احتكرت الجمعية الأمريكية للطب النفسي على مدى سنين طويلة للتسميات والتعريفات المتعلقة بالأمراض العقلية والنفسية وأعراضها وطرق علاجها وما يمتّ لها من صلة بشكلٍ أو بآخر، وقد أصبح الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية DSM-5 الحكم الرئيسي والوحيد على سلوكيات الأفراد وأمراضهم، ما جعل الكثيرين من علماء النفس أنفسهم يعارضون سياسات الجمعية والطب النفسيّ الحديث.
إذ ظهرت حركة سيكولوجية في ستينات القرن الماضي تنتقد هيمنة الجمعية من جهة وممارسات الطب النفسيّ من جهة أخرى على تعريف ما هو اضطراب نفسيّ أو عقليّ وما هو عكس ذلك، والنظر إلى الدليل التشخيصي كخريطة للطب النفسي تخضع للتقييدات والحصر فيما يتعلق بالاضطرابات والسلوكيات البشرية الطبيعية وغير الطبيعية على حدّ وصف الدليل نفسه.
توماس ساس: الطبيب النفسيّ الذي أنكر المرض العقليّ
نشر الطبيب النفسيّ الأمريكي “توماس ساس” عام 1961 كتابه “أسطورة الأمراض العقلية”، حيث أكد فيه أن الطب النفسي، على عكس الطب، لا يملك القدرة لبرهنة أي أساس مادي لـ”الأمراض” العقلية والنفسية التي تم تحديدها وتحديد أعراضها وطرق علاجها. إذ كتب فيه أنّ وضع الهستريا أو الأعراض النفسية في نفس فئة الأعراض العضوية هو سوء استخدام للمفاهيم العلمية واللغة الطبية لوصف سلوكيات الأفراد التي يُنظر على أنها سيئة وغير طبيعية، وخداعٌ للمرضى ليس إلا.
لا يعتبر ساس الطبّ النفسيّ فرعًا من فروع العلوم الحقيقية، وإنما هو علم زائف يحاكي بسخرية الطب البشريّ عن طريق استخدام كلمات طبية رنانة تخدع الأفراد والمجتمعات لأهداف عديدة شتى.
انتقد ساس تأثير الطب النفسيّ الحديث على المجتمع والذي وصفه بعلمنة احتجاز الدين للناس، وأداة من أدوات الدولة والمجتمع لإخضاع الأفراد وضمان تبعيتهم، وأنّ تشخيصات “المرض النفسي” أو “الاضطراب النفسي” التي يتداولها كتصنيفات علمية ما هي في الواقع إلّا أحكام مُهينة لدعم استخدامات من قبل مؤسسات الطب النفسي المسيّسة.
إذن تتلخّص رؤية ساس في وصفه لتأثير السياسة على الطب النفسيّ في المجتمعات الحديثة، لذلك كتب قائلًا: “حين تناجي الرب فأنت تُصلي ولكن حين يخاطبك الرب فأنت مصاب بالفصام، وإذا خاطبك الميت فأنت شخص روحاني ولكن إذا تحدثت مع الميت فأنت مصاب بالفصام”.
وتنطوي رؤيته تلك على فكرة أنّ السلوكيات الفردية، جيدة كانت أم سيئة، لا يمكن تصنيفها تحت بند الأمراض ولا يمكن أن تكون أمراضًا، وقد ضرب الهستيريا كمصطلح يصف سلوكيات النساء في ذلك الوقت، أو مصطلح “دريبتومينيا” كمثال آخر لاضطرا يصف هروب العبيد السود من الأسر والعبودية في فترةٍ زمنية معينة، نظرًا لكونه من السلوكيات التي لم يستحسنها المجتمع فأصبح يُشار إليه على أنه مرضٌ نفسيّ.
انتقد ساس تأثير الطب النفسيّ الحديث على المجتمع واعتبره أداةً من أدوات الدولة والمجتمع لإخضاع الأفراد وضمان تبعيتهم
وفي نفس السياق، ينظر ساس للفصام بكونه ليس مرضيًا نفسيًا كما يشيع بين المجتمعات، وإنما هو حُكم مبالغ فيه بالإدانة على سلوكيات بعض الأفراد يطلقه المجتمع ومؤسسات الطبّ النفسيّ، ولذلك أطلق عليه وصف “الرمز المقدّس في الطب النفسي”، نظرًا لأن الأشخاص الموصومون بهذه الوصمة يوفرون المسوّغات للطب النفسيّ باستمرار استخدام النظريات وأساليب العلاج المختلفة.
فالطب النفسي عند توماس ساس يحجب الفرق بين السلوك والمرض في بحثه عن مساعدة وعلاج للأفراد، وحين يصف الطب النفسي الناس بالمرضى فهو يحاول إنكار قدرتهم على تحمل مسؤوليتهم عن حياتهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم، ليصبح الطب النفسي بذلك كأداة أخلاقية للسيطرة على الأفراد بشكلٍ أفضل.
استخلص ميشيل فوكو في انسجام غريب مع ساس إلى أنّ تصنيف الأفراد إلى “عاقل” أو “مجنون” هو نتاج للغة الطب النفسيّ الحديث، كما أكد على أنّ العلاجات النفسية الطبية هي انعكاس لسلطوية الدولة والمجتمع.
كما لا يعتبر ساس الطبّ النفسيّ فرعًا من فروع العلوم الحقيقية، وإنما هو علم زائف يحاكي بسخرية الطب البشريّ عن طريق استخدام كلمات طبية رنانة تخدع الأفراد والمجتمعات لأهداف عديدة شتى. ما جعله يصرّ دومًا على أنّ الأطباء النفسيين هم خلفاء “الأطباء الروحيين” ورجال الدين الذين يتعاملون بكذبٍ وخداع مع المعضلات والمشكلات الروحية والوجودية المحيّرة والتي تعتبر جزءًا أساسيًا من حياة الناس ومن الطبيعي أن تشغل أذهانهم باستمرار.
عام 1961 قام الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بنشر كتابه “الجنون والحضارة”، واستخلص في انسجام غريب مع ساس إلى أنّ تصنيف الأفراد إلى “عاقل” أو “مجنون” هو نتاج للغة الطب النفسيّ الحديث، كما أكد فوكو على أنّ العلاجات النفسية الطبية لم تكن في واقع الأمر أقل “سلطوية” من تلك السابقة لها كالحجر الصحيّ أو التنويم القسريّ أو العلاج بالصدمات الكهربائية في العصور السابقة حيث كان علاج الأمراض العقلية أو ما كان يُعرف آنذاك بمصطلح “الجنون”، يتم عن طريق معاقبة “المجنون” على “سلوكياته غير الطبيعية” حتى يتعلّم سلوكيات “العاقل الطبيعية”.
وفي العام نفسه أيضًا، كتب الطبيب الفرنسي والمفكّر الماركسي فرانز فانون “معذبو الأرض”، والذي أدان فيه مهنة الطب النفسي لاستخدامها لغة الطب بهدف إسقاط الأمراض والاضطرابات العقلية في سياق الاستعمار والمقاومة والحالة النفسية للشعوب للمستعمِر والشعوب المستعمَرة.
رونالد لينغ: الطبيب النفسي الذي أراد أن يجعل الجنون طبيعيًا
ارتبط اسم رونالد ديفيد لينغ، عالم النفس الأوسكتلندي، بآرائه التي أثارت جدلًا واسعًا حول الكثير من الاختلالات والاضطرابات العقلية وطرق علاجها عن طريق الفلسفة الوجودية، أي بطرقٍ تتعارض مع الطرق التقليدية المتبعة في في الطب النفسيّ والتي تحتكر المجال منذ عقود طويلة.
كمفكر ثوري تساءل لينغ عن الضوابط التي تم فرضها على الفرد من قبل الأسرة والدولة والمجتمع، فطوّر نظريته القائلة بأنّ المرض العقلي هو آلية هروب تسمح للأفراد بتحرير أنفسهم من ظروفٍ حياتية لا تطاق، رافضًا الأساس الفسيولوجي للعديد من الأمراض النفسية والعقلية مثل الفصام، ومجادلًا بأنّ الجنون ما هو إلا ردّ فعلٍ على جنون بيئة الفرد الخارجية والتي تتأثر بالعوامل السياسية والاجتماعية وغيرها، ليصبح بذلك واحدًا من أشهر روّاد الحركة المناهضة للطب والعلاج النفسيّ في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وبكلماتٍ أخرى، آمن لينغ بأنّ الكثير من سلوكيات الأفراد الذين يُصنّفون بكونهم “مرضى نفسييين، ما هي إلا تعبير منطقي عن انزعاجٍ داخليّ ما، وأنّ النوبات الذهانية لمرضى الفصام على سبيل المثال، هي محاولات لإظهار بعثرة في النفس أو للإشارة إلى فوضىً داخلية فيها، وبذلك ينبغي النظر إليها بكونها تجارب مطهّرة تحرّر الفرد من مشاكل وجودية كثيرة.
اعتبر لينغ المرض العقلي آلية هروب تسمح للأفراد بتحرير أنفسهم من ظروفٍ حياتية لا تطاق، رافضًا الأساس الفسيولوجي للعديد من الأمراض النفسية والعقلية مثل الفصام، ومجادلًا بأنّ الجنون ما هو إلا ردّ فعلٍ على جنون بيئة الفرد الخارجية.
ومما لا ريب فيه، أنا نظريات لينغ وآراءه تلك حول مرض الفصام كطريقة بديلة لإدراك العالم والتعامل معه، قد خلقت عاصفةً واسعة الانتشار من الجدل والرفض، خاصة بين أوساط مؤسسات الطب النفسي من جهة والسياسيّين من جهة أخرى، نظرًا لعدم تقبلهم فكرته الأساسية بأنّ المرض العقلي هو نتاج لجنونٍ في المحيط الخارجيّ.
كانت تجربة لينغ الأكثر جرأة هي “الملاذ الآمن”، المصحّ الذي أنشأه في في الطرف الشرقي من لندن عام 1965 لمرضى الصحة العقلية دون استخدام أي عقاقير طبية أو أساليب العلاج التي تحددها المؤسسات الدولية للطب النفسي، كتحدٍ للطرق التقليدية لفهم ومعالجة الاضطرابات النفسية والعاطفية بين الأفراد. وتقوم فكرة مصحّ لينغ، الذي ما زال قائمًا إلى يومنا هذا بالمناسبة، على أنّ الحديث والانخراط الاجتماعي بين روّاد المصح هو الوسيلة الأفضل لتخليصهم من انزعاجاتهم الداخلية وفوضاهم النفسية.
يجب أن نتفق أولًا وأخيرًا أنّ فهمنا لما هو “طبيعي” و”عاقل” يجب أنْ يكون دائمًا أكبر بكثير من حدود جمعيات الطب النفسي أو من الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية.
قد يكون من الصعب علينا الجدال في حاجتنا للطب النفسي من عدمها، أو لزومنا لإدخال المصطلحات المتعلقة بالاضطرابات العقلية والنفسية في قواميسنا اللغوية أم لا، فنحن بالنهاية نعيش في عصرٍ يولي أهمية كبيرة ورئيسية لهذا المجال من الطب ولأساليب العلاج النفسية المتعددة والعقاقير والأدوية النفسية المختلفة، لكن ما يجب الاتفاق عليه أولًا وأخيرًا أنّ فهمنا لما هو “طبيعي” و”عاقل” يجب أنْ يكون دائمًا أكبر بكثير من حدود جمعيات الطب النفسي أو من الدليل التشخيصي الإحصائي للاضطرابات العقلية، الذي قد نصل لمرحلة لا نعود بحاجةٍ إليه للبتّ في سلوكيات البشر وأمراضهم.