ترجمة وتحرير: نون بوست
في المساء، تعود الحياة إلى رأس الخيمة حيث يتدفق الناس من كل حدب وصوب إلى الشوارع للاستمتاع بالطقس، ويتجولون بسياراتهم الفاخرة في كورنيش القواسم، ويستمعون لصوت نقيق الضفادع الصادر من أشجار المانغروف على ضفاف البحيرة. وفي المقهى تحت النخيل، يتناولون المثلجات ويستمعون إلى الأغاني اللبنانية.
في الشارع أمام المقهى، يُسمع صوت عال لمكابح سيارة تتوقف فجأة، ويفتح بابها، ثم يدفع رجلا إلى الخارج بقوة، ليسقط مرتطما بالأرض، ثم يعلو صوت صراخ من داخل السيارة. وبعد ذلك، يدوي صوت احتكاك إطارات السيارة بالإسفلت، ليخيم الصمت مرة أخرى على المكان. يتأوه الرجل الذي ألقي من السيارة أثناء محاولته النهوض ليظهر أمام أعين الجميع رجل داكن البشرة. وبارتباك واضح، نظر الرجل إلى يديه الباليتين، لينفض بهما الغبار عن ركبتيه ويرمق الشارع بنظرة منكسرة.
أزمة الانصياع
بعد دقائق، يبدأ زوار المقهى بإطلاق الضحكات بصوت عال، مستمتعين بالمشهد، لينتهي “العرض” بضحكة من الرجل نفسه، الذي ألقي من السيارة، على الرغم من أن شفتيه ما زالتا ترتعشان من هول هذه الحادثة. وبعد ذلك الحادث، قال جاويد إن هذه ليست المرة الأولى التي يلقى فيها الرجل بهذه الطريقة، فرب عمله رجل غريب للغاية لأنه يفعل ذلك دائما، ثم ينسى ما فعله.
في الواقع، يعمل الشاب الباكستاني، جافد، في أحد مواقع البناء في جزر سرايا التابعة لرأس الخيمة. وفي الكثير من الأحيان، لا يحصل جافد على الأجر الذي اتفق عليه مع صاحب العمل أو لا يحصل عليه في الموعد المحدد. وفي حال اعترض جافد، يتصرف صاحب العمل بغضب شديد. فذات مرة، قام هو بنفسه بتقييد وثاق أحد زملائه المعترضين لمدة 24 ساعة، كما تعرض زميل آخر للضرب. وعندما سئل جافد عن سبب عدم إبلاغهم للشرطة عن هذه الأفعال، قال ضاحكا “سيعيدونني إلى باكستان، وأنا لا أرغب في العودة، فبأي حال من الأحوال، يعتبر دخلي هنا أفضل بكثير”.
آل مكتوم، “لا نرى الناس إلا سواسية كما خلقهم الله، لا فضل لأحد على غيره إلا بعمله وأخلاقه والتزامه بقانوننا ودستورنا واحترامه لدولتنا”
بعد ذلك، نهض جاويد لينطلق إلى المكان الذي يبيت فيه، مؤكدا أن طريق العودة للمنزل طويل. يقطن جاويد في مجمع سكني، ويتقاسم الشقة التي يسكن فيها مع سبعة أشخاص آخرين، مكيف الهواء لا يعمل لفترة طويلة، فضلا عن أن غدا يوم عمل بالنسبة له.
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للتسامح، الذي أعلنت عنه اليونيسكو منذ سنة 1995، قال نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة ورئيس مجلس الوزراء وحاكم إمارة دبي، سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، “لا نرى الناس إلا سواسية كما خلقهم الله، لا فضل لأحد على غيره إلا بعمله وأخلاقه والتزامه بقانوننا ودستورنا واحترامه لدولتنا”.
غالبا، ما يصرح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بمثل هذه الكلمات، ففي العديد من المناسبات أكد أن التسامح هو كلمة مرادفة لدولة الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا السياق، أفاد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم “التسامح أحد القيم الأساسية لشعب الإمارات لأنه مهم لتنميتنا وازدهارنا”، موضحا أن الإمارات لا تفتخر بناطحات السحاب التي تبنيها، ولكن بنشر قيم التسامح. فبالنسبة لأبيه الراحل، الشيخ راشد، كان الأجانب والمواطنون المحليون يتمتعون بنفس الحقوق.
رجم بموجب القانون
مما لا شك فيه أن الإمارات ليست الأسوأ بين ممالك الخليج، فعند الحديث عن الحرية المدنية، تعتبر الإمارات أفضل من المملكة العربية السعودية والبحرين والكويت، كما يعتبر مناخ الحرية في دبي أفضل منه في الدوحة. تعد دولة الإمارات غنية، والدول الغنية ليست بحاجة لإظهار هذه القسوة، ولكن يبدو أن حكام الإمارات يحبون التسامح، ولكن ليس لدرجة أن يسمحوا لشعبهم بتطبيق مبادئ الديمقراطية.
في الوقت الحالي، تضيق السلطات الإماراتية الخناق على المعارضة، ويلقى العشرات منهم في السجون بعد محاكمات تفتقر للعدالة. وفي الوقت ذاته، يتعامل أصحاب العمل مع الموظفين بكل قسوة، فضلا عن أن القانون الإماراتي مازال يسمح بتنفيذ حكم الرجم. وبالفعل، تم تنفيذ حكم الرجم في حق العديد من الأشخاص بين سنتي 2009 و2013. وحتى الآن، مازال العمل بهذا الحكم قائما.
حسب أحد التقارير الأمريكية، أسقطت الإمارات على اليمن، حتى الآن، قنابل تجاوزت قيمتها مليار دولار أمريكي، ومازال القصف مستمرا
خلال سنة 2004، وقعت الإمارات العربية المتحدة على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، ولكن الإمارات استبعدت حقوق المرأة من هذه الاتفاقية، وسارت على درب جارتها السعودية فيما يتعلق بوصاية الرجل على المرأة. كما تعتبر أبوظبي أهم شريك للرياض في الحرب اليمنية، ومسؤولة عن معاناة ملايين المدنيين في اليمن.
حسب أحد التقارير الأمريكية، أسقطت الإمارات على اليمن، حتى الآن، قنابل تجاوزت قيمتها مليار دولار أمريكي، ومازال القصف مستمرا. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، لم يتردد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في إطلاق اسم “جسر التسامح” على جسر المشاة المبني فوق قناة دبي المائية.
لماذا هذا الاهتمام غير المنطقي بعبارة فضفاضة تعني كل شيء ولا تعني أي شيء؟ هذا غريب، إذ أن التسامح ليس قيمة في حد ذاته؛ فالتعامل بتسامح مع المعارضين والأجانب والأقليات هو أمر رائع، ولكن التسامح مع هتلر والفاشيين والمجرمين لم يكن كذلك. لذلك يجب مراقبة الخطاب العام، لأنه لا أحد يريد أن يوصف بأنه “غير متسامح”، حتى باتت هذه الكلمة تعبيرا جامدا وغبيا.
حاليا، بات الجميع يدعون لاعتماد سياسة “صفر تسامح فيما يخص انتهاك الحقوق”، وعدم إبداء أي تسامح مع المغتصبين، والأشرار واللصوص. وهذا يعني أن قيمة التسامح موجودة فعلا، ولكن فقط في سياق المجتمعات الديمقراطية، التي توصلت إلى تحديد ما هو مقبول وما هو غير مقبول من سلوكيات، وما الذي يجب على أفرادها التسامح معه.
بوتين وحساء الدجاج
بالطبع تعرف شيخة علي سالم المسكري، رئيسة مجلس إدارة مجموعة من الشركات التي تحمل شعار “المسكري القابضة”، كل هذه الأمور أيضا. لقد استثمرت هذه السيدة أموالها في قطاع الغاز والنفط، وشركات تنشط في مجال الأمن وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وإنتاج الطاقة. ولطالما كانت هذه المرأة المتقدمة في السن والودودة في انتظارنا في مكتبها في أبوظبي.
إن المسكري أم لخمسة أبناء، وتتحدث أربع لغات، وتحمل درجة دكتوراه في الجيولوجيا، التي حازت عليها من جامعة أنديانا. لقد كان طعم الشاي الذي قُدم لنا لذيذا، كما أحضرت لنا موظفة الاستقبال بعض الشوكولاتة، ثم وصل أحد أبناء المسكري.
خلال سنة 2015، صنفت مجلة “فوربس” شيخة علي سالم المسكري ضمن قائمة أبرز مائة سيدة أعمال في العالم العربي. لذلك، كانت كيفية تصرفها بتحفظ حيال مسألة التسامح من الأمور المثير للانتباه، حيث قالت “إن التناغم الاجتماعي أكثر أهمية”.
لقد كرست المسكري كل حياتها لهذا التناغم الاجتماعي، على حد قولها. ففي العالم الإسلامي، يتطلب النجاح التضامن، وهو أمر لم يستفد منه المواطنون فقط، بل حتى الأجانب، مثل الروس مثلا. كانت ذات مرة في مدينة لينينغراد (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أصبح اسمها سانت بطرسبرغ)، وشاهدت الفقراء والمشردين، فأرادت التبرع بإقامة مطابخ لتحضير وتوزيع الحساء. ومن أجل تنفيذ فكرتها، كان عليها الحصول على موافقة إدارة المدينة، فزارها مسؤول روسي في الفندق الذي كانت تقيم فيه، وكان مهتما جدا بالأوضاع السياسية في منطقة الخليج العربي، وسألها أين تريد إقامة مطابخ الحساء بالضبط، وكانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها اسم الرئيس الروسي الحالي، فلاديمير بوتين.
اختراق الحواجز الاجتماعية
لا تتغنى المسكري كثيرا بشعارات التسامح التي ترددها أبوظبي بشكل مكثف، إلا أنها لا تتوان عن التعبير عن الفخر، فهي تعتبر نفسها من النساء الرائدات في بلادها، خاصة أنها كانت أول امرأة تقتحم قطاع النفط في الخليج. وعندما انضمت لشركة العائلة “تريكون للطاقة” سنة 1989، كان هذا الأمر مثيرا للجدل حينها. فقد كانت المرأة الوحيدة بين تسعة آلاف رجل، وتعمل في مكان بعيد وسط الصحراء والرمال. وكان كل العمال والموظفين الأجانب يتحدثون للعالم عن وجود هذه الشابة.
جاويد يرى أن خطابات التسامح للشيخ آل مكتوم مثير للسخرية، حيث قال: “أنا أريد حقوقا، أريد معاملة عادلة، من يريد التسامح؟ الكلاب يتم التسامح معها. وآخر من يتم التسامح معهم هنا هم ثمانية ملايين عامل من الهنود، والباكستانيين، والبنغال، والفلبينيين، الذين يكدحون في الإمارات، حتى لا يضطر المواطنون البرجوازيون لتوسيخ أيديهم”
في البداية، كان الأمر بالنسبة لها صعبا، وكان البعض يرمقونها بنظرة مزعجة، ولكنها سرعان ما أظهرت لهم أنها تعرف ما الذي كانت بصدد فعله. لقد كان شعارها الأول “العمل بجد والحفاظ على التواضع”، والثاني “قيادة التغيير”، ما جعلها دائما جريئة، وتكسب التحديات. أما فيما يتعلق بالصعوبات، فهي ترى أن “هذا سؤال غبي، وفقط المرأة هي التي لا تحقق النجاح”. ولقد كان ذلك ردا فظا إلى حد ما. أما ابنها، فهو يشعر بأن والدته لطالما كافحت ضد القوالب الدينية والأفكار الخاطئة، حيث قال: “لقد اخترقت أمي الحواجز الاجتماعية، وأنا مدين لها بكل شيء”.
أما الشاب الباكستاني جاويد، فلا علاقة له بالبرج الزجاجي وعالم شيخة المسكري المليء بالنجاحات، ولكن هناك قاسم مشترك بين الشاب والسيدة؛ فكلاهما يريد الاحترام وليس التسامح، هي تريد ذلك كامرأة، وهو يريده كأجنبي. ليس من المفاجئ أن جاويد أيضا يرى أن خطابات التسامح للشيخ آل مكتوم مثير للسخرية، حيث قال: “أنا أريد حقوقا، أريد معاملة عادلة، من يريد التسامح؟ الكلاب يتم التسامح معها. وآخر من يتم التسامح معهم هنا هم ثمانية ملايين عامل من الهنود، والباكستانيين، والبنغال، والفلبينيين، الذين يكدحون في الإمارات، حتى لا يضطر المواطنون البرجوازيون لتوسيخ أيديهم”.
بناء على ذلك، يبدو أن تعريف الفيلسوف وعالم الاجتماع، هربرت ماركوزه، لمفهوم “التسامح القمعي” ينطبق تماما على الإمارات العربية المتحدة. إن كل شيء موجود هنا جنبا لجنب وفي كنف التسامح، بما في ذلك الحقائق والأكاذيب، وكل ما له معنى وما لا معنى له، والرأسمالية والاشتراكية. هكذا يتم المحافظة على توازن القوى، بطريقة تسمح للأقوى بأن يحكم، وبذلك لا يعتبر هذا النوع من التسامح إلا أداة للقمع.
متحف عدم التسامح
ليست الإمارات الدولة الوحيدة الفاشلة بشكل واضح في التعامل مع مفهوم التسامح. فعلى سبيل المثال، تعتبر إسرائيل عاجزة تماما عن الالتزام بمبدأ التسامح، فهي لا تتعامل بهذه الطريقة مع السكان المحليين من العرب، أي الفلسطينيين. فعرب إسرائيل لديهم حقوق مثل التصويت ويتمتعون بقدر من الديمقراطية يفوق كل دول المنطقة، ولكن نادرا ما تجد يهوديا إسرائيليا يدعي أن دولته تتعامل بتسامح مع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وبالتالي، ليست هذه الادعاءات والجدالات المزيفة من طبع اليهود، وهم يعرفون جيدا أن جنودهم عدائيون، ولا يترددون في مضايقة الفلسطينيين وإطلاق النار عليهم.
أدت أعمال البناء لإتلاف عشرات القبور، التي تحتوي بقايا رفات مسلمين. واليوم، تعرضت المقبرة لدمار واسع. كما تم اختيار هذا المكان رغم وجود مساحات ومواقع أخرى. ولذلك، إن ما حصل يعد تدنيسا واضحا للمقدسات، والأمر يصبح أكثر بشاعة عندما نلاحظ القداسة التي يوليها اليهود لقبورهم القديمة
لكن رغم هذا الواقع، هنالك “متحف للتسامح”، والأكثر إثارة للسخرية هو أنه أقيم في القدس من بين كل مدن إسرائيل. وهو فرع من متحف مركز سيمون ويزنتال في لوس أنجلوس، ويهدف للتنديد بممارسات العنصرية والانحياز، بالاعتماد على نموذج المحرقة النازية “الهولوكست”. إن هذا أمر جدير بالثناء، ولكن هذا المتحف الذي لا يزال قيد الإنشاء، أقيم في قلب مقبرة “مأمن الله” الإسلامية التي يعود تاريخها لقرون طويلة.
إلى جانب ذلك، أدت أعمال البناء لإتلاف عشرات القبور، التي تحتوي بقايا رفات مسلمين. واليوم، تعرضت المقبرة لدمار واسع. كما تم اختيار هذا المكان رغم وجود مساحات ومواقع أخرى. ولذلك، إن ما حصل يعد تدنيسا واضحا للمقدسات، والأمر يصبح أكثر بشاعة عندما نلاحظ القداسة التي يوليها اليهود لقبورهم القديمة. وفي هذه الوضعية، كان من الأجدى إظهار بعض الاحترام، قبل التحدث عن التسامح. وهكذا تحول “متحف التسامح” إلى رمز لعدم التسامح، في مثال يذكرنا بمسرحية التسامح التي تشهدها منطقة الخليج العربي.
المصدر: نويه تسوريشر تسايتونغ