الحرب في السودان.. هل فقد النازحون الأمل في العودة لوطنهم؟

يوم 30 يونيو/ حزيران 2022، خرج عشرات الآلاف من السودانيين في مليونية حاشدة استجابة للمعارضة وعدد من التنظيمات النقابية والاجتماعية، يطالبون بإسقاط الانقلاب العسكري الذي نفذته المؤسسة العسكرية بشقَّيها، الجيش وقوات الدعم السريع.

في 25 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، أقالت المؤسسة العسكرية الحكومة واعتقلت عددًا من الوزراء والنشطاء، وهيمنت على المشهد السياسي وقضت على مطالب مدنية الدولة التي طالب بها الثوار منذ حراكهم في 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018.

حاول السودانيون الدفاع عن حلمهم في حياة مدنية يتخلصوا بها من الحكم العسكري الذي جثم على صدروهم عقودًا طويلة، وأودى بهم إلى غياهب الاستبداد وتبعاته، لكن وبينما هم يستميتون في الدفاع عن هذا الحلم الذي كان على بُعد أمتار قليلة من رؤية النور، إذ بشركاء الانقلاب العسكري يسحبون البساط من تحت أقدام الجميع.

وفي 15 أبريل/ نيسان 2023 دخلت البلاد مرحلة جديدة من النزاع، نزاع عسكري خالص، حرب جنرالات كما بدت في بداياتها، بين قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الداعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، لكن سرعان ما استحالت إلى حرب ضروس ضد المدنيين أطاحت بحلم السودانيين ليس في إقامة دولة مدنية ديمقراطية فقط، لكن في الحياة بصفة عامة.

ولم يتوانَ المتنازعون -المحرَّكون من قوى إقليمية ودولية- في تلك الحرب عن استخدام كافة أنواع الأسلحة المحرمة، وارتكاب شتى الجرائم التي تنتهك الإنسانية ومبادئها، وحوّلوا الأرض الخصبة إلى بيئة طاردة لسكانها، حيث نزوح الملايين خارج الديار، في هجرة قسرية لم يعرفها البلد الغني بموارده منذ عقود طويلة.

اليوم وبعد 13 شهرًا من اندلاع تلك المواجهات الدامية التي فكّكت الدولة وشرّدت العائلات وحالت دون التئام الأهل والأصدقاء، ووضعت بينهم الحواجز والحدود صعبة الاجتياز، هل ما زال حلم العودة يداعب النازحين السودانيين خارج وطنهم؟ وهل ما زال هناك أمل في إنهاء تلك الحرب؟ وإن كان فما هو منسوبه؟

الوضع يزداد صعوبة

تعكس الأخبار التي تتناقلها وسائل الإعلام أو تلك التي يتناقلها النازحون عن جيرانهم ومعارفهم في الداخل السوداني بشأن الوضع الداخلي في وطنهم، الحالة القاسية التي بات عليها المشهد هناك، حيث انهيار البنى التحتية واستحالة الحياة في الوقت الراهن، وتحويل البلد المفعم بموارده الزراعية والتعدينية إلى أرض محروقة غير قابلة للعيش فيها.

المحامي السوداني خالد ميرغني (50 عامًا)، والذي يقيم في الولايات المتحدة منذ أكثر من 15 عامًا، يقول إن الأخبار التي تصله يوميًا منذ أبريل/ نيسان قبل الماضي عن أهله ومعارفه في الخرطوم وأم درمان، تشير إلى وضعية كارثية يحياها المتشبثون بديارهم هناك، تجريف كامل لكل معاني الدولة، إجهاض ممنهج ومتعمد لكل أبجديات الحياة.

ويضيف ميرغني في حديثه لـ”نون بوست” أن الأمور زادت بشاعة خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، حيث الاقتحامات المسلحة للمنازل وسلب محتوياتها، وطرد سكانها، وقتل كل من يغرد خارج سرب المتنازعين، لافتًا إلى أن الحياة في تلك الظروف باتت مستحيلة، وأنه طلب من بعض أبناء عمومته مغادرة البلاد فورًا إذا ما سنحت الفرصة، معتبرًا أن المشهد بشكله الحالي يشير إلى أن الأمر مستمر لفترات طويلة، وأن التعويل على إنهاء الحرب وإصلاح الحال وتعبيد الطريق للعودة مجرد أوهام وخيالات تجافي الواقع شكلًا ومضمونًا، على حدّ قوله.

الرأي ذاته ذهبت إليه أم محمد المسنّة السودانية التي تقيم بمحافظة الجيزة في مصر، والتي قالت إنها حين خرجت من الخرطوم في أغسطس/ آب الماضي ظنت أن إقامتها بمصر لن تتجاوز شهرين أو ثلاثة على أقصى تقدير، وأن الأمور ستهدأ في بلادها ثم تعود لأهلها وجيرانها، لكن شهرًا تلو الآخر تزداد الأمور سوءًا والوضع يتأزم أكثر فاكثر، حتى باتت العودة شبه مستحيلة، إذ هُدم بيتها وسُلبت محتوياته ولم يعد لها مكان هناك، هكذا تقول.

وأضافت أنه بدلًا من تجهيز الأمور للعودة للسودان كما كانت تخطط حين قدمت، إذ بها تطالب إخوانها في الخرطوم ببذل المستطاع لمغادرة الوطن في أقرب وقت، خاصة بعدما وصلت الجرائم إلى هذا المستوى غير المتوقع، منوهة أن الجميع، في إشارة إلى البرهان وحميدتي، يعمل لصالح حسابات خاصة ومكاسب شخصية على حساب ملايين السودانيين ممّن شردتهم أحلام الجنرالات الطائشة.

تهيئة الأوضاع لإقامة طويلة

“حين أيقنت أن الوضع مستمر وسيطول اضطررت لترتيب أموري في مصر وإقامة مشروع بسيط أنفق من عائده على أسرتي”، هكذا علق عبد الرحمن (55 عامًا) الذي يعمل مدرسًا في إحدى المدارس التابعة للقنصلية السودانية في الجيزة، لافتًا أن معظم السودانيين كانوا يظنون أن الحرب سُيسدل ستارها قريبًا، لكن مع هذا التصعيد وتجريف الدولة من كافة مقومات الحياة بدأ كثير من اللاجئين بإقامة مشاريع اقتصادية صغيرة ينفقون بها على أسرهم.

وأضاف عبد الرحمن في حديثه لـ”نون بوست” أن الشارع الذي يقيم فيه في منطقة الهرم بالجيزة بات فيه أكثر من 15 متجرًا سودانيًا، بين مطعم وعطارة وحلاقة ومكتب خدمات، منوهًا أن السودانيين باتوا ينافسون المصريين في مجالات تجارية بعينها، وأنهم استحوذوا على ثقة الكثير من الشعب المصري الذي بات يفضّلهم على غيرهم، على حدّ قوله.

كما أوضح أنه اضطر لنقل أبنائه إلى إحدى المدارس التابعة للقنصلية السودانية، وأن هناك عدة مدارس في مصر تم افتتاحها خلال العام الأخير فقط لاستيعاب الطلاب السودانيين، لافتًا أن كافة الأجواء تشير إلى ترتيب الأمور للبقاء في مصر لفترة طويلة في ظلّ صعوبة إنهاء الحرب في السودان، فضلًا عن إطالة أمد إعادة الأعمار بعدما أنهت المعارك على كافة مقومات الحياة هناك.

“رغم الوضع المأساوي الذي خلفته الحرب، إلا أن هذا لن يحول دون عودتي حينما تحين الفرصة”، هكذا علق الحقوقي السوداني حسن عبد الرحمن، عضو اتحاد المحامين العرب، والذي أشار إلى أن الحياة في مصر صعبة في ظل الأسعار المرتفعة وتعرضهم للابتزاز أحيانًا من بعض المصريين.

ولفت في حديثه لـ”نون بوست” أنه اضطر ترك بيته في الخرطوم بحري، وهي واحدة من أغنى مدن السودان نظرًا إلى قيمتها الصناعية الكبرى، بعدما وصلها المسلحون وأجبروا سكانها على النزوح وإلا القتل هو المصير المحتوم.

وأضاف أن الوضع هناك، بحسب ما يصل إليه من أخبار من أقاربه، يبعث على اليأس في احتمالية إعادة المياه إلى مجاريها وعودة الحياة مرة أخرى، فالنزوح يتواصل على مدار اليوم، ومن يغامر بالبقاء يعرّض حياته للخطر، منوهًا أن هناك مخططًا دوليًا لتفكيك السودان ولا يعرف أحد ما الهدف منه، وإن كان من يقف خلفه معروفون للجميع، مشددًا في الوقت ذاته على أنه سيعود إلى بلاده حين يلوح في الأفق بصيص أمل ولو كان وميضًا.

خسائر بالجملة

خلفت الحرب منذ منتصف أبريل/ نيسان 2023 خسائر فادحة على مستوى الأرواح والممتلكات، ورسّخت لكارثة إنسانية ربما تكون الأشرس في العقود الأخيرة، في ظل تجاهل المجتمع الدولي وإعلامه للمشهد السوداني، وترك الأجندات الإقليمية والدولية تعربد فيه بأريحية كاملة.

وبعيدًا عن أرقام الأمم المتحدة التي تتحدث عن 15 ألف قتيل منذ بدء الحرب، تشير لجنة الإنقاذ الدولية إلى 10 أضعاف هذا الرقم، 150 ألفًا، وفق تقديراتها الخاصة، بجانب نزوح أكثر من 12 مليون مواطن بين الداخل والخارج، وحاجة 25 مليون شخص من سكان البلاد البالغ عددهم نحو 44 مليون نسمة الملحّة إلى المساعدة الإنسانية والحماية، فيما يواجه 18 مليون شخص خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد في ظل نقص الغذاء والمياه والدواء والوقود.

كما دمرت الحرب الاقتصاد الوطني السوداني بصورة شبه كلية، حيث تذهب التقديرات إلى تجاوز الخسائر المباشرة على الاقتصاد الوطني نحو 100 مليار دولار، فيما دُمر أكثر من 90% من المصانع، وتعطل القطاع الخدمي بنسبة 75%، فضلًا عن تدمير القطاع الزراعي بمعدل 70%، الأمر الذي زاد من صعوبة الحياة المعيشية للمواطنين بعدما عُطلت الزراعة والصناعة، وهما القطاعان الأكثر استحواذًا على العمالة في البلاد.

وأمام تلك الأوضاع الكارثية، اقتصاديًا وإنسانيًا وسياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا، وتفريغ البلاد من سكانها، وفتح الساحة على مصراعيها أمام الأجندات الإقليمية والدولية، يواصل الجنرالات تدميرهم للسودان بداعي الوطنية وحماية مستقبل الشعب المكلوم، وسط جهود دبلوماسية -على استحياء- لاحتواء الموقف، قبل الوصول إلى طريق مسدود يقود المنطقة بأكملها إلى مستقبل مجهول.