لم يبدأ الطرح والتفسير العلمي للأحلام إلا في نهايات القرن التاسع عشر، إذ أخذ آنذاك منحىً جديدًا واسع الانتشار لا سيّما مع أطروحات كلٍّ من عالميْ النفس سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذيْن يُنظر إليهما باعتبارهما واضعيْ النظريات الحديثة الأكثر شهرةً في تفسير الأحلام.
ركّزت أطروحة فرويد على أنّ الأحلام تشكّل فسحة كبيرة لدوافع الفرد المكبوتة في لاوعيه نظرًا لانعدام الرقابة الاجتماعية عليها، وبالتالي يكون جوهر الحلم هو تلبية الرغبات اللاعقلانية تلبية خيالية، فيستطيع الفرد في حلمه التركيز على أتفه الأمور بينما الدوافع الأساسية تكون فيه ثانوية ومهمشة. أما يونغ فقد رأى من جهته أنّ الحلم يشكّل تعبيرًا عن حكمة اللاوعي، إذ أنّ الفكر اللاواعي قد يكون في بعض الأحيان قادرًا على الإعراب عن ذكاء وإرادة أرفع بكثير من طاقتنا الواعية والمعتمَدة في التعامل مع الأمور.
مال يونغ إلى عزو بعض الأحلام لكونها شكلًا من أشكال البصيرة أو الاتصال بعقول أخرى. وعلى العكس من فرويد ويونغ، اعتقد إريك فروم أنّنا نكون أكثر حكمة وأكثر قدرة على الإدراك أثناء نومنا وأحلامنا من الحالة التي نكون عليها خلال اليقظة أو الاستيقاظ.
يميل الدماغ البشريّ بطبيعته للبحث عن أنماط معيّنة يستقبل ويعالج فيها المعلومات من محيطه الخارجيّ ويبحث عن أيّة انتظامات وتسلسلات في الأحداث من حوله لربطها ببعضها البعض، ما قد يساعده على التنبؤ في حدوثها مستقبلًا
وعلى الرغم من اختلاف العلماء الثلاثة في تفسير الأحلام أو فهم قدرتها على التنبؤ، إلا أنّ ثمة اتفاقًا أساسيًا أنّ الأحلام لتعقيدها فليس من السهل تفسيرها أو البتّ في توقعها للمستقبل، حتى بالنسبة للحالِم نفسه أو الخبراء. ولذلك استحدث فرويد آلية “التداع الحر” كجزء من التحليل النفسي، التي تعتمد على ترك المجال للشخص للإفصاح عن الأفكار التي تتبادر لذهنه دون تدخل أو توجيه من قبل المستمع فور ورودها حيث يتم استخدامها في تحليل وضعه الراهن بمساعدة المحلّل النفسيّ فقط لا غير.
عدا عن ذلك، شغلت الأحلام في القرون السابقة حيّزًا أقرب ما يكون للرموز والأساطير، إضافةً لارتباطها بالعالم السماويّ أو الإلهيّ، ، فقد نظرت إليها الحضارات المبكرة مثل الإغريق والرومان على أنّها وسيلة تصل بين العالم الأرضيّ للبشر والعالم الغيبي للآلهة. كما لا يخلو كتابٌ مقدّس أو سماويّ من بضع روايات عن أحلام الأنبياء التي قد تتشابه كثيرًا في أكثر من كتاب وتختلف في بعض التفاصيل فقط.
ولعلّ أشهر الأحلام التي تشترك بروايتها الكتب المقدسة هي حلم يوسف المبنيّ على رؤية الشمس والقمر والنجوم له ساجدين، أو قدرته على التنبؤ بعدة أحلام أشهرها حلم فرعون بسنواتٍ عجاف بناءً على تأويل يوسف بعد سماعه معطيات ومدخلات الحلم التي انطوت جميعها على رموزٍ وإشارات، دون أن تحتوي أيًّا من صريح الكلام واللغة.
يميل الدماغ البشريّ بطبيعته للبحث عن أنماط معيّنة يستقبل ويعالج فيها المعلومات من محيطه الخارجيّ، فهو لا يتلقّى تلك المعلومات بشكلٍ خاملٍ أو عشوائيّ، وإنما يبحث عن أيّة انتظامات وتسلسلات في الأحداث من حوله لربطها ببعضها البعض، ما قد يساعده على التنبؤ في حدوثها مستقبلًا ويسهّل عليه التفاعل معها لاحقًا.
يكون الدماغ أكثر نشاطًا أثناء المرحلة المعروفة بمرحلة “حركة العين السريعة” خلال النوم، حيث تحدث الأحلام وتتكون، من أيّ فترةٍ أخرى خلال اليوم
وفي حين تكون بعض الأنماط حتميةً جدًا يسهل التنبؤ بحدوثها أو ما يشابهها في المستقبل، إلا أنّ التنبؤ بالسلوك البشريّ أو الأحداث الكونية بشكلٍ عام لا يخرج عن كونه مجرّد احتمالاتٍ بُنيت استنادًا إلى سلوكياتهم وتصرفاتهم السابقة ليس إلا، إذ قد تصبح على معرفةٍ بإمكانية قيامهم بسلوكيات معينة دون تيّقنك من ذلك، فسلوكيات الأفراد ليست عشوائيةً بتاتًا ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تحديدها أو الجزم بوقوعها، فالسلوك البشريّ يخضع لاحتماليات التغيير والمفاجئة في أية لحظة.
ولسنواتٍ عديدة، كان يُعتقد أنّ الدماغ يدخل في حالةٍ من الخمول أو قلة النشاط أثناء النوم، ولكن مع تطوّر الأجهزة المختصة بدراسة الدماغ وفحصه، تفاجأ العلماء والباحثون بأنّه يكون أكثر نشاطًا أثناء النوم من حالات اليقظة التامة. ولنكن دقيقين بشكلٍ أكبر؛ يكون الدماغ أكثر نشاطًا أثناء المرحلة المعروفة بمرحلة “حركة العين السريعة” حيث تحدث الأحلام وتتكون، من أيّ فترةٍ أخرى خلال اليوم.
ومن المعروف أنّ عملية النوم تحدث في عدة مراحل مختلفة يمر بها الدماغ والجسم عدة مرات خلال الليلة واحدة. وتتضمن الأولى انتقالاً من النوم السطحي والبطيء إلى النوم العميق، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة “حركة العين السريعة”، التي تمتاز بازدياد نشاط الدماغ على عدة مستويات الحسّ العصبي ووظائف الذاكرة من جهة، بينما يكون هناك نشاط متناقص في أماكن أخرى في الدماغ، مثل المنطقة المرتبطة بالتفكير المنطقي من جهةٍ أخرى. لذلك يرى الإنسان غالبًا رموزًا واضحة عبارة عن أحلام، ولكنها غريبة وغير مفهومة.
هنا تنقسم آراء الباحثين حول ما إذا كانت تلك الرموز والأحلام مجرد نشاطاتٍ عصبية عشوائية أثناء النوم قد تخدم قدرات الفرد المعرفية والإدراكية، أم أنها تنطوي على أسرار أعمق وقدرات تنبؤية لمستقبله وسيناريوهات حياته المحتملة قبل خوضها وحدوثها، تمامًا مثل الرؤى النبوية في الإسلام، التي يُنظر إليها بكونها جزءًا من الخصال النبوية أو من شعب الإيمان.
يعتقد البعض أنّنا وخلال مرحلة حركة العين السريعة نكون أكثر قدرةٍ على اكتشاف أنماط وارتباطات المعلومات في أدمغتنا الأقل وضوحًا والأكثر بُعدًا عن الوعي والتي بدورها قد تتنبأ بأحداث مُحتَملة وقابلة للحدوث. ففي دراسة أُجريت عام 1999 على سبيل المثال، توصّل الباحثون إلى أنّ ترابط الأنماط والعلاقات في ذاكرة الإنسان يتعرّض للتغيير أثناء الحلم. ويحدث ذلك نتيجة انتقال الدماغ من مرحلة “حركة العين السريعة” إلى مرحلة “النوم البطيء” حيث يكون الدماغ فيها أكثر يقظةً وأقلّ نشاطًا.
يقترح الباحثون أنّ الدماغ في مرحلة “حركة العين السريعة” أثناء النوم يعمل على استيعاب وفهم معلومات جديدة ترتبط بتجارب ماضية وسابقة في سبيل إنشاء شبكة أكثر ثراء من الترابطات الاحتمالية التي يمكن استخدامها في المستقبل
استخلصت الدراسة أنه بعد استيقاظ الفرد من نومه، يكون الدماغ أكثر قدرةً على القيام بترابطات بعيدة للمعلومات المتوافرة لديه، مما لو كان مستيقظًا. فعلى سبيل المثال، عندما طُلب من المشاركين الإيتاء بكلمات ذات صلة ودلالة للكلمات المعطاة لهم مثل كلمة “حارّ”، كانت الإجابة “الشمس” عند معظمهم، في حين أنّ الدماغ المستيقظ تمامًا فغالبًا ما ستكون إجابته “بارد” بشكلِ عام، ما يعني أنّ الإدراك أثناء وبعد مرحلة “حركة العين السريعة” مباشرةً، يختلف عن الإدراك أثناء الاستيقاظ أو في مرحلة “النوم البطيء”، الأمر الذي ينعكس على ارتباطات الأنماط في الذاكرة.
وللتأكيد على نتائج تلك الدراسة، أي على قدرة الدماغ على تكوين ترابطات احتمالية بعيدة المدى للمعلومات المتوافرة لديه، قام مجموعة من الباحثين في جامعة هارفارد عام 2015 بتجربة قدمت للمشاركين فيها أوصافًا لأحداث مترابطة معينة وعليهم توقع واحد من اثنين من الاحتمالات التي تصف تلك الأحداث، إما “شمس” أو “مطر”، ثمّ قاموا بعد ذلك بمقارنة أداء المشاركين الذين أخذوا غفوة مرّت بمرحلة حركة العين السريعة مع أولئك الذين بقوا مستيقظين خلال التجربة، واكتشفوا أنّ أفراد المجموعة الأولى قدّموا نتائج أفضل، أي أنهم كانوا قادرين على توقع الأحداث عن طريق المعطيات التي أُدخلت لأدمغتهم بشكلٍ أفضل من غيرهم.
وبناءً على هذا كله، يقترح الباحثون أنّ الدماغ في مرحلة “حركة العين السريعة” أثناء النوم يعمل على استيعاب وفهم معلومات جديدة ترتبط بتجارب ماضية وسابقة في سبيل إنشاء شبكة أكثر ثراء من الترابطات الاحتمالية التي يمكن استخدامها في المستقبل، الأمر الذي يعدّ سمة من سمات الإبداع المعرفي والإدراكي للفرد.
ما تزال الآراء حيال قدرة الأحلام على التوقع والتنبؤ بالمستقبل غير أكيدة البتة، وتخضع لتشكيكات كثيرة قد تنتهي بالنفي والإنكار
بكلماتٍ أخرى، قد تؤدي تلك التجارب إلى نظرية لتفسير قدرة الأحلام على التنبؤ بالمستقبل تنطوي على قدرة الدماغ على تحديد ومعالجة نوع من الإشارات التي لا يعترف بها في حالات وعيه أو يقظته، وإنما يمكنه هضمها بشكلٍ أفضل أثناء نومه ما يساعده على فهمها ووعيه بالمستقبل.
أما فيما يتعلق بالمصدر الذي تأتي منه تلك الإشارات، فقد تكمن الإجابة في “التشابك الكمي”، أي الفكرة القائمة على أن جزيئين أو نقطتين مختلفتين من الزمن يمكن أن تتفاعلا كما لو كانتا متصلتين ببعضها البعض على الرغم من فصلها مكانيًا ووجود مسافات كبيرة بينهما. ففي الحلم يختلف مفهوم الوقت أو الزمن مختلفًا عن مفهومه أثناء اليقظة، فيمكن أنْ يتواجد الماضي والحاضر والمستقبل في الوقت ذاته في حلمك مع استحالة حدوث ذلك في الواقع.
إذن، فما تزال الآراء حيال قدرة الأحلام على التوقع والتنبؤ بالمستقبل غير أكيدة البتة، وتخضع لتشكيكات كثيرة تنتهي بالنفي. ومن جهة أخرى، فهناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي ما تزال تبحث وراء ذلك، دامجةً علوم الأعصاب والدماغ والنفس والبيولوجيا والتطوّر والكمّ لفهم تلك الخاصية البشريّة المحيّرة.
يتبع..