كيف تستخدم الدول قانون الطوارئ في تقييد الحريات وتوسيع سلطاتها؟
تبدأ بكلمة “تفرض” وتطيح في طريقها بكل أحلام الحرية والكرامة والديموقراطية التي ثارت من أجلها الشعوب، ويضرب رجل يُلقب في الغالب بـ”وزير الداخلية” بإرادة الشعب والدستور والانتخابات والبرلمانات عرض الحائط، ممسكًا في يده بأجهزة الضبط والربط والسيطرة.
إنها “حالة الطوارئ” التي تتلخص في كلمات تستند إلى الدستور والقانون ومتطلبات المصلحة العامة، وتُعرف بأنها حزمة تدابير وإجراءات عاجلة تتخذها سلطات الدولة على المستوى الوطني، أو في جزء منها، بهدف ضبط الأمن والحفاظ على النظام العام إثر وقوع أحداث استثنائية تُهدد الأمن العام على مستوى الدولة أو جزء منها.
هذه الكلمات تحمل في طياتها جانبًا مظلمًا، حين تسمح بعض الأنظمة باسم القانون بتقويض الحقوق المدنية وتقييد التحركات وتوسيع سلطاتها في مناطق معينة، وحظر التجمعات والتظاهرات، مستغلةً الخوف من الإرهاب في فرض حالة الطوارئ.
تآكل الديمقراطية باسم القانون
تستجيب الدول للأخطار المختلفة التي تتعرض لها بطرق عديدة، وتعتمد الحكومات والبرلمانات إجراءات وقوانين ترى أنها تحقق المزيد من الأمن لمواجهة الإحساس بفقدان السيطرة،
إحدى هذه الطرق وأقربها إلى الأنظمة الديكتاتورية يتمثل في إعلان حالة الطوارئ، حيث تُكلِف الأجهزة الأمنية باستخدام جميع الوسائل تقريبًا لمواجهة المخاطر والكوارث، وتُوسع صلاحياتهم بشكل كبير، لا سيما في حالة الترويج لمواجهتها خطر “الإرهاب الدولي”.
مع تزايد الحالات التي تُفرض فيها حالة الطوارئ، تتعدد الإشكالات المتعلقة بإعلانها، ومنها التخوف من المس بالحريات واتخاذ الوضعية الاستثنائية السائدة ذريعة للتضييق على جهة أو شخص بسبب انتمائه الحزبي أو قناعاته السياسية أو العقائدية أو نحو ذلك
ورغم أن القانون الدولي قد حدَّد الشرط الأساسي لفرض حالة الطوارئ في وجود خطر عام واستثنائي يهدد وجود الدولة، إلا أن السلطات الإدارية تُمنح صلاحيات استثنائية، خاصة الشرطة التي تُخولها حالة الطوارئ المسَّ ببعض الحريات والحقوق الأساسية الفردية والجماعية، كالحق في التنقل وحرية الصحافة وحرية التظاهر والتجمع.
وبشكل دائم في الأوقات المبكرة لفرض حالة الطوارئ، تُطبق قواعد مختلفة، خوفًا من الإرهاب، إلى حد أن الجمهور في الدول الديموقراطية يبدو مستعدًا لإخضاع كل شيء لهدف الأمن الذي وضعته الدولة، حتى حريته.
ومع تزايد الحالات التي تُفرض فيها حالة الطوارئ، تتعدد الإشكالات المتعلقة بإعلانها، ومنها التخوف من المس بالحريات واتخاذ الوضعية الاستثنائية السائدة ذريعة للتضييق على جهة أو شخص بسبب انتمائه الحزبي أو قناعاته السياسية أو العقائدية أو نحو ذلك.
مرد هذه المخاوف يعود في الأصل إلى أن حالة الطوارئ تُخل بالتوازن الكلاسيكي بين السلطات، إذ يمنح القانون سلطات واسعة للشرطة والأجهزة الأمنية، تُمكنها مثلًا من منع تجمعات وغلق مرافق عمومية ووضع أشخاص رهن الاقامة الجبرية إذا قدَّرت أنَّ حريته ربما تُخلُّ بالأمن العام، كما يُفوض قانون الطوارئ الشرطة صلاحية إجراء مداهمات لمنازل تشتبه بوجود خطر ما فيها.
استغلال الخوف من الإرهاب
لم تكن هناك دعوة لمزيد من الأمان أكثر من اليوم، وهذا يضع القادة السياسيين تحت ضغط هائل، ما يجعل كل حرب تخوضها الدول تُبرَّر بمكافحة الإرهاب، سواء كان ذلك داخل حدودها أو خارجها.
هل حقًا يمكن أن تؤدي القوانين الجديدة، والتكنولوجيا الرقمية إلى زيادة أمان الفرد؟ يشك المفوض الاتحادي السابق لحماية البيانات، بيتر شار، في أن هذه التدابير يمكن أن تؤدي إلى مزيد الأمان، مُشيرًا إلى أن “الحكومة الاتحادية الألمانية تقوض الحقوق المدنية أيضًا”.
وفي الكثير من الحالات، يدفع الخوف من الإرهاب والجريمة إلى اتخاذ إجراءات جديدة أكثر راديكالية وحرمانًا من أجواء الديمقراطية دون أن يلاحظها الجمهور تقريبًا.
ومنذ فترة طويلة، اعتاد المواطنون على أكثر تدابير المراقبة سخافة، من المراقبة الكاملة إلى المراقبة بالفيديو في الأماكن العامة، مرورا بصور جوازات السفر البيومترية، وصولًا إلى الاحتفاظ بالبيانات للجميع بما في ذلك الاتصالات الخاصة، دون الحاجة إلى إعادة تقييم فوائد ومخاطر هذه التدابير.
هل حقًا يمكن أن تؤدي القوانين الجديدة، والتكنولوجيا الرقمية إلى زيادة أمان الفرد؟ يشك المفوض الاتحادي السابق لحماية البيانات، بيتر شار، في أن هذه التدابير يمكن أن تؤدي إلى مزيد الأمان، مُشيرًا إلى أن “الحكومة الاتحادية الألمانية تقوض الحقوق المدنية أيضًا”.
ويستشهد “شار” للدلالة على ذلك باعتداء برلين، وهو الهجوم الذي وقع في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2016، والذي دهس فيه منفذه أنيس عمري مع شاحنته المسروقة في برلين في “سوق الكريسماس” مواطنين مدنيين، وأسفر عن مقتل 12 شخصاً، ورغم ذلك، لم يؤدِ التطوير المسبق لجهاز الأمن وتجهيز السلطات الأمنية بمعدات جديدة إلى منع هذا الهجوم.
وغير ألمانيا، تدعو الدول المعتدلة نفسها أكثر وأكثر إلحاحًا لمزيد من المراقبة، وتمرر المزيد من القوانين لتعزيز أمنها، لكن الثمن مرتفع، حيث يتم التضحية بالقيم الأساسية وحكم القانون الليبرالي تحت ستار مكافحة الإرهاب.
كذلك بات من المعتاد توقيف منتقدي قادة الدولة والصحفيين بشبهة الإرهاب، كما يستخدم المجرمون الخوف من الإرهاب للقيام بأعمال تجارية خاصة، مثل مهاجمة حافلة فريق بوروسيا دورتموند في إبريل الماضي.
وبينما لا تزال الانتقادات تُوجه إلى إعلان حالة الطوارئ في تركيا بموجب المادة 120 من الدستور، عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، نسينا أن الهجوم على المجلة الفرنسية الساخرة “شارلي إبدو” في يناير 2015، مثَّل بداية موجة جديدة من العنف في العواصم الأوروبية، لم تُجدِ معها الإجراءات الأمنية المشددة نفعًا، في حين ليست في الأفق نهاية مبكرة لسلسلة “الهجمات الإرهابية” المتكررة.
الأنظمة تعيش على حرية مواطنيها
عادة ما يُثير إعلان حالة الطوارئ المخاوف بشأن الحريات والديمقراطية نظرًا للصلاحيات الاستثنائية التي يمنحها للشرطة وأجهزة الأمن، مع ما يُرافق ذلك من شدة في القبضة الأمنية واحتمال وقوع تجاوزات.
ويمكن القول إن “الحرب العالمية على الإرهاب” بدأت بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وبدأت معها الولايات المتحدة الانتهاك الواضح للقانون الدولي، وتذرعت بحماية الأمن الداخلي فمنحت الأمن حقوقاً واسعة النطاق منذ عام 2002، وكان معتقل “غوانتانامو” أكبر الأدلة على الانتقادات التي وُجهت للسياسة الأمريكية حول مكافحة الإرهاب.
على سبيل المثال، لم تخرج فرنسا من حالة الطوارئ، إلا مؤخرًا، بعد إعلانها عقب هجمات باريس التي وقعت ليل 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بيد أنَّ أحداث باريس ليست إلا حلقة في مسلسل طويل من الأحداث بصمت تاريخ إعلان الطوارئ في فرنسا
وفي مواجهة الصور الرهيبة للأبراج المنهارة لمركز التجارة العالمي، تساءل الكثيرون عن كيفية محاسبة المحرضين على هذا القتل الجماعي، غير أن الإجابة كانت مخيبة، إذ لم تؤد حملة الاعتقالات التي نُفذت بعد 11 سبتمبر، إلى تحديد هوية المشتبه فيهم.
في الوقت نفسه، تزايد القلق من أن الديمقراطيات الغربية يمكن أن تخون قيمها الأساسية استجابة للتحدي الذي يمثله الإرهاب من وجهة نظرهم، ولسوء الحظ، تم التأكد الآن من مدى تبرير هذا الخوف.
على سبيل المثال، لم تخرج فرنسا من حالة الطوارئ، إلا مؤخرًا، بعد إعلانها عقب هجمات باريس التي وقعت ليل 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، بيد أنَّ أحداث باريس ليست إلا حلقة في مسلسل طويل من الأحداث بصمت تاريخ إعلان الطوارئ في فرنسا.
وفي ألمانيا، فشلت الحكومة الفدرالية في التعامل مع فضيحة وكالة الأمن القومي التي طالتها أو الشركات مثل غوغل وفيسبوك التي تقوض الحق الأساسي في الخصوصية، ما يجعل التهديد الإرهابي والخوف من تجدد العمليات الإرهابية ما زال ماثلاً.
الطوارئ أول طريق الاستبداد
في الدول غير الديمقراطية وخاصة البلدان المتخلفة، يبدو أن الوضع مختلف، ففي بعض الأحيان تجد الأنظمة القمعية في حالة الطوارئ “فسحة” لتشديد القبضة الأمنية وتصفية الحسابات السياسية مع الخصوم.
وفي أحايين أخرى، تستندُ أنظمة استبدادية إلى حالة الطوارئ للتغطية على جرائمها في حق خصومها من خلال التسويق لمؤامرة كبرى تستهدف الدولة، وربما ربطتها بجهات أجنبية معادية.
في سوريا مثلَا، عاشت البلاد أطول فترة زمنية من نوعها في التاريخ في ظل قانون الطوارئ، حتى أصبح الشكل الواقعي والمألوف لإدارة الحياة العامة، منذ أن فرضَه نظام حزب البعث عند استيلائه على السلطة عام 1963، وظل يُمددها نحو أربعة عقود تحت ذرائع مختلفة، قبل أن يرفعها عام 2012 بفضل الثورة التي اندلعت ضده عام 2011.
في يوم 9 أبريل/نيسان 2017، في أبريل الماضي، أعلن عبدالفتاح السيسي حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، بعد الهجمات التي استهدفت كنائس في الإسكندرية وطنطا، وهو ما مكّنه من اتخاذ تدابير ضد المشتبه بصلتهم بالإرهاب دون إذن من المدعي العام
وفي الجزائر، لجأت السلطات لفرض حالة الطوارئ عام 1992، ليَتسنى لها إلغاء الانتخابات التشريعية التي أظهرت نتائجها فوزًا واسعا للجبهة الإسلامية للإنقاذ، ودخلت البلاد إثر ذلك في دوامة من العنف السياسي اشتعلت جذوتها لأكثر من عقدٍ من الزمان، ولم تُرفع حالة الطوارئ إلاَّ عام 2011.
أما في مصر، وجد الرئيس الأسبق حسني مبارك في فرض حالة الطوارئ فرصة لإرساءِ دعائم نظامه وإدامته، فأبقى عليها طيلة فترة حكمه التي دامت ثلاثين سنة، ولم تُرفع حالة الطوارئ إلاَّ ربيع 2012.
وفي يوم 9 أبريل/نيسان 2017، في أبريل الماضي، أعلن عبدالفتاح السيسي حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، بعد الهجمات التي استهدفت كنائس في الإسكندرية وطنطا، وهو ما مكّنه من اتخاذ تدابير ضد المشتبه بصلتهم بالإرهاب دون إذن من المدعي العام، وفرض الرقابة على وسائل الإعلام، لكن هذه التدابير لم تُنهِ الإرهاب ولم تنتهِ.
وخلال السنوات القليلة الماضية، كثرت الطعنات التي تلقتها الدول العربية والإفريقية جراء الهجمات الإرهابية، فمصر وتونس والجزائر ليسوا إلا فيض من غيض، وهناك ليبيا واليمن والسودان وموريتانيا وأثيوبيا، هؤلاء وغيرهم استولدوا طعنة أخرى اسمها “حالة الطوارئ”، فهل هم على دراية بإمكانية القيام بها بشكل مختلف بعيدًا عن هندسة الأجهزة الأمنية؟