بعد مرور عامين على المباحثات السابقة التي كتب لها الفشل، ها هي المفاوضات السعودية مع جماعة “أنصار الله” الحوثية باليمن تدخل جولة جديدة من السباق نحو الخروج من المأزق الذي تقبع فيه المملكة قرابة 3 سنوات منذ بدء عمليات “عاصفة الحزم” مارس 2015.
الحديث هنا يدور عن جلسات مباحثات سرية جمعت – ولا تزال – بين وفد من الحوثيين برئاسة محمد عبد السلام، وآخر من السعودية، في دولة ثالثة، غير التي جرت فيها المباحثات الجولة الماضية، وتشير بعض التسريبات إلى اختيار سلطنة عمان كمقر لعقد هذه المباحثات.
المرونة في الموقف السعودي التي وصفها البعض بـ”الانقلاب في المواقف” تتزامن مع البيان الصادر عن مجلس الأمن الدولي، أمس، بمطالبة التحالف العربي الذي تقوده السعودية كذلك الحوثيين برفع الحصار فورًا عن جميع المواني اليمنية، وفتح مطار صنعاء أمام المساعدات الإنسانية، في الوقت الذي توجه فيه أصابع الاتهام للرياض وأبو ظبي بارتكاب انتهاكات حقوقية في اليمن، وهو ما قد يدفع بالسلطات السعودية إلى الإسراع بالخروج من تلك المصيدة التي أوقعت بصفوفها الكثير من الخسائر المادية والبشرية.
أنباء غير مؤكدة
حالة من التضارب في الأقوال والتصريحات شابت تسريبات إجراء مباحثات بين الطرفين، حيث لم يوجد أي تأكيد رسمي لحدوثها، إذ التزم رئيس وفد الحوثيين الصمت، فيما نفت الحكومة اليمنية الشرعية ومصدر آخر في التحالف الذي تقوده السعودية وجود أي مفاوضات بين الجانبين، ليبقى ما تم كشفه في إطار السرية والكتمان.
وفي المقابل كان لعضو المكتب السياسي لـ”أنصار الله” علي القحوم، رأي آخر، إذ أشار في تصريحات له لوكالة “سبوتنيك” الروسية، إلى وجود مفاوضات غير مباشرة تتم مع الرياض عن طريق سلطنة عمان، وهو ما يتوافق بشكل كبير مع ما تطرقت إليه “رويترز” قبل يومين حين نقلت عن عدد من الدبلوماسيين اليمنيين إجراء مباحثات سعودية حوثية في مسقط.
الحوار بين السعوديين والحوثيين يجري منذ قرابة شهرين، ويبدو أنه يهدف إلى صياغة إطار عمل، للتوصل إلى حل يتزامن مع وصول مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى اليمن
بعض التسريبات كانت قد أشارت إلى لقاءات مباشرة جمعت بين مسؤولين سعوديين وعناصر من “أنصار الله”، إلا أن القحوم علق على ذلك بقوله: “على حد علمي لا يوجد لقاء مباشر يجمع أنصار الله وشخصيات سعودية، وإنما هناك لقاءات عبر وسطاء من سلطنة عمان، هم يتوسطون بيننا وبين السعودية”.
أما عن طبيعة هذه المباحثات، فقد ذكر عضو المكتب السياسي للجماعة وجود “مؤشرات إيجابية إلى حد ما في المفاوضات”، غير أن هذا لا يعني تقدم في المسار التفاوضي، إذ نقل عنه قوله: “على الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية، فإن الحركة لا تؤمن بالمفاوضات مع السعودية”، مشيرًا في الوقت نفسه، إلى أن السعودية تحاول كسب الوقت لكن ليس لديها نية لرفع الحصار ووقف العدوان لا في المستقبل القريب ولا في وقت لاحق.
كان موقع “المشهد اليمني”، نقلاً عن مصادر مقربة من قيادات وصفها بـ”الرفيعة” في جماعة “أنصار الله”، قد كشف عن توجه الناطق باسم الجماعة إلى العاصمة السعودية الرياض، من مكان وجوده في مسقط، مؤكدًا أن هناك “توجهًا لدى مليشيات الحوثي لتقديم تنازلات للمملكة العربية السعودية مقابل إيقاف الضربات الجوية ضد الحوثيين”.
إلا أن الجماعة على لسان رئيس ما يُعرف بـ”المجلس السياسي الأعلى” بها، صالح الصماد، نفت هذه الأخبار تمامًا، معلقًا عليها بقوله: “هناك من يقول إن محمد عبد السلام في السعودية، يريدون ابتزازنا”، مضيفًا “نحن نعرف أن السعودية ليست مستعدة للسلام، وأن قرارها ليس بيدها، وإلا كنا جلسنا على طاولة ونتفاوض تفاوض الشجعان، لكن القرار ليس بيدهم، ونحن لن نساوم بكرامة الشعب اليمني وتضحياته إطلاقًا، فما نراه يحفظ للناس كرامتهم وتضحياتهم سنمضي فيه، وإذا هم يريدون إذلال الشعب اليمني والانتقاص من كرامته سنقول لهم لا، والشعب اليمني معنا في ذلك”.
تضارب الأنباء بشأن زيارة محمد عبد السلام للرياض
تفاصيل المباحثات
تفاصيل جديدة عن هذه المباحثات التي وصفت بـ”السرية” كانت قد نشرتها “رويترز” في تقرير لها، حيث نقلت عن عدد من المصادر الدبلوماسية اليمنية أن “الاتفاق المأمول سيبدأ بهدنة لوقف القتال على جبهات المعارك في أنحاء البلاد، على أن يؤدي في نهاية المطاف لتوقيع اتفاق سلام يتناول المصالح السياسية للأطراف المتحاربة”.
وأردف الدبلوماسيان: “الحوار بين السعوديين والحوثيين يجري منذ قرابة شهرين، ويبدو أنه يهدف إلى صياغة إطار عمل، للتوصل إلى حل يتزامن مع وصول مبعوث جديد للأمم المتحدة إلى اليمن هو الدبلوماسي البريطاني السابق مارتن جريفيث، الذي بدأت ولايته في المنصب يوم الأحد”.
المرونة في الموقف السعودي التي وصفها البعض بـ”الانقلاب في المواقف” تتزامن مع البيان الصادر عن مجلس الأمن الدولي، أمس، بمطالبة التحالف العربي الذي تقوده السعودية كذلك الحوثيين برفع الحصار فورًا عن جميع المواني اليمنية
الوكالة أشارت إلى أن المحادثات الحاليّة تجاوزت الحكومة اليمنية، ومقرها الرياض، التي كانت إعادة السلطة لها مبررًا للتدخل العسكري الذي قادته السعودية مما يلقي الضوء على خلافات يمنية آخذة في التفاقم عطلت جهود التحالف، فيما نقلت عن دبلوماسي آخر قوله: “هناك مشاورات بين الحوثيين والسعوديين دون حضور ممثل عن الحكومة المعترف بها دوليًا، ومن الواضح أن هناك رغبة من الحوثيين ومن التحالف في السير نحو اتفاق شامل”.
ويبقى مسألة تقدير حجم التقدم الذي تحقق في المحادثات طي الكتمان إلى حين الكشف عن تفاصيل ما دار خلف الكواليس، علمًا بأن آخر جولة محادثات سلام بين الحوثيين والحكومة اليمنية برعاية الأمم المتحدة قد عقدت في الكويت في أغسطس/آب 2016، غير أن هذه الجولة ونظيرتيها السابقتين في سويسرا لم تحقق أي نجاح.
يذكر أنه في مارس/آذار 2016 كان الاختراق السياسي الأكبر في مسار التفاوض بين الطرفين، وذلك حين توجه وفد من الحوثيين، برئاسة محمد عبد السلام، بزيارة إلى السعودية، وعقد حزمة من اللقاءات استمرت عدة أسابيع، تمخضت عن بعض القرارات أبرزها، هدنة على الحدود، إلا أنها سرعان ما انهارت في وقت لاحق، وتحديدًا مع نهاية يونيو/حزيران من العام نفسه.
غياب عبد ربه منصور هادي عن المباحثات أثار الكثير من التساؤلات
الخروج من المصيدة
البعض وصف اللقاء مع الحوثيين بأنه يمثل انقلابًا صريحًا وواضحًا في الموقف السعودي، فالرياض التي طالما رفعت شعار الرفض التام للتفاوض مع التيار الحوثي بزعم دعمه إيرانيًا، ها هي للمرة الثانية تفتح مسارات المباحثات معه، ورغم فشل الجولة الأولى من تلك المفاوضات قبل عامين فإنها سعت لجولة جديدة.
من الملفت للنظر أيضًا في هذه المباحثات أنها تتم دون مشاركة الحكومة الشرعية في اليمن ولا الرئيس عبد ربه منصور هادي، ولا حتى علمه بها، في الوقت الذي تذهب فيه أنباء إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية، ومنعه من العودة إلى اليمن، وهو ما يشير – وفق محللين – إلى رغبة سعودية في تحريك مسارات التفاوض مع الحوثيين بأسرع وتيرة ممكن.
السعودية تهدف من خلال هذه المباحثات إلى تحقيق هدفين، الأول: تقليل حجم الخسائر في صفوفها، ماديًا وبشريًا، خاصة بعد نجاح الحوثيين في الوصول بصواريخهم إلى العمق السعودي في قلب الرياض، فضلاً عن الخسائر شبه اليومية في الأرواح في المناطق الجنوبية الحدودية عند نجران وجيزان.
الاتفاق المأمول سيبدأ بهدنة لوقف القتال على جبهات المعارك في أنحاء البلاد، على أن يؤدي في نهاية المطاف لتوقيع اتفاق سلام يتناول المصالح السياسية للأطراف المتحاربة
الثاني: تخفيف الضغط الدولي على الرياض إثر الاتهامات المتتالية بتورط قوات التحالف بقيادة المملكة في ارتكاب مجازر وانتهاكات ضد أطفال اليمن ونسائه ورجاله، وهو ما وثقته الكثير من المنظمات الحقوقية الدولية، في الوقت الذي يواجه اليمن واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.
قد يكون من المبكر الحكم على نتائج هذه الجولة من المباحثات، غير أنها تشير إلى تراجع الرياض عن مواقفها السابقة، إذ بات لديها قناعة بأن مزيدًا من الوقت في اليمن ربما يكلفها ما لا تقدر عليه، سياسيًا كان أو اقتصاديًا، ومن ثم لا بد من البحث عن مخرج لإسدال الستار بأقل الخسائر.
مؤشرات عدة ساقها البعض تحمل مرونة في التعاطي السعودي مع ملف التفاوض مع الحوثيين لوقف النزيف المستمر هناك، وتزايد احتمالات وفرص السلام، لعل أبرزها – بجانب خوض جولة جديدة من المباحثات – وضع المملكة ملياري دولار كوديعة في المصرف المركزي اليمني في صنعاء، غير أن فشل الجولة السابقة يظل شبحًا يطارد نتائج المباحثات الحاليّة، ويجعل من الجزم بتحقيقها نتائج إيجابية أمرًا سابق لأوانه.