ترجمة وتحرير: نون بوست
حدث شيء ما فيما يتعلق بالحرب الوحشية التي تشنها “إسرائيل” على غزة لم يكن أحد يتوقعه ولا يريد أن يناقشه أحد حتى الآن. ولا يمكن تلخيصه بالأرقام فقط – ولا حتى عندما يتجاوز عدد القتلى والمفقودين الفلسطينيين الآن 38,000 ويصبح العدد الإجمالي للإصابات فوق 120,000 – وهو ما تعادل نسبته من حيث عدد السكان 14 مليون أمريكي.
ولا يمكن إيضاحه بوصف آثار الجوع والمرض والأضرار النفسية على مليوني شخص من سكان غزة الناجين، الذين قد تم تهجير 85 بالمائة منهم من منازلهم، والذين يواجهون الآن ضربات جوية وبرية مستمرة تستهدف ما تبقى من قوات حماس.
وعانى الإسرائيليون بشدة، بدءًا من فقدانهم 1200 جندي ومدني على أيدي مهاجمي حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكان أحد آثار هذا الهجوم الوحشي هو إعادة فتح جروح الهولوكوست، مما أعاد إحياء صدمة شعب كان مدركًا بالفعل لهشاشته التاريخية. ولكن نتيجة الرد الدموي للحكومة الإسرائيلية على هذا العنف، الذي اعتبرته المحكمة الدولية بشكل معقول بأنه إبادة جماعية، مقترنة بفشلها في التعرف على المصادر الممنهجة لبؤس وغضب الفلسطينيين، قد قطعت الروابط التي تربط الإسرائيليين بحلفاء متعاطفين ونقاد ودودين حول العالم.
لقد كان لدى الصينيين القدماء عقيدة حاولت شرح العلاقة المنقطعة بين الإمبراطور والشعب؛ حيث قالوا إن الحاكم الذي فقد “تفويض السماء” سيُرى منذ ذلك الحين بأنه غير شرعي وغير جدير بأن يُطاع. إن اليهودية والمسيحية لديهما نسخهم الخاصة من هذه العقيدة، وكلاهما يفهم أن شرعية النظام تعتمد أخيرًا على قدرته ورغبته في معاملة رعاياه وجيرانه بعدالة؛ حيث إن إساءة المعاملة الممنهجة لرعاياها في الداخل أو الدول الأخرى يحرم الحكومة من الحق في المطالبة بالولاء والاحترام.
فيما يتعلق بـ “إسرائيل”؛ يتفق العديد من المراقبين على أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو فقد أي إدعاء لهذا النوع من الشرعية، وهم يدركون أن معارضته الشديدة لإقامة دولة فلسطينية، وترويجه للاستيطان اليهودي الضخم في الأراضي المحتلة، ودعمه السابق لحماس بشكل ضمني؛ هو مسؤول جزئيًا على الأقل عن المجازر الحالية في غزة، لكن المشكلة لا يمكن تعريفها بإلقاء اللوم على بيبي أو وزرائه الأكثر تطرفًا. فالعلاقة التي تم قطعها ليست فقط مع حكومة إسرائيل الحالية بل أيضا مع النظام الذي أنتج ذلك النظام.
فالنظام الذي يعتمده حزب الليكود بزعامة نتنياهو، إلى جانب الأحزاب الإسرائيلية الأخرى التي تتراوح من اليسار البعيد إلى اليمين البعيد، هو نظام صهيوني؛ أي أنه يعكس إجماعًا على أن المهمة الأساسية لدولة “إسرائيل” هي أن تكون ملجأ ووطنًا لليهود في جميع أنحاء العالم ووسيلة للتعبير عن مصالح وقيم اليهود داخل “إسرائيل” في شكل قومي.
والنتيجة الطبيعية لذلك هي أنه إذا بَدَا أن تنفيذ هذه المهمة مهدد من قبل أفعال مجموعات أخرى – المجتمعات غير اليهودية داخل الدولة أو الأنظمة الوطنية الأخرى – فيجب تفضيل مصالح الإسرائيليين اليهود فوق كل ما عداهم. ووفقًا لقانون “إسرائيل” الأساسي لسنة 2018؛ فإن “الحق في تقرير المصير الوطني في دولة “إسرائيل” هو حق حصري للشعب اليهودي”.
وبما أن الدولة تمثل مجتمعًا مخولًا بفرض معاييره عن طريق العنف؛ فإن هذا التفضيل المنهجي للهوية والمصالح اليهودية يخلق مبررًا لـ”العنف الهيكلي” (مثل اللوائح التمييزية التي يطلق عليها الفلسطينيون “الفصل العنصري”) ضد غير اليهود.
لمدة طويلة؛ أدرك معظم اليهود الأمريكيين أن هناك توترًا بين الصهيونية والقيم الأخلاقية التي ساعدت اليهودية على اكتشافها للعالم. وهذا التوتر ليس خاصًّا بالصهيونية؛ فهو موجود كلما بدت المعتقدات والممارسات القومية متعارضة مع المصالح والاحتياجات البشرية العامة.
ويبدو هذا التوتر حادًّا عندما تختلط الوطنية بالهوية العرقية أو الدينية؛ حيث تدَّعي اليهودية وغيرها من الأديان العالمية تجسيد وتعزيز القيم القابلة للتطبيق عالميًّا، وليس فقط عادات قبيلة معينة. إن إحدى هذه القيم هي قدسية الحياة البشرية؛ فالحياة البشرية مقدسة ولا يمكن انتهاكها – كما يقول الزعماء الروحيون – إلا عندما نقرر نحن القوميون – اليهود أو المسيحيون أو المسلمون أو الهندوس أو البوذيون – أنها قابلة للتضحية لحماية مجموعتنا الخاصة.
ونتيجة لذلك؛ عندما اتخذ انتقام “إسرائيل” من حماس شكل هجوم شامل مستمر على كامل سكان غزة، كانت ردة فعلي – مثل العديد من اليهود الآخرين – هي أن العنف بغض النظر عما إذا كان يصل إلى مستوى قانوني للإبادة الجماعية؛ فإنه ينتهك المبادئ الأساسية لليهودية، انطلاقًا من مبدأ أنه لا حياة – سواء كانت يهودية أو غير يهودية – تستحق الموت أو تستحق أن تُنتَزَع أكثر من أي حياة أخرى.
ويتعزز شعور المرء بأن انتهاكًا صارخًا للأعراف اليهودية قد حدث، ولا يضعف، عندما كان من يحاولون تبرير المجازر يتهمون مقاتلي حماس بأنهم يحتمون بالمدنيين ويستخدمونهم “دروعًا بشرية”. هل من المتوقع أن يقاتل الجنود في بلد لا يتمتع بحماية طبيعية أو غطاء جوي في العراء؟ على أي حال، أين يوجد نص مكتوب أن قتل أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء مبرر لمعاقبة المجرمين الذين يختبئون بينهم؟
الإجابة: ليس مكتوبًا في أي مكان. وعلى الرغم من أن المرء قد يبحث في التوراة عن شواهد تاريخية أو في التلمود عن افتراضات حاخامية؛ إلا أن المبدأ الذي يعتبر حياة أحد “منّا” تساوي عشرة أو مائة أو ألف من “حياة الآخرين” ليس من مبادئ الدين التقليدي؛ بل هو نموذج نمطي للدين العلماني المعروف باسم القومية.
ويتضح هذا عندما يستخدم المتحدثون المؤيدون لـ “إسرائيل” العنف الجماعي للحرب العالمية الثانية لتبرير تجاوزاتهم العنيفة. إن السؤال الكاشف هو: “هل كنتم تهتمون بعدد المدنيين الذين قتلتموهم عند قصفكم دريسدن أو هيروشيما؟”. نحن لا يفترض أن نهتم بتلك المجازر (رغم أن العديد منا يفعل)، لأن الكتاب القومي يوحنا يقول: “عندما تكون الأمة في خطر الهزيمة؛ فإن كل العنف اللازم لحمايتها مبرر”.
والمعادلة الصهيونية هي كما يلي: “عندما يتعرض أمن إسرائيل للتهديد؛ فإن كل العنف ضروري للقضاء على هذا التهديد مبرر”. وبالطبع، الأمور لا يُعبر عنها عادة بهذه العبارات الصريحة. وعندما تبرر الدول العنف الشديد دفاعًا عن مصالحها القومية (المزعمة)؛ فإنها تفعل ذلك عادةً ليس باسمها وحدها، بل باسم الشعب الأمريكي (أو الفرنسي، أو الروسي)، أو، بشكل أكثر روعة، باسم المبادئ المجردة التي يُقال إنها تضفي الشرعية على ثقافتها السياسية، مثل الحرية والمساواة والديمقراطية. وبالمثل؛ تتحدث الحكومة الإسرائيلية ليس فقط نيابة عن مواطنيها بل عن “الشعب اليهودي”، الذي يُقال إنه مُهدد في جميع أنحاء العالم بسبب عودة معادة السامية إلى الظهور، وباسم “القيم اليهودية”.
ما هي هذه القيم على وجه الخصوص؟ الإجابة قد تأتي في ثوب يهودي، لكنها نفسها التي يقدمها كل القوميين العرقيين: القيمة العليا لبقاء المجموعة. ويجب الانتباه بعناية إلى الطريقة التي يتطور بها هذا النقاش؛ إنه مثل مشاهدة محتال شوارع ماهر يلعب لعبة الكوب والكرة.
أولاً؛ يركز اهتمامك كله على حماس، فهو يعلن أن حماس لم تقم فقط بالهجوم الوحشي في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بل إن نفس المنظمة وأنصارها يريدون أيضًا تدمير “إسرائيل” وقتل اليهود – كل اليهود – في كل مكان، وينطبق نفس الشيء على حزب الله وإيران وأنصارهما. لذا، فإن أي عنف ضروري للقضاء على حماس وردع حزب الله وإيران عن مهاجمة “إسرائيل” مبرر لضمان بقاء الدولة اليهودية والشعب اليهودي. وأي شخص يشكك في هذا الاستنتاج هو عدو عن علم أو عن غير علم للدولة والشعب نفسه، أي معادٍ للسامية.
أي كوب على الطاولة يخفي العملة المعدنية؟ دعنا من أن هذا ليس ما تقول حماس (أو حزب الله، أو إيران) أنها تريد فعله، ودعك من أن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، مهما كان بغيضًا، لم يمثل تهديدًا وجودياً لإسرائيل أو ليهود العالم، وناهيك عن أن عنف الإبادة الجماعية ضد أهل غزة ألحق ضررًا أكبر بدعم “إسرائيل” الدولي وأمنها على المدى الطويل مما قد يحلم به أي عدو للسامية، وبالتركيز على الأهوال التي تحيي الذكريات والمخاوف الحية عن مذبحة الهولوكوست وصدمات أخرى، يضيع مبدأ تم تدريسه لي منذ سنوات قليلة من قبل العالم الإسرائيلي وناشط السلام إسرائيل شاحاك: “ليس هناك حق لبقاء اليهود يمكن أن يبرر اضطهاد شعوب أخرى”، إن البقاء الجماعي بأي ثمن هو عقيدة قومية، وليست يهودية.
ووصف البروفيسور شاحاك، وهو نفسه أحد الناجين من الهولوكوست وجندي في جيش الدفاع الإسرائيلي في أيامه الأولى، الصهيونية الحديثة بأنها شكل خبيث من أشكال النرجسية العرقية. وأصرّ على أن الافتراض الكامن وراء هذا النمط من التفكير هو دائمًا “حياتنا تساوي أكثر من حياتهم”، ومما لا يثير الدهشة أن هذه الرؤية ألهمت رابطة مكافحة التشهير لوصفه بمعاداة السامية، لكنه لم يمل من توضيح أن محاولة دمج القومية باليهودية قد أفسدت أخلاقيات اليهودية وساهمت بحد ذاتها في توليد معاداة السامية، ومن وجهة نظره، لا يمكن لليهود في “إسرائيل” وحول العالم أن يكونوا آمنين حقًا إلا كجزء من حركة عالمية تعمل على تأسيس أمن إنساني قائم على المساواة بين جميع الشعوب.
وفي دعوته إلى هذا الاعتراف بإنسانية مشتركة تتفوق على القومية؛ انضم المنشق الإسرائيلي إلى قائمة من الشخصيات الكونية البارزة، بدءًا من شخصيات معاصرة مثل نعوم تشومسكي إلى حكماء القرن التاسع عشر مثل صموئيل كليمنس (مارك توين). لقد فهم مؤلف رواية “هاكلبيري فين” و”صلاة الحرب” جيدًا الآثار المترتبة على الإبادة الجماعية للعاطفة القومية، وبما أن كل عمل من أعمال “الدفاع عن النفس” العنيفة التي تقوم بها أمة من الأمم تفسره الأمة المستهدفة على أنه عمل عدواني يستدعي الثأر أو الانتقام، فإن منطق الصراع القومي هو في الأساس منطق العداء العائلي، في رواية “هاكلبيري فين”، يشرح صديق هاك باك غرانجرفورد ما يعنيه ذلك:
يقول باك: “حسنًا، يحدث العداء على النحو الآتي: يتشاجر رجل مع رجل آخر فيقتله؛ ثم يقتل شقيق ذلك الرجل الرجل الأول؛ ثم يتشاجر الإخوة الآخرون من الجانبين فيقتلون بعضهم بعضاً؛ ثم يتدخل الأقارب، وفي النهاية يُقتل الجميع، ولا يبقى أحد، وتنتهي الفتنة”.
ويوضح توين وجهة نظره – كما فعل في كثير من الأحيان – بأحلك الدعابات السوداء، ولكن كيف نتجنب عواقب الإبادة الجماعية للولاء العرقي القومي؟ أصرّ إسرائيل شاحاك على أن الترياق المضاد للقومية الصهيونية ليس القومية الفلسطينية أو أي شكل آخر من أشكال التفوق العرقي الذي يُعاد تسميته بالتحرر من الاستعمار، لم يكن لديه أي أوهام حول الأصل الاستعماري للصهيونية، التي كانت على الأقل منذ وعد بلفور البريطاني (1917) جزءًا من مشروع استعماري لإقامة وطن يهودي كوكيل للنفوذ الغربي في الشرق الأوسط.
وعندما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا وفرنسا كسيدة إمبريالية في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، ورث الأمريكيون الهيمنة البريطانية على فلسطين. لكن شاحاك أدرك – تمامًا كما أدرك فرانز فانون – أنه من دون تغيير اجتماعي وسياسي جذري، فإن النخب القومية ستندمج في نخبة عالمية، وأن الأمم المضطهدة ستندمج في تحالف من المضطهدين.
وبالتالي، عندما يشكو الصهاينة من أن حرمان اليهود من “حق تقرير المصير” هو معاداة للسامية، فهم محقون من ناحية ومضطربون بشدة من ناحية أخرى، ففي عالم من الدول القومية العنيفة والمدمنة على القوة، لماذا ينبغي حرمان اليهود من حقهم في أن يكونوا عنيفين ومدمنين على القوة مثلهم مثل القوميين المسيحيين أو المسلمين أو الهندوس؟ يكمن الارتباك في افتراض أن بناء الأمة وتسليحها يحرر مجموعة عرقية أو دينية ويضمن وجودها ويسمح لها بالازدهار، ومنذ قرون مضت، ساعدت القومية على تحرير الناس من هيمنة الإقطاعيين والسلطات الدينية التقليدية، أما اليوم فهي تعمل بشكل رئيسي كوسيلة لمنع الناس من التفكير والتصرف كأعضاء في العائلة البشرية والطبقة العاملة العالمية.
ولمنع تكرار حروب الإبادة الجماعية مثل الحرب في غزة؛ نحتاج إلى القيام بما هو أكثر من “تغيير” العلاقات بين الظالمين والمظلومين، نحن بحاجة إلى الانتقال من الشكل الطفولي للهوية السياسية المسماة القومية إلى المواطنة العالمية والرشد الأخلاقي، وهذا لن يحدث حتى نستبدل النظام الذي تتلاعب فيه القلة الرأسمالية بالدول القومية لتعظيم أرباحها وسلطتها بنظام تسيطر عليه الشعوب العاملة في جميع الدول، وقد كتب هنري ديفيد ثورو في إشارة إلى أقطاب السكك الحديدية في عصره: “على الرغم من أن الحشد يندفع إلى المحطة وصراخ قائد القطار “ليصعد الجميع على متن القطار!”، إلا أنه عندما ينقشع الدخان ويتكثف البخار سيتبين أن قلة من الناس يركبون القطار، ولكن البقية قد “يُدهسون”، وسيُسمّى ذلك “حادثًا محزنًا”.
عندما ينقشع الدخان في غزة، سيتبين أن الأشخاص الوحيدين الذين لم “يُدهسوا” هم أصحاب ومدراء المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وممكّنوهم السياسيون، وسوف يعدون أموالهم، ويرشحون أنفسهم لإعادة الانتخاب، ويخططون للحرب القادمة، ولن يكون ذلك من قبيل الصدفة.
المصدر: كاونتر بنش