برسائل متفاوتة ما بين الشدة والتحفيز، ترسل أنقرة مجددًا عدة رسائل لدمشق هدفها إعادة العلاقات وبحث العديد من الملفات العالقة بين الطرفين، لا سيما في الشمال السوري الذي تديره أنقرة بالتعاون مع حلفائها في المعارضة السورية.
وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، استخدم اللغة التحذيرية في مقابلة تناول فيها الوضع السوري، عندما رأى أن النظام السوري لا يستغل وقف القتال بينه وبين المعارضة لحلّ المشكلات الدستورية وتحقيق السلام مع الخصوم، وإعادة ملايين الأشخاص الذين فرّوا إلى الخارج أو غادروا أو هاجروا، وإعادة بناء البلاد وتنشيط الاقتصاد.
فيما حملت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعلى نقيض وزير خارجيته، نوعًا من الانفتاح على دمشق، مذكرًا بالعلاقات التركية السابقة مع نظام الأسد، بما ذلك الاجتماعات العائلية، مؤكدًا في الوقت نفسه عدم وجود اهتمام أو هدف للتدخل في شؤون سوريا الداخلية.
وليس أردوغان وحده الذي أبدى استعداده للقاء الأسد فحسب، فقد أعلن رئيس حزب الشعب الجمهوري، المعارض الرئيسي في تركيا، أوزغور أوزال عن محاولاته لترتيب لقاء مع رئيس النظام، قائلًا في مقابلة صحفية: “نقوم من جانبنا بما يسمّى بالدبلوماسية غير الرسمية مع سوريا. أفكر في الذهاب والاجتماع مع الأسد في الأيام القليلة المقبلة إذا تمكنا من ترتيب ذلك. الحديث لا يدور عن لقاء بعد فترة طويلة، بل عن إمكانية عقد مثل هذا الاجتماع خلال هذا الصيف”.
قابل النظام السوري انفتاح الجانب التركي بردّ إيجابي إلى حد ما، حيث أكّد الأسد، خلال لقائه مع المبعوث الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف، انفتاح دمشق على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا، شريطة أن تستند إلى “سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى”.
كما نقلت صحيفة “الوطن” عن مصادر وصفتها بـ”المطلعة”، أن بغداد ستشهد اجتماعًا مرتقبًا بين دمشق وأنقرة، مشيرة إلى أن هذه الخطوة “ستكون بداية عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وميدانية”.
اللغة اللينة بين الطرفين تشير إلى قرب انعقاد اجتماع بينهما على أعلى المستويات وبوساطة روسية على الأراضي العراقية، رغم تمسكهما بشروطهما، لا سيما إصرار دمشق على الانسحاب التركي من الشمال السوري، ورفض تركيا بالمقابل تحقيق هذا الشرط، وهو ما شدد عليه الرئيس التركي في تصريح سابق له، عندما قال: “للأسف الأسد يطالب بخروج تركيا من شمال سوريا، لا يمكن أن يحدث مثل هذا الشيء لأننا نكافح الإرهاب هناك.. لسنا منغلقين إزاء اللقاء مع الأسد، ويمكن أن نلتقي، لكن المهم هو كيفية مقاربة حكومة دمشق تجاه مواقفنا”.
الخطر الكردي قاسم مشترك
يدرك الرئيس التركي أن التعامل مع الأسد بات ضروريًا لمواجهة خطر وحدات حماية الشعب (YPG)، وفرعها المدني الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا، والتي تسعى إلى إنشاء منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، وقد برز الغضب التركي خاصة بعد رغبتها بإجراء انتخابات محلية ضمن مناطق سيطرتها.
ورغم التزام نظام الأسد الصمت إزاء إجراءات الإدارة الذاتية وترقبه ردة الفعل التركية، إلا أنه لا يمكن نكران قلقه أيضًا ومخاوفه من الأهداف الكردية، والتي لمّحت إليها أنقرة عبر رسائلها لدمشق وتأكيد اشتراكها معها لمواجهة هذا المشروع، وتحويل العداء إلى تعاون سياسي وعسكري، أو على الأقل صيغ تفاهم محدودة تعزز محاصرة المشروع الانفصالي الكردي.
من جهتها، تؤخذ السياسة التركية في الملف السوري تارة في إطار التكتيك السياسي ومصلحة أردوغان الانتخابية، وتارة في إطار الضغط على الإدارة الأمريكية بهدف وقف دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، في ظل فشلها في الحصول على ضوء أخضر أمريكي بشنّ عملية عسكرية جديدة ضمن مناطق شمال شرق سوريا.
فقد ذكر وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، في مقابلة تلفزيونية: “لدينا مشكلة مع دولتين ونصف مشكلة مع دولة (من حلف ناتو) فيما يتعلق بالدعم المقدم للوحدات الكردية: الولايات المتحدة وبريطانيا، وقليلًا مع فرنسا”.
أما مسار استهداف الخطر الكردي فهو غير ممكن بالنسبة إلى النظام السوري العاجز عن إحداث أي تغيير فيه كون العقبة الأمريكية حاضرة، وحسب صحيفة “إندبندنت عربية” فإن الجيش الأمريكي، وردًّا على الخطوة التركية، استقدم تعزيزات عسكرية ومدّ قواعده بالمعدّات الاستخباراتية والعسكرية والشحنات المحملة بالمواد اللوجستية والجنود، على متن طائرة شحن وصلت إلى قاعدة خراب الجير جنوب الرميلان شمال سوريا.
مدير ومؤسس مركز رامان، الباحث المتخصص في الشأن الكردي، بدر ملا رشيد، يوضح في حديثه لـ”نون بوست” أن الملف السوري في وضعه الحالي هو من أعقد ملفات السياسة الدولية، نتيجة انخراط أطراف متعددة في الصراع، ولكل منهما أسباب متناقضة سواءً في حالة الرغبة بالتقارب أو المواجهة.
وهذا التناقض، حسب رشيد، يفضي إلى نهايات مفتوحة فيما يتعلق بالسيناريوهات المتوقعة، لذا يصعب التخمين بحدوث نجاح سريع في تغيير طبيعة العلاقة بين تركيا والنظام السوري بما يرضي الطرفين، دون محاولة الأطراف الأخرى إفشاله وخاصة من قبل طهران وواشنطن.
ورغم إدراك الأسد أن تركيا قد تخلت عن فكرة “سوريا بدون الأسد”، إلا أنه يدرك أن السياسة التركية تتأثر بعوامل متعددة، كما أنه يدرك سهولة إمكانية اتفاقه مع “قسد”، بالمقارنة مع ما يعنيه الأمر في حال اتفاقه مع تركيا.
فهذه العوامل والديناميكيات المتغيرة والكثيفة، وفق رؤية رشيد، تدفع للاعتقاد بأن الطرفين سيحاولان التوافق بالملفات الاقتصادية على المدى القصير، ومحاولة نقل التعاون الاقتصادي إلى تقارب “اجتماعي” بين السوريين المقيمين في المنطقة المقسّمة بين النظام وتركيا، وفي حال تحقيق نجاحات على هذه المستويات من الممكن أن تترافق مع خطوات مشتركة للضغط على الإدارة الذاتية.
هل تحصّل تركيا مكاسب رسمية؟
بالعودة إلى نبرة فيدان التحذيرية، فإن الملتمس من حديثه، لا سيما فيما يتعلق بعدم استغلال النظام فترة هدوء جبهاته مع المعارضة المدعومة تركيًا، أن التهدئة قد لا تبقى على ما عليه، وأن ملف إعادة اللاجئين يجب أن يلقى تجاوبًا أكثر فاعلية من النظام، وهو الذي يرفضه النظام جملة وتفصيلًا لاعتباره أن هؤلاء اللاجئين الذين تعيدهم تركيا خطر مستقبلي وقنبلة موقوتة، يمسك الطرف التركي بفتيلها إلى جانب الفصائل العسكرية المعارضة والمدعومة تركيا.
فيما لم تغب اللغة التصالحية هذه المرة عن تصريحات دمشق، والتي لا تترك عادة فرصة لمهاجمة أنقرة بشكل كبير، كما حدث خلال مشاركة الأسد في قمة جدة في مايو/ أيار العام الماضي، عندما أشار إلى “خطر الفكر العثماني التوسعي المطعّم بنكهة إخوانية منحرفة”.
ومن المعلوم أن الأجندة الرئيسية لتركيا فيما يتعلق بمسار المحادثات مع دمشق هي ضمان أمن الحدود واتخاذ خطوات ملموسة ضد وحدات حماية الشعب (الكردية)، الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، والذي يشكّل عماد الإدارة الذاتية، وعودة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم مع تقديم الضمانات اللازمة لهم، واستمرار أعمال اللجنة الدستورية في إطار مسار أستانة.
إلا أن هذه الأجندة، خاصة أمن الحدود وملف مكافحة الإرهاب الذي يختلف الطرفان عليه، لا سيما معضلة فصائل المعارضة بريف حلب وهيئة تحرير الشام في إدلب، يمكن أن تكون عائقًا أمام أي انسحاب تركي فعلي من سوريا، إلا إذا تم الاتفاق بين الطرفين على توسيع اتفاقية أضنة التي تشرعن الوجود التركي في الشمال السوري، وتعاون دمشق التام مع تركيا في مكافحة الإرهاب عبر الحدود، ما يعني تجذر الوجود التركي في سوريا وبموافقة دمشق الرسمية، في مشهد مشابه لما حصلت عليه روسيا وإيران من مكاسب وموطئ قدم طويل الأمد على الجغرافية السورية.
يرى محمد سالم، مدير وحدة الدراسات في مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجية، أن الجانب التركي ضمنيًا يريد أن يضمن وجوده في المناطق الحالية في الشمال السوري، وشرعنة هذا الوجود من خلال الاتفاق مع الروس والنظام، وإن لم يكن للأبد لكن لفترة طويلة من الزمن، بشكل مشابه ربما لحالة وجود قوات النظام السوري في لبنان.
وأضاف سالم لـ”نون بوست” أن “الأسد لا يرغب بإعطاء أي مكسب لأنقرة، لكن قد يتعرض لضغوط من الإيرانيين، خاصة إذا كان لديهم مصلحة في ذلك مع الروس الأكثر تأثيرًا عليه، فقد شهدنا كيف كان لإيران دور مؤثر في دفع الأسد للموافقة على المصالحة مع حماس، رغم أنه غير مقتنع بها ولا يرغب بها ويتظاهر بذلك حتى الآن، فالأمر بالحقيقة مفتوح على عدة احتمالات، ولا يوجد ثوابت في السياسة عمومًا وفي هذا الموضوع أيضًا خصوصًا”.
تقارب اقتصادي أولًا
بدوره، أشار الباحث في مركز جسور للدراسات، وائل علوان، إلى أنه من السهل الوصول إلى تفاهمات على كل النقاط ما بين تركيا والنظام السوري، إلا أن الكثير من الأمور ستبقى عالقة وستصل إلى طريق مسدود بسبب عدم التزام النظام، وهذا تعلمه تركيا بأن النظام مهما تحدث عن دوره في مكافحة الإرهاب، فإن كل ذلك ادّعاء باعتبار أن هناك علاقة عضوية ما بين النظام واستثماره بالإرهاب عبر دعم التنظيم الانفصالي شمال شرق سوريا.
ويبدو أن موضوع التوافقات وعدم التوافقات بين ما تطرحه تركيا وما يطرحه النظام السوري موضوع معقد للغاية، إذ يوجد العديد من نقاط الخلاف، ومع ذلك يبدو أن الدور الروسي يسعى للوصول إلى بعض التفاهمات مثل فتح الطرق الدولية والمعابر التجارية، وهو أمر مفيد لتركيا والمنطقة على المستوى التجاري والاقتصادي وفق رؤية أنقرة، بالإضافة إلى ذلك تعتبَر هذه التفاهمات رسالة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية بضرورة الوفاء بالتزاماتها، خاصة تفكيك التهديد الانفصالي الذي تشتكي منه تركيا شمال شرق سوريا.
في مقابل ذلك، تحاول روسيا تخليص النظام من الاختناق الاقتصادي الذي يعيشه، في حين تعبّر هذه التحركات عن استياء الأطراف من الدور الأمريكي، وفقًا لما قاله علوان لـ”نون بوست”، فعندما يذهبون إلى إيجاد الحلول الإقليمية، لأن الدور الأمريكي ما زال يقف في وجه أي تغييرات في المنطقة، فهناك استياء تركي من الدعم الأمريكي المستمر لـ”قسد”، خاصة موقفها الأخير من إقامة انتخابات محلية في مناطق “قسد”.
ويبدو أنه ليس من السهل أن يثبت النظام عكس انخراطه في تقارب حقيقي مع تركيا، ولن يكون هناك ثقة تركية بشكل عام لذلك الانخراط، فالثقة بالنسبة إلى تركيا هي أن تبقى موجودة شمال سوريا وتحمي أمنها القومي، حتى يكون هناك تغيير حقيقي في بنية النظام غير القابل للتغيير أصلًا، والرافض لأي قرارات من شأنها أن تتقدم بالبلاد ولو خطوة واحدة.