ما الذي قد يحدث للإنسان إذا مُنح السلطة المطلقة؟ تتضمن إجابة هذا السؤال الكثير من الاحتمالات، إلا أن تجربة “سجن ستانفورد” أوضحت أن لها إجابة واحدة، أن البشر العاديين لهم القدرة على التحول إلى طغاة وارتكاب أبشع الجرائم حينما لا يكون لديهم رقيب، أو حينما تأتي لهم الأوامر من سلطة مشروعة.
لم يكن يعرف العالم “فيليب زيمباردو” أن تجربته التي بدأها عام 1971 في قبو جامعة ستانفورد ستكون من أكثر التجارب جدلية في طبيعة النفس البشرية فيما بعد، ساعد زيمباردو على تنظيم التجربة “كارلو بريكسيت” الذي خدم في السجون الأمريكية لمدة تزيد على 17 عامًا، كما ساعدت البحرية الأمريكية على تنظيم التجربة لفهم الصراعات التي تدور بين المحبوسين داخل السجون.
ظن كل من شارك في تجربة ستانفورد أنها ستكون تجربة مملة، إلا أنها أوُقفت في يومها السادس بدلًا من أن تستمر لأسبوعين كما كان مُقررًا لها
اختار زيمباردو 24 طالبًا من بين 90 طالبًا متطوعًا للمشاركة بعدما تأكد من سلامتهم النفسية واتزانهم النفسي الذي يمنحهم القدرة على أداء التجربة، ومن ثم هيّأ لهم سجنًا بما فيه من زنازين وغرف للحراس في قبو جامعة ستانفورد بكاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم وزّع الأدوار عشوائيًا بينهم فصار البعض منهم سجانين والآخرين مساجين.
حاول زيمباردو تجريد المساجين من هويتهم بشكل غير مباشر، فمنعهم من استخدام أسمائهم، وبدّلها برقم خاص بكل سجين يُنادى به، وألبس الحراس اللباس الخاص بهم، كما ألبسهم نظارات سوداء ليمنع التواصل البصري بينهم وبين السجناء، وجعلهم يمسكون عُصي في أيديهم لتمنحهم هيبة السلطة ويشعر السجناء أنها أداة للهيمنة الجسدية.
ظن كل من شارك في التجربة أنها ستكون تجربة مملة، إلا أن زيمباردو أوقف التجربة في يومها السادس بدلًا من أن تستمر لأسبوعين كما كان مُقررًا لها، حيث حدث في التجربة ما لم يكن مُتوقعًا، تحول الطلاب الذين يلعبون دور الحرّاس إلى طغاة، حيث شعروا بالسلطة الحقيقة المتمثلة في لباسهم والعصي التي في أيديهم، لقد كانت القواعد الوحيدة في التجربة أنه ليس هناك قواعد، إلا عدم التعنيف الجسدي، وهو ما خرقه الحرّاس بعد مرور بضعة أيام من التجربة.
إعلان فيلم “تجربة ستانفورد” المُنتج عام 2015
بعد مرور 6 أيام على التجربة صار الوضع لا يُحتمل، تعرض المساجين للإهانات الجسدية والنفسية، وقرارات عشوائية من الحراس دون تدخل من مراقبي التجربة، زادت الأيام الحراس وحشية وعملوا وكأنهم بالفعل حراس حقيقيون، فعاقبوا المساجين بعقوبات مهينة، مثل تجويعهم وحرمانهم من النوم وتنظيف المراحيض وضرب بعضهم البعض، لقد كان الغرض الأساسي من التجربة كلها معرفة طبيعة الحراس في السجون، وهل تأتي أفعالهم بسبب تأثير طبيعة السجن أم منبعها صفات سادية.
لقد وصفت التجربة حالة من التمرد والثورة بين المساجين، وحالة من الطغيان في درجاتها القصوى من الحرّاس، أصاب بعض من الطلاب الذين يلعبون دور المساجين، باضطرابات نفسية فيما بعد أثارت تساؤلات أخلاقية عما إن كانت تلك التجربة أخلاقية بالنسبة لحقوق الإنسان في المقام الأول أم لا.
يقول “إدموند كيبمر” أحد أشهر القتلة المتسلسلين في التاريخ الذي استمتع بقتل النساء والحيوانات: “حينما أرى فتاة جميلة في الشارع يخطر ببالي أمران، جزء مني يريد أن يأخذها للمنزل ويعاملها معاملة حسنة، والجزء الآخر يتساءل كيف سيبدو رأسها على عصا
تجربة ميلغرام: كيف ينصاع البشر بشكل أعمى؟
سواء كانت تجربة “ستانفورد” أخلاقية أم لا، هذا لا يمنعها أن تكون الأكثر جدلًا بشأن طبيعة النفس البشرية الشريرة، كما أنها لم تكن الأولى من نوعها، كانت هناك أيضًا تجربة ميلغرام التي تقيس مدى “الانصياع والطاعة”، حيث حاول العالم الأمريكي “ستانلي ميلغرام” فهم العنف الذي ارتكبته البشرية إبان الحرب العالمية الأولى والثانية، ليحاول فهم عقلية من أطاعوا الطغاة في تلك الحروب على الرغم من أن أفعالهم تُناقض ضمائرهم ومبادئهم.
حاول ميلغرام في تجربته أن يجيب عن سؤال: هل هناك إحساس مشترك بأخلاقية تلك الجرائم عند الذين تورَّطوا بها؟ التجربة تشمل ثلاثة مشاركين، يجلس الرئيس والمعلم “المتطوع” في نفس المكان، ويجلس التلميذ في غرفة أخرى على أن يتمكن المعلم من سماعه، يقرأ المعلم على التلميذ مجموعة من المفردات ويطلب منه حفظها، ثم يبدأ بسؤاله عنها وهذه هي النقطة الحاسمة من الاختبار، فعند كل خطأ يقع فيه التلميذ على المعلم أن يستخدم بشكل متصاعد جهازًا للصعق الكهربائي تتراوح شدته بين 30 إلى 450 فولتًا.
https://www.youtube.com/watch?v=mOUEC5YXV8U
تجربة ميلغرام مصورة
في الواقع جهاز الصعق الكهربائي لا يعمل ولكن التلميذ يمثل الإصابة بالتزامن مع أصوات صراخٍ مسجلةٍ مسبقًا، ومع ارتفاع فولت صعق الكهرباء يبدأ التلميذ بضرب جسده في الحائط والشكوى من مرض في قلبه بشكل تمثيلي، ربما تعتقد أنه لم يتم أحد التجربة، فمن يتحمل أن يصعق مريض بالقلب بالكهرباء، إلا أن تجارب ميلغرام التي تكررت على مجموعات مختلفة من البشر كانت صادمة، حيث استمر البشر بالصعق طالما جاءتهم الأوامر من سلطة شرعية، وهي في هذه الحالة العالم الذي يرتدي معطف الطبيب الذي يمثل السلطة الشرعية في التجربة.
وصل 65% من المشاركين في التجربة لأقصى درجة من الفولتية في صعق الكهرباء، وهي 450 فولتًا، أظهر بعضهم استمتاعه بسماع صوت صراخ التلاميذ، فكلما أبدى المتطوع تردده في صعق التلميذ بالكهرباء، جاءته أوامر من الطبيب أن يتابع من خلال كلمات تحفيزية تخلي مسؤوليته من أي ظروف قد تحدث للتلميذ.
هناك أمور نفسية لها علاقة بمسألة الخير والشر علينا أن نعرفها، أهمها أن الخط الفاصل بين الخير والشر غشاء سهل الاختراق وغير واضح
أظهرت نتائج تجربة ميلغرام أن البشر لهم القدرة على إيذاء أشخاص لا يعرفونهم من دون سبب مقنع ما داموا يتلقون الأوامر من سلطة شرعية تخلي مسؤوليتهم مما يفعلونه، تفسر التجربة درجات انصياع الشعوب للسلطات والجرائم البشعة التي يرتكبها الجيوش والشرطة في أهلهم وأقاربهم تحت حكم العديد من الأنظمة الديكتاتورية.
يقول زيمباردو، أستاذ علم النفس الأمريكي الذي أجرى “تجربة ستانفورد” المُتحدث عنها هنا سابقًا، إن هناك أمورًا نفسية لها علاقة بمسألة الخير والشر علينا أن نعرفها، أهمها أن الخط الفاصل بين الخير والشر غشاء سهل الاختراق وغير واضح، فليس من الصعب أن يكون الملاك شيطانًا وأن يكون الشيطان ملاكًا، حيث أوضح في كتابه “تأثير الشر” عوامل تؤثر على ارتكاب الأشخاص الخيريين أفعال سيئة كان من بينها المكان وطبيعته وتأثير البيئة في الشخص وتجريد الأشخاص من هويتهم والطاعة العمياء.
العقل البشري محدود بمقومات سياسية ومجتمعية وثقافية ودينية، ولا يعرف أحد ما قد يصل إليه الإنسان وما الحد الممكن أن يصل إليه من ارتكاب الجرائم إذا تم تجريده من كل ما سبق ومن هويته كذلك، فالغشاء بين الخير والشر ضعيف جدًا، وليس من الصعب اختراقه، فإن كان هناك شر مطلق في العالم، سيكون هذا الشر هو معاملة الإنسان لإنسان غيره وكأنه مجرد شيء.