ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب كل من: بيير بارثيليمي، صحفي وكاتب في صحيفة لوموند، وبيير لو هير، عالم وصحفي
أصيب الخبير البريطاني في الثقوب السوداء بالشلل بسبب مرض تنكسي ألمّ به منذ الستينيات. ولقد غادر كرسيه المتحرك، حيث تسمر جسده المريض، ربما ليلتحق ببعد زمكاني، حيث ستجول روحه بحرية مطلقة. توفي عالم الفيزياء والكونيات البريطاني، ستيفن هوكينغ، الذي يعتبر من أشهر العلماء المعاصرين، عن عمر يناهز 76 عاما، حسب ما أعلنت عنه عائلته يوم الأربعاء 14 آذار/ مارس.
في هذا الإطار، نشرت وكالة أنباء البريطانية “برس أسوسييشن” عن أبنائه، لوسي وروبرت وتيم، قولهم “نشعر بحزن عميق لوفاة والدنا الحبيب اليوم. (…) لقد كان عالما كبيرا ورجلا غير عادي، سيعيش عمله بيننا لسنوات عديدة”.
في الواقع، إن جسد ستيفن هوكينغ مفارقة حية، فاسمه مشهور جدا بين العوام، حتى غزواته في التيار المتعرج لعلم الكونيات، بين الانفجار الكبير والثقوب السوداء والسمات الخاصة في الفيزياء الفلكية، التي كتب حولها ما لا يقل عن 130 مقالا بحثيا، لا يمكن فهمها إلا من قبل ثلة من المنظرين ذوي المستوى الرفيع. ويعود الفضل الأول في شهرته إلى أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم، “تاريخ موجز للزمن”، الذي نشر سنة 1988 وبيعت منه الملايين من النسخ.
أيقونة
يدين ستيفن هوكينغ بهذه الشهرة إلى التباين الذي يسبب الاستياء بالقدر الذي يثير الإعجاب، بين عجز جسدي فظيع قلل من قدرته على التعبير عن نفسه إلا باستخدام إصبع واحد سليم وانقباض للخد بشكل يُفعل المزج الصوتي؛ وقوة فكرية استثنائية إلى جانب شعور قوي بروح الدعابة. إن هذه الازدواجية، التي بلغت ذروتها، هي التي جعلت منه أيقونة. بل رمزا لانتصار الفكر على الجسد، في صورة تألق فيها وجه الطالب الأبدي الذي لا تستطيع الابتسامة أن تذبل على شفتيه المطبقتين.
ولد ستيفن هوكينغ في الثامن من كانون الثاني/ يناير سنة 1942 في أكسفورد، ولم يبد هذا الطفل إلا القليل من الاستعداد للدراسة، بشيء من الكسل، مرسلا خياله في شغف لابتكار ألعاب الطاولة بقواعد أكثر دهاءً، وشغف في تجربة متعة إتقان قوانين العالم الافتراضي. كما كان هوكينغ يعد الألعاب النارية مع أصدقائه في مشتل والده، ويشارك في صناعة الكمبيوتر البدائي. وقد ظهرت عليه قرائن كثيرة تدل على شغفه بالعلوم الفيزيائية، التي تخصص في دراستها سنة 1959 في جامعة أكسفورد.
في الحقيقة، لم يكشف ذلك عن نبوغه فقط، وإنما كشف أيضًا عن فضول ومثابرة غير مألوفة. وسنة 2003، روى زميله أستاذ الفيزياء النووية في جامعة نوتردام بإنديانا، غوردون بيري، “لقد حضرنا مع بعض دورات فردية كل أسبوع، وعند بلوغ نقطة محددة أصبح واضحا أننا لا يمكن أن نسير حذوه. وفي نهاية السنوات الثلاث التي قضيناها معا، كنا على اقتناع تام بأنه ألمع طالب عرفناه. وفي أحد الأيام، أدركنا مدى جهلنا بمجال الفن. وما لبث أن أصبح في فترة تتراوح بين أسبوع إلى أسبوعين من الخبراء، وامتلأت غرفته بالكتب التي كان يستعيرها من المكتبة”.
من أكسفورد إلى كامبريدج
بالنسبة للآخرين، كان هوكينغ لا يختلف عن بقية الطلاب. فهو يقضي طوعا لياليه في لعب البريدج، وينشط مع فريق التجديف الجامعي ليجلس في مقعد الربان، إلا أن دستوره السقيم كان يمنعه من التعامل مع المجاديف. كما يتذكر غوردون بيري، أن الطلاب كانوا يقضين “فلقد قضى عدة ليال في الأسبوع يلعب البريدج، وأعتقد أنها كانت أول علامة دلّت على أن هناك خَطبا ما في صحته، حيث واجه مشكلة في مسك أوراقه. كما سقط في سنته الأخيرة في جامعة أكسفورد من على درج الجامعة وفقد ذاكرته لبضع ساعات”.
سنة 1979، وبعد مرور ثلاثة قرون من وفاة إسحاق نيوتن، تولى هوكينغ كرسي الرياضيات من جامعة كامبريدج، وغادره في أواخر سنة 2009. ثم تحول للعمل على “نظرية كل شيء”، لتوحيد القوى الأساسية الكبرى
سنة 1962، سافر هوكينغ لدراسة علم الكونيات في جامعة كامبريدج، حيث بدأ عمله على أطروحة حول النسبية العامة. ولم تمض أشهر قليلة حتى تم تشخيص مرضه، بازدياد وتيرة الاضطرابات الحركية والتصلب الجانبي الضموري، الذي يُعرف أيضًا بمرض “شاركو”. ويتمثل هذا المرض في تنكس الخلايا العصبية الحركية ما يؤدي إلى الشلل. وفي ذلك الوقت، تحدث الأطباء عن احتمال بقائه على قيد الحياة لمدة سنتين أو ثلاث سنوات على أقصى تقدير.
رغم المرض، تغلب هذا الشاب على الصدمة وهزم الصعاب. ولعل ذلك ما رواه بنسفه في سيرته الذاتية بعنوان “من أنت سيد هوكينغ؟” لمؤلفه أوديل جاكوب: “بدا لي من السخف أن أشرع في العمل على بحثي لأنني لم أكن أعتزم العيش طويلا بما يكفي لإنهاء شهادة الدكتوراه. ومع مرور الوقت، تبين أن المرض يتباطأ. (…) ثم خطبت امرأة شابة تدعى جين وايلد، التي منحتي سببا للعيش. ولكن كان هذا يعني أيضا أن علي العثور على عمل إذا أردت الزواج”. لقد كانت قصة الحب بين ستيفن هوكينغ وجين وايلد محور أحداث فيلم “قصة رائعة من الزمن” الذي صدر سنة 2014، الذي جسد شخصيته الطالب البريطاني، إيدي ريماين.
دراسة الثقوب السوداء
بعد سنوات خصبة جدا في كامبريدج، استنبط هوكينغ مع زميله روجر بنروز نظرية تحمل اسميهما، توضح أن النسبية العامة لألبرت آينشتاين تعني أن المكان والزمان قد نشآ في الانفجار الكبير، وسينتهيان في ثقوب سوداء. وهو ما يسميه علماء الكونيات “بالسمات”، وهي نقاط ذات كثافة وانحناء زمكان غير محدود.
لقد ركز هوكينغ عمله على الثقوب السوداء، هذه الأجسام السماوية الضخمة ذات الحقل المغناطيسي المكثف جدا. ووفق علم الميكانيكا الكلاسيكية، لا يوجد مادة أو ضوء قادر على الهروب من هذا الحقل. ومن خلال تطبيق قوانين ميكانيكا الكم، أثبت أن هذه الجحور المظلمة تحدث تسريبات، قد تنبعث منها إشعاعات. وقد أطلق على هذه الظاهرة اسم “إشعاع هوكينغ”، أو “تبخر الثقوب السوداء”، و ستكون واحدة من الانجازات النظرية الأكثر أهمية في التاريخ.
ستيفن هوكينغ في مكتبه بكامبريدج في المملكة المتحدة، في أيلول/ سبتمبر سنة 2007.
يبقى السؤال عن المعلومات التي يحملها هذا الإشعاع أحد أكبر ألغاز الفيزياء الحديثة. وسنة 1997، رفع هوكينغ الرهان ضد الفيزيائي جون بريسكيل، من جامعة كالتيك للتكنولوجيا بكاليفورنيا، مبينا أن المعلومات حول المادة التي ابتلعها الثقب الأسود فقدت بلا رجعة. ثم بعد سبع سنوات، اعترف هوكينغ بخطئه؛ في فرضية أنه إذا انتظرنا اختفاء الثقب الأسود فسترجع بيانات الجسيمات المارة في الثقب، وبهذا فشل ستيف في الرهان وسلم بريسكيل جائزته، التي كانت عبارة عن موسوعة حول لعبة البيسبول.
“نظرية كل شيء”
سنة 1979، وبعد مرور ثلاثة قرون من وفاة إسحاق نيوتن، تولى هوكينغ كرسي الرياضيات من جامعة كامبريدج، وغادره في أواخر سنة 2009. ثم تحول للعمل على “نظرية كل شيء”، لتوحيد القوى الأساسية الكبرى، لاثنين من النظريات العملاقة المتعارضة في الفيزياء وهما نظرية النسبية العامة التي تحكم بشكل كبير ولا نهائي، ونظرية الكم التي تصف تفاعلات المادة في نطاق الجسيمات. في نفس الوقت، كان ستيفن هوكينغ يدرس إمكانية السفر عبر الزمن واحتمال وجود أكوان متعددة.
بعد ما يقارب عشرين سنة من النجاح الساحق الذي حققه كتاب “تاريخ موجز للزمن”، أقنعته ابنته لوسي سنة 2007 بكتابة مؤلفات تكون في متناول الأطفال بمساعدة أحد طلابه في مرحلة الدكتوراه، الفرنسي كريستوف غالفارد. وقد تمكن من إنتاج كتاب تمهيدي عنوانه “جورج وأسرار الكون” (بوكيت الشباب)، الجزء الأول من الثلاثية.
ستيفن هوكينغ في مؤتمر صحفي في قصر لا مونيدا الرئاسي في سانتياغو دي تشيلي، سنة 2008.
خلال مسيرته، تهاطلت عليه الجوائز، فمُنح لقب قائد الإمبراطورية البريطانية سنة 1982، كما حصل سنة 2006 على وسام كوبلي أبرز الجوائز العلمية التي تمنحها الجمعية الملكية في لندن. وفي ذروة سمعته، بقي هوكينغ على بعد مسافة واضحة من “الصخب” الذي كان هو موضوعه الإعلامي. وعلى أحد مواقع الواب، صرح “أنا متأكد من أن إعاقتي لها علاقة بشهرتي، فهم بحاجة إلى شخص من طينة آينشتاين يعتبرونه مرجعا لهم. ولكن بالنسبة للصحفيين، مقارنتي بآينشتاين سخيفة، فهم لا يفهمون عملي أو عمل آينشتاين”.
مباراة بوكر مع نيوتن وآينشتاين
إلى هؤلاء الصحفيين، قال هوكينغ بصوته المعدني “يعرفني الناس في جميع أنحاء العالم، ويريدون أن يلتقطوا صورا تذكارية معي. إنهم يريدون بطلاً من مجال العلوم من طينة آينشتاين. إني أتطابق مع الصورة النمطية للعبقرية المعاقة لأن إعاقتي واضحة جدا. ولكنني لست عبقريًا بعبقرية آينشتاين”.
في مجموعة من النصوص الفيزيائية وعلم الكونيات الكبيرة، نشرت سنة 2003 في كتاب بعنوان “على أكتاف العمالقة” لدار دوناد، صرح هوكينغ بشكل ضمني ومتواضع بأنه وريث كوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وآينشتاين. كما ظهر أيضا في إحدى حلقات سلسلة ستار تريك وهو يلعب لعبة البوكر مع نيوتن وآينشتاين. وبشكل أقل إعجابا بصورته، ظهر في عدة حلقات من عائلة سمبسون، وأعار صوته الرقمي لأغنية بينك فلويد “استمر في الحديث”.
لكن، هل هي الشهرة الطاغية أم الإعاقة التي كان يصعب على المقربين منه تحملها؟ لم تستطع عائلته التحمل، فكان الفراق سنة 1990 عن زوجته جين، وتزوج مرة أخرى سنة 1995 بإحدى ممرضاته، ثم طلقها هي الأخرى سنة 2006.
لمدة أربع دقائق، تمكن ستيفن هوكينغ سنة 2007 من الهروب من كرسيه، لفترة مقسمة على ثماني مراحل خلال رحلة مكافئة في جو منعدم الجاذبية، على متن طائرة معدة خصيصا لهذا الغرض
خلال السنوات الأخيرة من حياته، عندما كان مشلولا بشكل تام تقريبا، ومحاصرا في جثة هامدة، واصل ستيفن هوكينغ مساعدة الطلاب والزملاء، في تغذية الفيزياء النظرية بأفكاره. وفي شباط/ فبراير من سنة 2016، كان متحمسا جدا باكتشاف موجات الجاذبية، حيث قال “من المثير معرفة أن التوقعات التي ذكرتها منذ أكثر من أربعين عاما مؤكدة من خلال المراقبة، وأنا على قيد الحياة لأشهد ذلك”. وقبل أيام قليلة، تم تحديث تقرير على أرشيف مسودات الأوراق العلمية الإلكترونية المكتوبة “أركايف”، الذي شارك في توقيعه توماس هيرتوغ وكان موضوعهحول نشأة الكون.
إلى جانب ذلك، سمح الباحث البريطاني لنفسه باتخاذ مواقف خارج مجال عمله المفضل، وكان لها تداعيات عالمية بسبب سمعته. ففي سنة 2014، عبر ستيفن هوكينغ عن قلقه بشأن التطورات السريعة في مجال الذكاء الاصطناعي، مبديا خوفه من أن يؤدي ذلك إلى انقراض النوع البشرية. وفي نهاية سنة 2016، أعرب هوكينغ عن خوفه من أن تصبح الأرض غير قابلة للعيش، داعيا للبحث عن كوكب آخر. وفي هذا السياق، أجابه هوبرت ريفز بحماس “المهم هو أن نتعلم العيش على الأرض، وأن نعيش في وئام مع الطبيعة. إذا لم نتعلم ذلك فماذا سنفعل؟ سنحمل مشاكلنا إلى مكان آخر وستكرر القصة من جديد”.
ستيفن هوكينغ خلال رحلة مكافئة في انعدام الجاذبية، في طائرة مصممة خصيصا لهذا الغرض، 26 نيسان/ أبريل سنة 2007
لمدة أربع دقائق، تمكن ستيفن هوكينغ سنة 2007 من الهروب من كرسيه، لفترة مقسمة على ثماني مراحل خلال رحلة مكافئة في جو منعدم الجاذبية، على متن طائرة معدة خصيصا لهذا الغرض. وقد احتفظ بصور لهذا الهروب في مكتبه في كامبريدج، في مكان بارز إلى جانب ملصق لمارلين مونرو.
خلال نفس السنة، تقدم ستيفن هوكينغ بطلب للقيام برحلة فضائية. وقد صرح في أحد الأيام، “قد لن نتمكن إلى الأبد من تكوين فهم كامل للكون. وأنا سعيد بهذا إلى حد ما. فبمجرد اكتشاف النظرية المطلقة، ستبدو العلوم مثل تسلق جبل إفرست. فالنوع البشري بحاجة إلى رهان فكري. لذا قد يكون من الممل أن تكون إلها وليس لديك ما تكتشفه”.
المصدر: لوموند الفرنسية