في سبيل استرجاع زعامة روسيا السابقة وتبوئها لمكانتها السابقة كقطب من الأقطاب المؤثرة في العالم؛ فإن الزعيم الروسي الطموح بوتين، لديه الاستعداد لاستخدام كل السبل لتحقيق أحلامه التي يصبو إليها، حتى لو اضطر لاستخدام أساليب الاستخبارات السوفيتية (كي جي بي) سيئة الصيت، حيث كان يعمل هناك في شبابه.
ومنذ أن تقلد فلاديمير بوتين مقاليد السلطة كرئيس لروسيا الاتحادية بالوكالة بعد تنحي الرئيس بوريس يلتسن وقتها، ثم فاز بعد ذلك بانتخابات الرئاسة عام 2000، فقد أحكم قبضته على السلطة وصفى كل خصومه السياسيين وبطرق عديدة كان الغالب منها أساليب التصفية الاستخباراتية التي أتقنها في أثناء خدمته بالمخابرات السوفيتية.
جاءت العملية الأخيرة التي نفذها عملاء روسيا في العاصمة البريطانية لندن، ضد عميل روسي يدعى سيرغي سكريبال كان يعمل في أوروبا لصالح المخابرات الروسية، وتم تجنيده من المخابرات البريطانية مقابل أموال طائلة ليصبح عميلاً مزدوجًا، بعدها تم نقل خدماته إلى داخل روسيا إلا أنه كُشف خلال اختراق أمني داخل المخابرات البريطانية، وتم الحكم عليه لمدة 13 عامًا بتهمة خيانة الدولة، لكنه في يوليو 2010 تم تسليمه إلى بريطانيا في إطار صفقة تبادل الجواسيس المعتقلين.
وُجِد سكريبال وابنته يوليا، في 4 من مارس من هذا الشهر مغمى عليهما في الشارع، تم نقلهما إلى المستشفى، لكنه فارق الحياة مع ابنته، بعد التحقيقات التي أجرتها السلطات البريطانية، اتهمت الأخيرة المخابرات الروسية بتسميم سكريبال وابنته بغاز الأعصاب السام، إلا أن موسكو نفت ذلك قطعيًا.
لم يكن سكريبال الشخص الأول الذي قُتل على يد المخابرات الروسية في بريطانيا، فقد صفت روسيا العديد من معارضيها في لندن، لكن الشيء الغريب هو رد الفعل المبالغ فيه من لندن إزاء هذه الحادثة بالذات، وحجة السلطات البريطانية بأن هذا يشكل استخدامًا غير مشروع للقوة من الدولة الروسية ضد بريطانيا، وعلى الأراضي البريطانية.
الراجح لدينا أن الغرب يتجه لوضع حدٍ للنفوذ المتنامي لروسيا في العالم، سواء في الشرق الأوسط أم أوكرانيا أم دعم وجهة النظر الكورية الشمالية ضد الولايات المتحدة الأمريكية
يتبادر للذهن بعض التساؤلات ونحن نتابع تطورات رد الفعل البريطاني، لماذا يا ترى تؤجج بريطانيا الوضع من أجل عميل روسي واحد، بينما تسكت عن كل الجرائم التي يرتكبها النظام الروسي وربيبه النظام السوري بحق الشعب السوري طيلة 7 سنوات؟ ولماذا جاءت مواقف التأييد من كل الدول الغربية سريعة للإجراءات البريطانية ضد روسيا، التي شملت طرد لعدد من السفراء وتجميد الأصول المالية للدولة الروسية في بريطانيا، وإلغاء المشاركة ببطولة كرة القدم التي ستعقد في موسكو والاستغناء عن الغاز الروسي والبحث عن بدائل، وانتهز الفرصة ترامب للقيام بتجديد العقوبات على روسيا؟
والراجح لدينا أن الغرب يتجه لوضع حدٍ للنفوذ المتنامي لروسيا في العالم، سواء في الشرق الأوسط أم أوكرانيا أم دعم وجهة النظر الكورية الشمالية ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا اليوم متورطة بدعم طالبان التي تقاتل أمريكا في أفغانستان، ودعم النظام الإيراني بوجه الولايات المتحدة، وهناك ظنون كبيرة بأن روسيا تقف خلف إسقاط الطائرة الإسرائيلية في سوريا ردًا على التدخلات الأمريكية والإسرائيلية في سوريا.
أنكرت روسيا كل الاتهامات التي ساقتها بريطانيا، وأوضحت أن تلك الاتهامات البريطانية ما هي إلا تصعيد في الحرب الإعلامية من أجل الضغط على موسكو في فترة الانتخابات الرئاسية، بالإضافة إلى عملياتها في سوريا.
لكن إلى أين تتجه الأمور من خلال هذا التصعيد بين روسيا من جهة والعالم الغربي من جهة أخرى؟ أغلب الظن أن كل ردود الفعل الروسية تجاه التصعيد البريطاني الغربي لن تتجاوز الردود الإعلامية هذه المرة، كونها لا تستطيع مواجهة الضغوط الغربية، بالأخص الضغوط الاقتصادية منها، لا سيما أن بوتين على عتبة انتخابات جديدة خلال الشهر القادم، ويحتاج إلى إنجازات سياسية واقتصادية كان يعد شعبه بها ويتغنى بها بحملته الانتخابية، لا أن يدخلها وهو مكبل بمجموعة من العقوبات الاقتصادية الغربية، رغم أن نتيجة الانتخابات محسومه لصالحه.
الطيور على أشكالها تقع
في الوقت الذي توافق بوتين مع ديكتاتور سوريا بشار الأسد، الذي لم يلبث أن تحول إلى تابع ذليل له، لكن الفارق أن بوتين كان يستخدم الغازات والسموم لتصفية خصومه، لكن بشار الأسد فاقه إجرامًا حينما استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه.
وتجد بوتين من أشد المعجبين بزعيم كوريا الشمالية حينما وصفه في حديث له: “كيم جونغ أون داهية وناضج، وفاز بالمواجهة الأحدث مع كوريا الجنوبية والغرب بشأن برنامجيه النووي والصاروخي”، ذلك لأن أوجه الشبه كبيرة بينه وبين زعيم كوريا الذي سبق له أن استخدم الغازات في تصفية خصومه، كان آخرها قتل أخيه غير الشقيق بغاز الأعصاب.
كذلك رئيس الشيشان الذي يعتبر المدلل عند بوتين، لشدة حبه له، وهو الذي يحكم شعبه الشيشاني بالحديد والنار ويصفي معارضيه حتى لو كانوا خارج البلاد.
بوتين الذي نتكلم عن بعض أعماله القذرة، نجد له من بعض زعماء الشرق الأوسط محبين ومقلدين يحاولون محاكاة أعماله وأسلوبه وتكتيكاته بتصفية خصومه والاستحواذ على السلطة، فنوري المالكي قلد بوتين في التمسك بالسلطة بالعراق وتصفية خصومه، إلا أنه فشل في إيجاد كومبارس يتبادل السلطة معه كما فعل بوتين مع كومبارسه دميتري ميدفيديف، وتجد المالكي الآن يُمنّي نفسه بالوصول للسلطة في الانتخابات القادمة كما يفعل قدوته بوتين.
وفي عددها الأخير قالت مجلة فورين بوليسي الأمريكية: “رغم أن قائمة الرجال والنساء الذين استهدفتهم الاستخبارات الروسية باستخدام الغازات السامة أو المواد الإشعاعية تضم عددًا أكبر من أي دولة، فإنها ليست الوحيدة في ذلك، ففي العام الماضي اغتال عملاء كوريا الشمالية الأخ غير الشقيق للرئيس الكوري الشمالي كيم أونغ أون بعنصر “V X” السام، وفي 1997 حاول الإسرائيليون اغتيال القيادي في حركة حماس خالد مشعل في العاصمة الأردنية عمان بجرعة قاتلة من الفينتالين”.
في الانتخابات الرئاسية بأوكرانيا عام 2004، تم تسميم المرشح الأبرز فيكتور ياشينكو الموالي للغرب بمادة قاتلة من مادة الديوكسين، وفي 2002 قتل المجاهد العربي “خطاب” بالشيشان عبر رسالة تحتوي على جرعة قاتلة من غاز السارين
لكن قائمة الذين قتلوا على يد المخابرات الروسية طويلة، كان من أشهرهم، الجاسوس الروسي المنشق أليكساندر ليتفينينكو الذي اُغتيل ببريطانيا عام 2006، عندما دُس له البولونيوم – 210 عالي الإشعاع في الشاي، في حين نجا المنشق السياسي فلاديمير كارا-مرزا من محاولتي اغتيال.
وفي الانتخابات الرئاسية بأوكرانيا عام 2004، تم تسميم المرشح الأبرز فيكتور ياشينكو الموالي للغرب بمادة قاتلة من مادة الديوكسين، وفي 2002 قتل المجاهد العربي “خطاب” بالشيشان عبر رسالة تحتوي على جرعة قاتلة من غاز السارين، بعد ذلك أعلنت الاستخبارات الروسية أن “خطاب” قُتل في عملية خاصة.
وفي لندن عام 2012، قُتل رجل الأعمال الروسي أليكساندر بيريبيليشني بسم قاتل، وعام 2008 اغتيلت المحامية الروسية المدافعة عن حقوق الإنسان كارينا موسكالينكو بمادة الزئبق، التي كانت تحقق باغتيال الصحفية الشهيرة آنا بوليتكوفسكايا التي هي الأخرى قد أُغتيلت بالسم داخل مصعد شقتها، والقائمة تطول لضحايا النظام الروسي.
إلى ماذا ستتمخض تلك الأزمة؟
من غير المستبعد أن تحاول روسيا تهدئة الأزمة لأن مخاطرها ستكون كبيرة عليها لا سيما اقتصاديًا، وبدا ذلك واضحًا حينما قررت تشكيل لجنة تحقيق بحادثة تسميم العميل الروسي سيرغي سكريبال، الأمر الذي يُفسر أنه محاولة روسية لإيجاد مخرج مشرف لها من هذه الأزمة الدبلوماسية، لكن بريطانيا والغرب بشكل عام لن يفوتوا هذه الفرصة دون الحصول على تنازلات مهمة من روسيا بالأخص بملفي سوريا وأوكرانيا.