مع أن النفس بوصفها موضوعًا للبحث أمر قد عرفه الإنسان منذ القدم، إلا أن التحليل النفسي بوصفه علمًا قائمًا على الملاحظة السريرية أمر حديث نسبيًا، حيث ظهر على يد سيغموند فرويد في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقد كان تحليل اللاوعي من فرويد، على أنه عالم من الدوافع الخافية على الإنسان التي تحركه على مستوى الأفعال والأفكار، ثورة على غرار الثورة الكوبرنيكية التي زحزحت الإنسان عن مركز الكون، وعلى غرار الثورة الداروينية التي وضعت الإنسان في قمة سلسلة تطورية للأحياء نازعة عنه صفة كونه المخلوق المختار من الله.
جاءت هذه الثورة لتضع موضع الشك والتساؤل أثمن وأخص ما لدى الإنسان: شعوره وفكره، لقد أظهرت هذه الثورة أن الأفكار التي يطرحها المرء والتبريرات التي يبرر بها أفعاله ومواقفه محاولاً تعضيدها بالعقل والمنطق، في الواقع نابعة من اللاوعي الذي هو عالم آخر من الدوافع والميولات التي كبتت في مراحل سابقة من عمر الإنسان (مرحلة الطفولة بالخصوص).
إلا أن فرويد قد حصر تلك الدوافع بشكل أساسي بالدوافع الجنسية، فالإنسان، كما يرى فرويد، يحركه دافعان أو قوتان هما: الغريزة الجنسية وغريزة حفظ الذات (الأنا)، والغريزة الجنسية دينامية متطورة ترتبط فيسيولوجيا بمواضع محددة في الجسم (الفم ثم الشرج)، حتى تكتمل عند الإنسان البالغ السوي، فتكون الأم في البداية هي موضوع الحب بالنسبة للطفل، وبسبب خوف الطفل من والده مع احتمال كشف دافعه الجنسي لأمه، وكذلك نظرته للأب بوصفه منافسه، تنشأ عقدة أوديب.
وقد يتبادر إلى الأذهان هنا مباشرة اعتراض يقول بأن ميل الطفل للأم ليس مختصًا بالطفل الذكر فقط وإنما يشمل الطفل الأنثى كذلك، ولكن فرويد لا يرى المرأة مخلوقًا كاملاً، بل هي “رجل مخصي”، وهذا يمثل لها عقدة، كما يرى، تكملها في امتلاك رجل (زوج أو طفل)، وقد غير فرويد في نظريته للدوافع، وحدث ذلك بعد الحرب العالمية الأولى؛ فجعل الدوافع هذه المرة هي غرائز الحياة (إيروس)، وتشمل الليبيدو وحفظ الذات وغرائز الموت.
غياب الغرائز لا يعني أن الإنسان مجرد مستقبل سلبي للثقافة بحيث تشكله كما تشاء، فإذا كان النموذج الثقافي الذي يتكيف فيه الإنسان مناقض لطبيعته، فإنه (الإنسان) يكشف عن اضطرابات عقلية وانفعالية تجبره في آخر الأمر على تغيير هذه الأوضاع ما دام لا يستطيع أن يغير طبيعته
على العكس من فرويد الذي يرى الإنسان أشبه بمخلوق ميكانيكي تحركه غرائزه وتحكم توجهاته في تعامله مع أفراد مجتمعه؛ فإن الذي يؤثر في الإنسان أشد التأثير في نظر إيريك فروم هي المحددات الاجتماعية والاقتصادية التي تحكم سياق مجتمع معين، فإن ما يميز الإنسان بالأساس هو “نقصان النزعة الحتمية الغريزية كلما ازددنا رقيًا في التطور الحيواني، بالوصول إلى أدنى نقطة في الإنسان، الذي فيه النهاية صفر في سلم الميزان”، ويعبر في مكان آخر عن المعنى ذاته جاعلاً من غياب العنصر الغريزي سببًا في ظهور الإنسان: “و يمكن تحديد ظهور الإنسان بأنه حدوث في مرحلة سيرورة التطور بلغ فيها التكيف الغريزي حده الأدنى”.
ولكن غياب الغرائز لا يعني أن الإنسان مجرد مستقبل سلبي للثقافة بحيث تشكله كما تشاء، فإذا كان النموذج الثقافي الذي يتكيف فيه الإنسان مناقض لطبيعته، فإنه (الإنسان) يكشف عن اضطرابات عقلية وانفعالية تجبره في آخر الأمر على تغيير هذه الأوضاع ما دام لا يستطيع أن يغير طبيعته، “إن الطبيعة الإنسانية ليست محصلة كلية ثابتة وفطرية بيولوجيًا للدوافع كما أنها ليست ظلاً لا حياة فيه للنماذج الحضارية التي تكيف نفسها معها بنعومة، إنها نتاج التطور الإنساني لكنها أيضًا لديها ميكانيزمات معينة وقوانين معينة كامنة”.
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان
إن هذه العبارة الإنجيلية، تختصر بشكل بديع نظرة فروم للإنسان، وهي عبارة عزيزة عليه وكثيرًا ما ترد في كلامه عن طبيعة الإنسان.
من أين يستقي فروم هذه النظرة؟ إنه يستقيها من توق الإنسان الدائم إلى المعنى: معنى لحياته ولوجده، معنى كونه إنسانًا، هذا التوق الذي عبر عنه الإنسان منذ القدم في الأشكال الأولية للدين، ثم بالأديان التوحيدية الكبرى (اليهودية والمسيحية والإسلامية)، وكذلك عبرت عنه الفلسفات الإنسانية مثل البوذية والكونفوشوسية، وكذلك عبرت عنه الفلسفات الأخلاقية: عند سقراط وأفلاطون، مرورًا بسبينوزا، وغيرهم من الفلاسفة العظام في تأريخ الإنسانية، ويعبر عنه كذلك الإنسان الحديث، الذي رغم توفره على كل الوسائل التقنية المادية، لا يزال يبحث عن المعنى، رغم تشوه هذا المعنى في وعيه فظهر توقه بشكل سلبي، ظهر بشعور الإحباط وفقدان الأمل والعزلة والهروب إلى الإدمان: إدمان الجنس والمخدرات، إلخ.
كل هذا الغنى الذي يشتمل عليه تأريخ البشرية لم أذكره على سبيل الاستطراد أو الكلام الشاعري، بل يشكل بالفعل الرافد الأعظم لفكر إيريك فروم، ويستخلص فروم من هذا الرافد الغني أن في الإنسان جانبًا لا تسده الحاجات المادية مهما كثرت وتنوعت، إنه التوق إلى المعنى وإلى موضوع للإيمان والإخلاص.
العزلة والتوق للاتحاد
إن فكرة العزلة تعد فكرة جوهرية في نظرية فروم، وقد عبر عنها بأشكال مختلفة في معظم كتبه، ففي كتابه “الهروب من الحرية” – المترجم خطأ الخوف من الحرية! – يطلق على عملية انفصال الإنسان عن الطبيعة والأشياء من حوله (الروابط الأولية) مصطلح “الاصطباغ بالصبغة الفردية”، حيث تنمو فردية الإنسان من خلال الوعي بالانفصال، وفي مقابل هذا الجانب الإيجابي، هنالك جانب سلبي، حيث الشعور بالوحدة والعزلة، وفقدان الشعور بالأمن الذي كانت توفره “الروابط الأولية”.
أما في كتابه “الإنسان من أجل ذاته” فيقول بأن جدار الوحدة والتلاؤم مع الطبيعة الذي صدعه وعي الإنسان قد خلق نوعين من الانقاسامات:
أولاً: انقسامات وجودية: مثل وعي الإنسان بأنه ميت في نهاية المطاف، حيث يخلق هذا الوعي شعورًا مؤلمًا وعميقًا في داخل الإنسان، وقد حاولت الإيديولوجيات الدينية معالجة هذا الشعور بافتراض خلود الروح.
الانقسام الوجودي الآخر، هو بين عمر الإنسان القصير، وتطلعاته الروحية، وكذلك بسبب شعوره بالوحدة ورغبته في الوقت نفسه بالارتباط بالآخرين وبالشعور بالتضامن مع أنداده البشر من الأجيال الماضية أو المقبلة.
اذا يفعل الإنسان أمام هذه الانقسامات الوجودية؟ يرى فروم أن الحل الوحيد لهذه المشكلة أن يواجه الإنسان الحقيقة، ويعترف بوحدته الأساسية وانفراده في كون لا يبالي بمصيره
ثانيًا: الانقسامات التأريخية: هذا النوع من الانقسامات ليس جزءًا ضروريًا من طبيعة الوجود الإنساني، ولكنها من صنع الإنسان، وهي، على عكس الانقسامات الوجودية، قابلة للحل، مثل التناقض المعاصر بين وفرة الوسائل التقنية للاغتباط المادي والعجز عن استخدامها من أجل السلام ورفاه الشعب حصرًا.
والفرق الأساسي بين هذين النوعين من الانقسام أنه “بوسع الإنسان أن يستجيب للتناقضات التأريخية بإلغائها من خلال عمله؛ ولكنه لا يستطيع إلغاء الانقسامات الوجودية، رغم أنه يستطيع أن يستجيب لها بطرق مختلفة”.
ماذا يفعل الإنسان أمام هذه الانقسامات الوجودية؟ يرى فروم أن الحل الوحيد لهذه المشكلة أن يواجه الإنسان الحقيقة، ويعترف بوحدته الأساسية وانفراده في كون لا يبالي بمصيره، وأن يتبين أن لا وجود لقدرة تفوقه يمكن أن تحل له مشكلته، “إن على الإنسان أن يقبل المسؤولية عن نفسه وأنه لا يستطيع أن يخلع المعنى على حياته إلا باستخدام قدراته”، ولكن المعنى لا يعني اليقين، بل إن اليقين يقف في سبيل البحث عن المعنى و”عدم اليقين هو الشرط الفعلي الذي يجبر الإنسان على إظهار قدراته”.
إذًا هناك من جهة جانبان رئيسيان: طبيعة الإنسان، والمحددات الاقتصادية والاجتماعية، ومن جهة أخرى فإن طبيعة الإنسان قابلة للتكيف مع النماذج الثقافية المختلفة ولكن عندما تكون هذه النماذج مناقضة لطبيعة الإنسان فإن الأخيرة تكشف عن اضطرابات عقلية وانفعالية، لذلك يحرص فروم على ضرورة تبني فلسفة أخلاق إنسانية تقوم على فهم الطبيعة الإنسانية الأمر الذي يعني معرفة ما يوافق هذه الطبيعة من معايير وما لا يوافقها، ومن أجل ذلك ينتقد فروم الموقف النسبوي “الذي يرى أن أحكام القيمة والمعايير الأخلاقية هي أمور تذوق أو تفضيل تحكمي، ولكن بما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون قيم ومعايير، فإن هذه النسبوية تجعله فريسة سهلة لأنظمة القيمة غير العقلية”.
ورفض الموقف النسبوي هذا لا يعني، بالنسبة لفروم، أن على الإنسان الانخراط في أحد الأديان التي توفر له الأحكام القيمية والأخلاقية المطلقة، لأن هذه الأحكام يجب أن تنبع من ذات الإنسان، إن المطلوب هو دين إنساني، “فالمعايير الأخلاقية يمكن أن يشكلها عقل الإنسان وعقله وحده”، إن الحل هو بالعودة إلى تراث الفكر الأخلاقي الإنساني الذي وضع الأسس لأنظمة القيم المبنية على استقلال الإنسان وعقله، وهذه الأنظمة مبنية على مقدمة فحواها “أنه لكي يعرف الإنسان ما هو جيد أو رديء بالنسبة إلى الإنسان عليه أن يعرف طبيعة الإنسان”.
في مقابل فلسفة الأخلاق الإنسانية هناك فلسفة الأخلاق التسلطية، حيث تنص سلطة خارجية على ما هو خير للإنسان وتضع القوانين ومعايير السلوك، ويمكن التمييز بين هاتين الفلسفتين بمقياسين أحدهما شكلي، والآخر مادي، “فمن الناحية الشكلية تنكر فلسفة الأخلاق التسلطية قدرة الإنسان على معرفة الخير والشر، ومانح المعيار هو على الدوام سلطة تتجاوز الفرد.. وماديًا، أو مضمونيًا، تجيب فلسفة الأخلاق التسلطية عن سؤال ما هو جيد أو رديء وفي المقام الأول على أساس مصالح السلطة لا مصالح التابع”، والإثم الذي لا يغتفر في فلسفة الأخلاق التسلطية هو العصيان، أي مناقشة حق السلطة في سن المعايير ومناقشة بديهيتها القائلة بأن المعايير التي تشرعها السلطة هي من أجل خير الرعية.
أما فلسفة الأخلاق الإنسانية فإنها “من الناحية الشكلية، تقوم على مبدأ أن الإنسان نفسه هو وحده الذي يمكن أن يحدد مقياس الفضيلة أو الأثم، وليس السلطة التي تتجاوزه، وهي من الوجهة المادية تقوم على مبدأ أن “الخير” هو ما هو خير للإنسان و”الشر” هو ما هو ضار للإنسان، والمقياس الوحيد للقيمة الأخلاقية هو حسن حال الإنسان”.
إن هذا لا يعني أن الاختيار بين سلطة دكتاتورية وعدم وجود سلطة على الإطلاق، وإنما المسألة هي الاختيار بين السلطة العقلية والسلطة اللاعقلية، فالشخص الذي تُحترم سلطته ويؤدي وظيفته بكفاءة في المهمة التي يعهد بها إليه الذين يمنحونه إياها، وهو ليس بحاجة إلى أن يتوعدهم ولا أن يثير إعجابهم بخصائصه السحرية، وما دام يتعاون بكفاءة بدل أن يستغل، وإلى ذلك الحد فسلطته قائمة على أسس عقلية، ولا تستدعي المهابة غير العقلية، وهذه السلطة تكون متقبلة للمساءلة والمراجعة وهي دائمًا سلطة مؤقتة، ويعتمد قبولها على إنجازها.
جهة أخرى، فإن مصدر السلطة غير العقلية هو السيطرة على الناس، إن السيطرة في أحد الطرفين، والخوف في الطرف الآخر هما على الدوام الدعامتان اللتان تنبني عليهما السلطة غير العقلية.
ينطلق فروم إذًا من فلسفة الأخلاق الإنسانية، حيث التحليل النفسي عنده لا ينفصل عن الجانب الأخلاقي، وذلك باعتبار نظرته للإنسان التي ترى فيه كائنًا نَزوعًا لخلق المعنى والقيمة، ولكي يبين لنا فروم هذه النظرة فإنه يعطينا ما يشبه النظرية في التاريخ، تأريخ ظهور الإنسان.
ينتقد فروم موقف من يرى ثبات الطبيعة الإنسانية، حيث استغل هذا الموقف، برأيه، المفكرون التسلطيون في إثبات أن أنظمتهم الأخلاقية ومؤسساتهم الاجتماعية هي بالضرورة غير قابلة للتغير
وقد حدث هذا في اللحظة التي انكشف للإنسان وعيه بذاته وانفصاله عن الطبيعة “لقد بزغ التاريخ الاجتماعي للإنسان ببزوغه من حالة التوحد مع العالم الطبيعي إلى وعي بنفسه كذاتية منفصلة عن الطبيعة والناس المحيطين به”، ويشبِّه فروم هذه العملية بما يحدث مع الطفل، فالطفل في بداياته يكون في حالة توحد مع الأم، ولا يشعر بانفصاله عنها، وهذا الاتحاد يعطيه شعورًا بالإمان، ثم مع نموه يبدأ يرى انفصال أمه عنه عندما تمتنع عن إرضاعه، وكذلك انفصال الأشياء من حوله عندما يعجز عن الحصول عليها.
من هنا ينتقد فروم موقف من يرى ثبات الطبيعة الإنسانية، حيث استغل هذا الموقف، برأيه، المفكرون التسلطيون في إثبات أن أنظمتهم الأخلاقية ومؤسساتهم الاجتماعية هي بالضرورة غير قابلة للتغير، وفي الوقت نفسه ينتقد الموقف المقابل له والقائل بأن الطبيعة البشرية قابلة للتطريق غير المحدود، فمن شأن المعايير والمؤسسات غير الموافقة لحسن حال الإنسان، بالفعل، أن تكون لديها الفرصة لتقولب الإنسان إلى الأبد في نماذجها من دون إمكانية أن تتعبأ القوى الجوهرية في طبيعة الإنسان وتنزع إلى تغيير هذه النماذج.
فإذا “لم يكن الإنسان إلا إنعكاسًا للنماذج الثقافية فلن يكون بالإمكان أن ينتقد أو يحاكم أي نظام اجتماعي من وجهة نظر حسن حال الإنسان ما دام لن يكون ثمة مفهوم لـ”لإنسان””، والواقع أن فروم ينتقد بشدة المدرسة السلوكية، لأنها تحاول تكييف الإنسان لكي يتوافق مع مجتمعه، دون أن تنظر فيما إذا كان ذلك التوافق ملائمًا لطبيعة الإنسان أم لا.
إن الدراسة النفسية للسلوك يمكن أن تكون علمًا، لكنها ليست علمًا خاصًا بالإنسان، إنها علم خاص بأُناس غرباء عن السلوك الإنساني وبطرق غريبة يتولاها خبراء خاصون، هذه الطريقة لها القدرة على أن تعطي للإنسان مظاهر وأشكالاً مختلفة، لكنها، وبالتحديد، لا تعطي جديدًا فيما يختص بالصفات الإنسانية الأصلية للإنسان”.
المزاج والطبع
“يشير المزاج إلى شكل الاستجابة وهو متعلق ببنية الجسم ولا يتغير؛ والطبع تشكله استجابات الشخص، لا سيما تجاربه في حياته الباكرة، وهو قابل للتغير إلى حد ما، بالتبصرات والأنواع الجديدة من التجارب”، وتكمن أهمية التمييز بين المزاج والطبع في أن “التفضيلات فيما يتعلق بالاختلافات في المزاج هي مجرد مسائل ذائقة ذاتية، ولكن الاختلافات في الطبع لها من الوجهة الأخلاقية أكبر الأهمية”، بمعنى أن أحكامنا الصادرة التي تتعلق بتفضيل مزاج على مزاج هي أحكام ذوقية ذاتية لا يترتب عليها حكم أخلاقي موضوعي، أما تلك المتعلقة بتفضيل طبع على آخر لها جانب من الموضوعية الأخلاقية.
يتابع فروم نظرية الطباع عند فرويد في مسائل أساسية منها: افتراض أن سمات الطبع تكمن في أساس السلوك ويجب أن يستدل عليها منه، وأنها تشكل القوى التي قد يكون الشخص غير شاعر بها رغم قوتها، ويتابعه كذلك في افتراض أن الكيان الأساسي في سمة الطبع ليس سمة طبعية واحدة بل النظام الكلي للطبع الذي يتتابع منه عدد من سمات الطبع الإفرادية، وهو ما يسميه فروم “توجه الطبع”.
والاختلاف الأهم في نظرية الطباع التي يقدمها فروم عن نظرية فرويد “هو آن الأساس الجوهري للطبع لا يتم النظر إليه في الأنماط المختلفة للنظام اللبيدي (الغريزة الجنسية) بل في الأنواع الخاصة من اتصال الشخص بالعالم” وذلك من خلال عملية الاستيعاب (وصل الإنسان نفسه بالعالم باكتساب الأشياء واستيعابها) وعملية المشاركة (وصل نفسه بالناس وبذاته)، من هنا يعرف فروم الطبع بأنه “الشكل “الدائم نسبيًا” الذي توجد فيه الطاقة الإنسانية في عمليتي الاستيعاب والمشاركة الاجتماعية”.
إن وظيفة الطبع، بالإضافة إلى سماحه للفرد بالاتساق والتصرف “بصورة معقولة”، فهو كذلك يشكل الأساس لتوافقه مع المجتمع، وذلك من خلال “الطبع الاجتماعي” الذي يطبع مجتمع وثقافة معينين.
يميز فروم بين نمطين أساسيين في توجه الطبع:
1- التوجهات غير الإنتاجية:
أ- التوجه التلقفي: “يشعر الشخص في التوجه التلقفي بأن “مصدر كل الخير” هو في الخارج، ويعتقد أن السبيل الوحيد للحصول على ما يريد -سواء كان مادة أم عاطفة أم حبلاأم معرفة أم لذة – أن يتلقفه من الآخرين، وفي هذا التوجه تكاد تكون مشكلة الحب حصرًا هي “أن يكون محبوبًا” لا مشكلة أن يُحب”.
ب- التوجه الاستغلالي: في هذا التوجه، كما في التوجه التلقفي، يشعر الشخص بأن مصدر كل الخير هو في الخارج، والاختلاف “أن النمط الاستغلالي لا يتوقع أن يتلقى الأشياء من الآخرين بوصفها هبات، بل أن يسلبها من الآخرين بالقوة والخبث، وفي مجال الحب والعاطفة يميل هؤلاء الناس إلى أن يخطفوا ويسرقوا، وهم لا يشعرون بالانجذاب إلا إلى الناس الذين يستطيعون سلبهم من شخص غيرهم”.
ج- التوجه الادخاري: “هذا التوجه يجعل الناس ضعيفي الإيمان بأي شيء جديد يمكن أن يحصلوا عليه من العالم الخارجي، ويقوم أمنهم على الادخار والتوفير، في حين يُعتقد أن الإنفاق تهديد”.
د- التوجه التسويقي: يركز فروم على هذا الطبع، لأنه يدخل في صلب نقده لأسس المجتمع الرأسمالي الحديث، ومحدداته الاجتماعية والاقتصادية التي تخلق هذا الطبع التسويقي، فمن خلال نظرة إنسانية ثاقبة يرى فروم أن “مفهوم السوق للقيمة، وهو تأكيد القيمة التبادلية بدلاً من الاستعمالية، قد أدى إلى مفهوم مشابه للقيمة فيما يتعلق بالناس وبصورة خاصة بنفس المرء”.
يرى فروم أن هناك ما يسميه بـ”سوق الشخصية”، وفي هذه السوق يعتمد الموظفون، على اختلاف وظائفهم ودرجاتهم، على القبول الشخصي بهم من الذين يحتاجون إلى خدماتهم أو الذين يستخدمونهم، “والحقيقة أنه ليس كافيًا لكي يصيب المرء النجاح أن تكون لديه البراعة والمؤهلات اللازمة لأداء مهمة معينة ولكن قدرة المرء على أن يجعل شخصيته تبدو مقبولة”، إذ يعتمد النجاح إلى حد كبير على كم يجيد الشخص بيع نفسه في السوق، كم يجيد إبانة شخصيته، كم هو “حزمة” ظريفة”.
وعلى هذا الأساس لا يكون تقدير المرء لذاته نابعًا مما يحمله من قدرات ومؤهلات، وبلغة السوق، من قيمته الاستعمالية؛ وإنما ينظر لنفسه بوصفه سلعة لا بل بوصفه البائع والسلعة التي تباع معًا، “والشخص ليس معنيًا بحياته وسعادته، بل بأن يغدو رائجًا.
ويرى فروم أن مصادر مثل الصحف والمجلات المصورة وأشرطة الأخبار السينمائية التي تنشر صور الناجحين والإعلانات المصورة (والسوشيال ميديا بلغة العصر)، كلها تخلق نموذجًا ما يمكن أن أسميه أنا “السلعة الأرقى” التي يسعى الفرد للتشبه بها ليدخل في المنافسة على النجاح. ومن أهم تلك المصادر لخلق الشخصية النموذجية، وأعمقها تأثيرًا، هي الفيلم السينمائي، حيث يسعى كل من الشاب والفتاة العاديين إلى التشبه بالنموذج الأفضل، هكذا يفقد الإنسان تقديره لذاته فيستمده من تقدير الآخرين له الذين يستمدون بدورهم تقديرهم لذاتهم من غيرهم.
بالإضافة إلى هذا يكون الشخص قلقًا دائمًا من خسارة تقدير الآخرين له، وخائفًا أيضًا من أي هفوة قد تسقطه من الدرجة التي اكتسبها في النجاح، بينما الإنسان الناضج والإنتاجي يستمد إحساسه بالكرامة من خبرته أنه الفاعل المتحد مع قدراته، ويمكن أن نعبر عن هذا الشعور بـ”أنا ما أفعل”، أما الشخص الذي ينظر إلى قدراته كسلع، الغاية منها ليس تحقيق الذات والاتحاد مع قدراته، وإنما الرواج في “سوق الشخصية” فإن شعوره يقول “أنا كما تريدني”.
المفهوم الإنتاجي، نحن معنيون “بموقف، بطريقة استجابة المرء وتوجهه نحو الآخرين ونحو نفسه في سياق العيش، نحن معنيون بقيم الإنسان، لا بنجاحه”
إن هناك فرقًا أساسيًا بين الأنواع الثلاث الأولى من التوجهات غير الإنتاجية، وبين التوجه التسويقي، فكل توجه هو شكل للاتصال الإنساني إذا كان مهيمنًا على الشخص فهو مخصوصه الذي يميزه، وللتوجهات الثلاث الأولى جوانبها الإيجابية إضافة إلى جوانبها السلبية، إلا أن التوجه التسويقي لا يبرز شيئًا كامنًا في الإنسان، وإنما الخصيصة الدائمة في مثل هذا التوجه هي مجرد قابلية تبديل المواقف، حيث تبرز صفة معينة، أو تختفي، بحسب رواجها في “سوق الشخصية”.
٢- التوجه الإنتاجي
“يشير التوجه الإنتاجي في الشخصية إلى موقف أساسي، إلى طريقة اتصال في كل مجالات الخبرة البشرية، “وهي تشمل استجابات المرء العقلية والانفعالية والحسية للآخرين، ولنفسه وللأشياء، وكلمة “الإنتاجية” مرتبطة بالإبداع، ولا سيما الإبداع الفني، والإنتاجية ليست مرادفة للنشاط، فقد يكون النشاط غير إنتاجي مثل نشاط الشخص المُنَوَّم مغناطيسيًا، أو الشخص الخاضع للسلطة.
في المفهوم الإنتاجي، نحن معنيون “بموقف، بطريقة استجابة المرء وتوجهه نحو الآخرين ونحو نفسه في سياق العيش، نحن معنيون بقيم الإنسان، لا بنجاحه”، “واستطاعة الإنسان الاستفادة الإنتاجية من قدراته هي فعاليته؛ وعدم استطاعته هو عجزه، حيث تكمن خبرة العالم خارج نفس المرء بطريقتين: طريقة إعادة الإنتاج، القائمة على فهم الوجود الفعلي، وهذا يتطلب المشاركة الفعالة من الذهن، وتوليديا بتصور هذه المادة الجديدة، وبعثها حية وإعادة خلقها من خلال النشاط العفوي لقدرات المرء العقلية والانفعالية، فوجود كلتا قدرتي إعادة الإنتاج والتوليد هو الشرط المسبق للإنتاجية، “إن الإنتاجية ليست مجموع القدرتين أو توحديهما وإنما هي شيء جديد ينشأ عن تفاعلهما”.