الرئيس للسياسة الأوروبية تجاه المناطق الأخرى، ولكن يمكن للنظرية أن تفسر لنا العديد من السياسات ما بعد الاستعمارية التي انتهجها الغرب ولا يزال ينتهجها تجاه الشرق.