ليست المفاوضات غير المباشرة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي أقل صعوبة من المعركة الميدانية التي تخوضها بجسارة، ربما لحجم العبء الملقى على مفاوضي المقاومة الذي يعظّمه حجم تضحيات الشعب الفلسطيني الذي تحمّل أهوال حرب الإبادة الجنونية.
لم يكن للمقاومة أن ترفع وتيرة احترافيتها الميدانية دون تعزيزها لمناعتها السياسية، فهدف الفعل العسكري الاستراتيجي حصدَ ثمار الفعل الميداني بتحقيق أهداف متخذي القرار وتحقيق نتائج سياسية.
لذا كان لزامًا على المقاومة التي ضربت الضربة الأولى في المواجهة الحالية التجهّز لعملية تفاوضية طويلة وصعبة، واستخلاص الدروس من التجارب التفاوضية مع الاحتلال، تجاربها أو التجارب العربية الأخرى، ودراسة سلوكه وتقدير شكل وطبيعة مواقف الأطراف المؤثرة في القرار الإسرائيلي، من الأجهزة الأمنية، والجيش والاستخبارات العسكرية فيها، والحكومة والمعارضة في مشهدها السياسي، ودراسة الحالة الدولية وتحولاتها.
صاغت المقاومة استراتيجيتها التفاوضية منذ اليوم الأول لـ”طوفان الأقصى”، فلم تتسم بالجمود، بل بالتدحرج والتطور تبعًا للتقييم والتقدير المستمرَّين للمشهد وتطوراته، فقدّمت صياغات متعددة للمطالب وطبيعتها، أبدت فيها مرونة وصلابة ارتباطًا بترتيب الأولويات وطبيعة المراحل.
سمات استراتيجية “إسرائيل” التفاوضية الرئيسية
تجارب العرب في المفاوضات مع “إسرائيل” طويلة، ونهايتها مريرة غالبًا، خصوصًا أن سمات تفاوضية رئيسية تجمع حكوماتها على اختلافها، أبرزها المماطلة والمراهنة على عامل الوقت، واستعمال الضغط الميداني لانتزاع تنازلات، ما وصفه الكاتب الإسرائيلي آري شافيت، في كتابه “أرض ميعادي“، بأن “إسرائيل تستخدم أحيانًا تكتيك تأجيل القرارات للحصول على شروط أفضل أو لاستنزاف الطرف الآخر”، وسبق وقال وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر، إنها “تستغل المفاوضات وسيلة لكسب الوقت وتعزيز موقفها على الأرض”.
وحفلت التجارب بتلاعب الاحتلال بالمصطلحات والمفردات واستخدام الوسطاء، خاصة الولايات المتحدة، في تمرير صيغ مبهمة، من ذلك اتفاق أوسلو وصيغه الملتفّة غير الحاسمة التي فسّرها الاحتلال لصالحه، وكامب ديفيد وتقديم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر عهودًا للرئيس المصري الراحل أنور السادات لم تلزم “إسرائيل”، إذ تمسكت بنصّ الاتفاقية في وقت عدّ فيه السادات أن ما دار بينه وبين كارتر جزءًا ضمنيًّا من الاتفاق.
بجانب ذلك، يصبح التفاوض أكثر تعقيدًا مع حكومة يرأسها بنيامين نتنياهو، صاحب “عقيدة اللاحل” حسب وصف الباحث في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت، إذ يحوّل نتنياهو المفاوضات من أداة تسوية إلى وسيلة لتكريس الوضع القائم، وغطاء لأفعال تتناقض مع ما يتفاوض بشأنه “على نحو جليّ ومفضوح للغاية”.
هذا في وقت يكبّله تحالف يهيمن فيه شريكا الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، اللذان ما انفكا يبتزانه بإنهاء الائتلاف في حال التوصل إلى اتفاق، ورفضه التسليم بفكرة إجهاز السابع من أكتوبر على مستقبله السياسي بوصفه رئيسًا لوزراء “إسرائيل”، وسعيه المستمر إلى محاولة استثمار الوقت وإطالة أمد الحرب، بحثًا عن صورة نصر تغيّر المعادلة وتعيده إلى صدارة المشهد السياسي الإسرائيلي.
من الكل مقابل الكل.. إلى صفقة إنسانية
قدّمت المقاومة في الأيام الأولى للحرب عرضها الأول لصفقة تبادل شاملة كطريق سريعة لإنهاء مسألة الأسرى واستعادة الاحتلال أسراه، عنوانها “الكل مقابل الكل”، فتطلق سراح أسرى الاحتلال مقابل تبييض سجون الاحتلال من الأسرى الفلسطينيين والعرب.
ردَّ الاحتلال بالقوة الغاشمة لدفع المقاومة إلى الانهيار والتفكك، أو تأليب مجتمعها عليها وتفكيكه ودفع القطاع إلى لفظها والانقلاب عليها، ما كان سيعني جني الاحتلال المجاني لأهداف الحرب دون تقديمه ثمنًا مقابل الأسرى.
إن التفويض الدولي الكبير الذي حصلت عليه “إسرائيل” في حربها والدعم الأمريكي اللامحدود الذي وصل إلى حدود الشراكة المباشرة في العدوان، ونجاح نتنياهو في إنشاء مجلس للحرب بشراكة “معسكر الدولة” بزعامة بيني غانتس، الجزء الأساسي من المعارضة صاحب الوزن المعنوي والنوعي بوجوده ووجود غادي أيزنكوت، رئيسي الأركان السابقَين، في مطبخ الحرب المصغّر؛ أعطى المقاومة صورة واضحة بشأن طريقة تعامل الاحتلال مع تجليات “طوفان الأقصى”، بما فيها ملفّا الأسرى وإنهاء الحرب.
تركت المقاومة للميدان فرصة تشكيل صورة واضحة لكون غزة لا تصلح لإسقاط نموذج آخر عليها، وأن رهان الاحتلال بعنجهيته على نجاح القتل والتدمير في انهيار المقاومة أو انتزاع تنازلات جوهرية منها لن ينجح، ورهانات حلفائه على قدرته على انتزاع نصر سريع وهزيمة ساحقة للمقاومة، تحت حسابات فارق القدرات الهائل بين المقاومة وجيش الاحتلال، رهانات بعيدة عن إدراك حجم البنية التحتية للمقاومة وقدرتها على الصمود والمواجهة.
استدعت تجليات الميدان وسيرورة الحرب إدراك المقاومة أنّ خيار “الكل مقابل الكل” لن ينجح في الوصول إلى صفقة تبادل وإيقاف العدوان على غزة دون الخوض في مسار تفاوضي، ما استدعى إبداءها مرونة وانفتاحها على المساعي التفاوضية، وأن ترسم ملامح استراتيجيتها التفاوضية في مواجهة محاولة الولايات المتحدة اقتصار إطار وشكل المفاوضات على إنجاز هدنة إنسانية مقابل إطلاق سراح الأسرى، ما تطوّر تدريجيًّا إلى تبادل محدود في هدنة نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
أبدت المقاومة مرونة في قبول مقترح الهدنة الإنسانية والاتفاق على تبادل جزئي، لدحرجة المشهد في اتجاه هدن متتالية تنتهي بصفقة شاملة للأسرى، أما الاحتلال فلم يلتزم ميدانيًّا بشروط الاتفاق، واستغل الهدوء لتحديث بنك أهدافه والبحث عن خيوط ترشده إلى إمكانية تنفيذ عمليات تحرير بالقوة لأسراه، واستثمر الصفقة الجزئية لتخدير أهالي الأسرى وتهدئة حراكهم، وتخفيف حدّة الانتقادات الدولية التي تصاعدت ليستطيع تصعيد عملياته، فنقل المناورة البرية إلى جنوبي القطاع وبدأ عملية خان يونس فور انتهاء الهدنة.
دفعت استخلاصات تلك الصفقة المقاومةَ إلى إعادة النظر في القبول بالصفقات الجزئية، وتثبيت مبدأ أن لا صفقات جزئية أو إطلاق لسراح الأسرى دون الوقف الكامل لإطلاق النار، لقطع الطريق أمام استعمال الاحتلال الهدن في تحصيل تفويض دولي وداخلي لاستمرار العدوان، وحرمان المقاومة التدريجي من ورقة الأسرى.
إن تجربة تلك الصفقة الإنسانية السلبية، وتثبيت المقاومة شرط الوقف الكامل لإطلاق النار قبل أي اتفاق قادم، ورهان الاحتلال على نجاح عملية خان يونس في تحقيق نتائج نوعية، أو انتزاع صورة نصر أو الضغط الأقصى على المقاومة لانتزاع تنازلات جوهرية منها، أدخلت المفاوضات في جمود ينتظر في خلاله الجميع تجليات الميدان.
تحوُّل الميزان التفاوضي لصالح المقاومة
شكّلت شهور الحرب الأربعة الأولى شهور الضغط الأقصى على المقاومة، وبدأت الموجة في الانكسار بتلاشي غبار زخم المدافع الأكبر تدريجيًّا، واتضاح ملامح الفشل الإسرائيلي الكبير في إيجاد صورة نصر، وشكّلت عدة مواضع ملامح الميل التدريجي في الميزان التفاوضي لصالح المقاومة، أبرزها:
فشل عملية خان يونس: بعد فشل عمليته الكبرى غربي غزة واقتحام مجمّع الشفاء الطبي، وتكرار الفشل في شمالي غزة وشرقيها، سوّق الاحتلال كثيرًا لأهمية عملية خان يونس، وقدّم المحافظة بوصفها مركز القيادة الأكثر أهمية للمقاومة، وادّعى وجود مختطفيه وقيادة المقاومة فيها، وحشد للعملية ميدانيًّا وللرأي العام، ما خلق حولها هالةً كبرى.
وأنتج فشل الاحتلال في اكتساب أوراق استراتيجية فيها وفي تحقيق نتائج فيها بعد 4 شهور من القتال، ونجاح المقاومة في تنفيذ كمين كبير في المنطقة الحدودية في آخر أيام العملية، الدليل الأكبر على حجم فشل العملية التي تحوّلت ضخامة التعويل عليها إلى فشل أعمق، حتى في وجدان أقرب حلفاء “إسرائيل” الذين باتوا على اقتناع تام بانعدام جدوى عملياتها العسكرية، ما منح المقاومة دفعة معنوية مهمة وميلًا لصالحها في الميزان التفاوضي.
مجزرة مفترق النابلسي: أحدثت مجزرة الاحتلال في 29 فبراير/ شباط 2024 بحقّ مئات الشبان الفلسطينيين، المنتظرين لشاحنات المساعدات على شارع الرشيد غربي مدينة غزة، واستشهاد أكثر من 100 وإصابة أكثر من 700، ومشاهد القتل وأكياس الطحين المخضّبة بالدماء، صدمة وارتدادات كبرى في الرأي العام العالمي، وتوسيعًا لحجم الضغط المتزايد على كاهل داعمي الاحتلال.
قصف موظفي “المطبخ العالمي”: أحدث مقتل موظفي “المطبخ العالمي” بقصف مسيّرات الاحتلال سياراتهم وسط القطاع في 2 أبريل/ نيسان 2024، غضبًا دوليًا عارمًا، خصوصًا بعد قول الاحتلال إن الاستهداف “نتج عن خطأ”، ما عزّز الرواية الفلسطينية بشأن حجم الضحايا من المدنيين الذين يدّعي الاحتلال أنهم ضمن بنك أهدافه، خاصةً أن “المطبخ العالمي” مؤسسة شريكة في مشروع الميناء البحري الأمريكي، وتعمل وفق المعايير الإسرائيلية وبتسهيلات إسرائيلية، فشكّلت الحادثة دفعة مهمة في زيادة الضغط على الاحتلال وتحسين وضع المقاومة التفاوضي.
الصمود وفشل المجازر والتجويع في تفريغ شمالي غزة من سكانه: استخدم الاحتلال صنوف القتل والعدوان بحق أهالي شمالي القطاع الذين لم ينصاعوا لدعوات الإخلاء والتهجير، للانتقام والضغط على من تبقّى منهم للمغادرة إلى الجنوب، وشكّل صمودهم الأسطوري عاملًا هامًّا في إفشال محاولات تحويل الشمال إلى منطقة عازلة خالية من السكان، ما شكّل إضافة مهمة لصالح ميزان المقاومة التفاوضي.
تصاعُد ضربات الجبهات الإسنادية: أسهم تصاعد حجم ووتيرة الجبهات الإسنادية المستمر، خصوصًا في شمالي فلسطين المحتلة، وفي البحر الأحمر وبحر العرب وضربات “المقاومة العراقية”، في زيادة الضغط على الاحتلال، وعلى الولايات المتحدة التي تشكّل زيادة خطر توسّع الحرب على غزة إلى حرب إقليمية عامل ضغط كبير عليها، خصوصًا على أبواب موسم انتخاباتها الرئاسية، ويزيد مأزق الاحتلال عجزه عن تحقيق الردع ومنع توسُّع الهجمات، ما شكّل إضافة لصالح موقف المقاومة التفاوضي، وتربط الجبهات التهدئة فيها بالاتفاق مع المقاومة الفلسطينية.
تصاعد الحراك الطلابي العالمي: أدّى التصاعد الكبير للحراك الطلابي المساند للشعب الفلسطيني في الجامعات الأمريكية، وتوسّعه ليشمل جامعات أوروبية، إلى زيادة الضغط على الإدارة الأمريكية وجو بايدن الذي يسعى إلى حصد دورة رئاسية جديدة، ما زاد الضغط الأمريكي على حكومة الاحتلال للوصول إلى اتفاق لاستعادة الهدوء، لتمرير الموسم الانتخابي وترميم فرص الأخير الانتخابية.
“إطار باريس” ودبلوماسية التعامل مع المقترحات
شكّل إعلان “إطار باريس” العنوان الأهم لانكسار التصلب الإسرائيلي في التعامل مع ملف المفاوضات، رغم أن مخرج قمة باريس لم يحمل سوى عموميات فضفاضة لشكل أية صفقة قادمة لإطلاق سراح أسرى الاحتلال لدى المقاومة.
صاغت المقاومة ردّها على قاعدة “نقبل، ولكن”، واستثمرت غياب التفاصيل عن الإطار المقدّم، وحوّلت ردّها إلى وثيقة تضع محددات لعناوين تفاوض لا يمكن تجاوزها، فتضمن ردّها تفاصيل محددة بشأن مطالبها، لم تغفل فيها الحاجة الآنية لمدخل الاتفاق المتمثل بإيقاف الحرب والوقف الشامل لإطلاق النار، وسحب جيش الاحتلال من أراضي القطاع، وحاجات الإعمار واحتياجات الإغاثة وتأمين المسكن، انتهاءً بأفق المعركة الاستراتيجي المتمثل بالمسار السياسي والتصدي لمخططات تهويد الأقصى، والصفقة الأسرى الكبرى.
أخذت المقاومة في الحسبان ملاءمة مطالبها للمرحلة الأولى العناوين المجمع عليها من المجتمع الدولي حول كونها حقوقًا لا لبس فيها، خصوصًا المرتبطة بالمساعدات والإغاثة والإعمار، وعودة السكان إلى أماكن سكنهم، ما ساهم في إحراج دول عديدة بما فيها الحليفة للاحتلال، كالولايات المتحدة التي وصفت عدة ردود مقدمة من المقاومة بكونها “معقولة ومقبولة”.
تدريجيًا، حوّل صبر المقاومة الاستراتيجي وثيقة ردّها الأول على “إطار باريس” إلى أرضية التفاوض، فانتزعت مطالبها تدريجيًا، وأبدت مرونة في عناوين أهمها مفاتيح تبادل الأسرى، مقابل التصلب في 3 عناوين رئيسية مثّلت خطوطًا حمراء: الوقف الشامل لإطلاق النار، وعودة النازحين إلى أماكن سكنهم خصوصًا أهالي شمالي قطاع غزة؛ وانسحاب جيش الاحتلال من أراضي القطاع.
والتمسّك بالعناوين الثلاثة السابقة هو تمسّك بالضمانات الميدانية لتقليص احتمالات عودة العدوان على القطاع إن غدر الاحتلال، أو على الأقل تحويل عودته إلى مهمة صعبة لا يمكن فيها استئناف الاحتلال عدوانه من حيث انتهى.
عن كثب.. ما الذي تغير في مفاوضات حماس مع الاحتلال بعد طوفان الأقصى؟
سمات الاستراتيجية التفاوضية للمقاومة في الطوفان
الشراكة الوطنية في النقاش والمخرجات: منذ اللحظة الأولى لتدشين المسار التفاوضي، حرصت حماس على إخضاع العروض والمقترحات المقدّمة إليها للنقاش الوطني الواسع، وبالتحديد فصائل المقاومة المنخرطة في ميدان قطاع غزة، ما أكدته عدة فصائل فلسطينية.
وفي نموذج لشكل وطبيعة التنسيق، شهدت العاصمة التركية اجتماعًا ثلاثيًا لقادة حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، شمل نقاش جهود وقف العدوان على القطاع وردّ المقاومة على المقترحات، وسلّم الردّ الأخير على المقترح المصاغ إسرائيليًا الذي أعلنه بايدن من قبل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة.
تجنُّب ردود الأفعال ارتباطًا بالتطورات الميدانية: على مدار محطاته، تعاملت المقاومة بعقل بارد في ملف التفاوض، وتجنّبت ردود الأفعال المرتبطة بالسلوك الميداني، ولم تمنح الاحتلال فرصة لتفجير المفاوضات أو التأثير على مسارها بالضغط الميداني أو الاغتيالات، فتجنّبت اتخاذ قرارات بالانسحاب من المفاوضات أو تجميدها ارتباطًا بالميدان، وعدّت ما يجري فيه جزءًا من المعركة المستمرة وسلوكًا متوقعًا، وأن الاغتيالات والمجازر في جوهر عملية التفاوض والإصرار على عنوان إيقاف الحرب.
الصبر الاستراتيجي والتصميم على الخطوط الحمراء: تعاملت المقاومة مع ملف التفاوض بنفس طويل وصبر استراتيجي، وتمسكت بمطالبها الرئيسية على مدار شهور التفاوض بمعزل عن الضغوط الموجّهة، فانتزعت تدريجيًا المطالب التي سبق ورفضها الاحتلال كلها.
ترتيب الأولويات وتوزيع المرونة والتصلُّب: رتّبت المقاومة أولوياتها في التفاوض، وحدّدت العناوين التي ستخضعها للمرونة مقابل العناوين غير القابلة للتفاوض، فأبدت مرونة في ملف تبادل الأسرى وعددهم وحتى تفاصيل المراحل، ورفضت أي تنازل يمسّ جوهر العناوين الثلاثة المرتبطة بوقف إطلاق النار وعودة النازحين إلى أماكن سكنهم وانسحاب جيش الاحتلال من القطاع، ما كثّف الضغط على الاحتلال لتقديم تنازلات في هذه العناوين.
إشراك المختصين في دراسة العروض وصياغة الردود: تجنبت المقاومة حصر نقاش العروض المقدمة في هيئاتها القيادية، فأشركت طواقمها الفنية والمهنية والمختصين في تحليل النصوص والمضامين والحقوقيين ولجان التقدير والتحليل في تحليل العروض ونصوصها، وتجنّب الوقوع في فخاخ نصية أو قانونية، وصياغة الردود بما يتناسب وحاجة المقاومة، مع فحص وتحليل العروض باللغتَين العربية والإنجليزية.
المواقف القطعية في مواجهة مناورات الاحتلال: قدّمت المقاومة مواقف قطعية في عناوين التفاوض الرئيسية، وتجنّبت الانجرار إلى مناورات الاحتلال والصيغ الملتفّة والمبهمة، خاصة في عناوين الوقف الشامل لإطلاق النار، والسماح بعودة النازحين إلى أماكن سكنهم، وتفاصيل عملية التبادل.
تنويع وتحديد مستوى وفود التفاوض لتجنّب الضغوط المباشرة: نوّعت المقاومة مستويات الوفود، بين وفود مقررة ووفود غير مقررة مهمتها الاستماع أو تسليم واستلام المقترحات، لتجنّب خضوع الوفود المقررة لضغط الوسطاء المباشر، وانتزاع تنازلات من المفاوضين في أروقة التفاوض غير المباشر.
رفع كلفة التبادل في مواجهة قتل الاحتلال أسراه: واجهت المقاومة حرص الاحتلال على قتل أسراه، ومحاولته خفض عددهم لخفض المقابل، برفع عدد الأسرى المطلوب إطلاق سراحهم مقابل من تبقّى من الأسرى الأحياء.
رفض الخضوع لترهيب المواقف الدولية: تعاملت المقاومة بصلابة في مواجهة الضغوط الدولية الهادفة إلى دفعها لقبول متسرّع للمقترحات المقدّمة، وتكثّف الضغط في مواضع أبرزها الضغط لتمرير الصيغة الأولى لـ”إطار باريس”، وآخرها وأكبرها الضغط لتمرير المقترح الإسرائيلي الذي أعلنه الرئيسي الأمريكي.
ونفّذت الولايات المتحدة تحشيدًا دوليًا كبيرًا له، توّجته بقرار لمجلس الأمن لضمان أقصى ضغط ممكن على المقاومة لدفعها إلى الموافقة وتجاوز الملاحظات الجوهرية لها عليه، ما واجهته المقاومة بالنفس الطويل والمقترحات المقابلة وتجاوز الضغوط رغم كبرها.
ملاءمة فعل المقاومة الميداني مع الوتيرة التفاوضية: عمدت المقاومة إلى إنجاز اقتران دائم بين فعل المقاومين في ميدان المواجهة في قطاع غزة ووتيرة جولات المفاوضات، إذ تخفّض من حجم نيرانها وضرباتها النوعية وتصعّدها ارتباطًا بتلك الوتيرة، بما يشمل إرسال رسائل قوة حول سلامة البيئة العملياتية وغرف القيادة والسيطرة وخطوط الاتصال لديها، وتبديد رهانات الاحتلال على الضغط الميداني في انتزاع تنازلات، وحرمانه من أوراق ضغط.
وشمل ذلك الرشقات الصاروخية بعيدة المدى، واستهداف غرفة القيادة والسيطرة التي تجهّز للعملية العسكرية على رفح، بعد أن حوّل الاحتلال ورقة التهديد باجتياح المحافظة إلى عنوان ضغط مستمر على المقاومة.
ربط الحرب النفسية على جمهور الاحتلال ورسائل المقاومة بجولات المفاوضات: ربطت المقاومة وتيرة رسائلها للجبهة الداخلية في “إسرائيل”، خاصة لأهالي الأسرى، وزيادة زخمها في الفترات التي تمرّ فيها العملية التفاوضية بمراحل من الجمود أو النقاش المحتدم داخل الحكومة الإسرائيلية، لتعزيز أسهم المقاومة وتعزيز الرأي الدافع بأولوية الوصول إلى صفقة، على أولوية استمرار الحرب داخل مواقع صنع القرار الإسرائيلي.
تحليل البيئة الدولية ومتغيراتها: تدرس المقاومة البيئة الدولية ومتغيراتها، والتغير في الرأي العام الدولي، وتأخذه في الحسبان في تعاملها مع متطلبات التفاوض وصياغة ردودها.
بالمحصلة، نجحت المقاومة في استخلاص الدروس من التجارب التفاوضية السابقة، وعملت على تجاوز ثغرات عديدة سبق ووقعت فيها أو وقع فيها غيرها من الفلسطينيين والعرب، واستفادت من التجارب الناجحة، ودرست طبيعة حكومة الاحتلال ورئيسها والجهات الأكثر تأثيرًا في اتخاذ القرار لدى “إسرائيل” وجبهتها الداخلية، ولم تهمل الساحة الدولية ومتغيراتها.
وبناءً عليه، صاغت استراتيجيتها التفاوضية التي تنجح في تحقيق اختراقات نوعية في “الجدار الحديدي” للتعنّت الإسرائيلي، وتسهم في تجنيد الرأي العام العالمي لصالح مطالب المقاومة، وينجح صبرها الاستراتيجي المتكامل مع صمودها الميداني الأسطوري في صياغة معادلة تفاوضية، ستسهم في النهاية في وضع حدّ لحرب الإبادة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، وتفتح المجال للوصول إلى صفقة واسعة لتبادل الأسرى وضمان الإعمار وإفشال أهداف الاحتلال في عدوانه.