يستمر تاريخنا بجرنا إليه كمصارعين في كل وقت، ونذهب نحن أيضًا لنفجر ونكفر ونشتم ونلغي ونقصي بعضنا، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، كلما اشتهينا، وكلما استدعتنا مناسبة لذلك، وما أكثر المناسبات!
لا بد أن نعترف بادئ الأمر أن كل مشاكلنا اليوم تتصل بشكل أو بآخر، بتاريخ الإسلام، وإن كنت أفضل أن أسميه بـ”تاريخ المسلمين”، نظرًا إلى أن شخصيات هذا التاريخ من المسلمين الأوائل، كانت وما زالت محور الخصومة الكبيرة التي تخللتها فظائع كثيرة ارتُكبت، لتشكل عقب ذلك، الانقسام الكبير – محور السنة وصحابة الرسول، والشيعة وآل بيت الرسول وأولاد عمومته – وما نتج عنه من حروب واقتتالات وتحزبات أنهكتنا وتستمر في دورها هذا إلى هذا اليوم، في معظم بلدان المشرق العربي.
التفسير القروسطي المتعنت القديم، الذي نريد الحفر تحته أركيولوجيًا وبعناية، والخوض في مشاكله بكامل إرادتنا، لنناقشها ونقلبها يمينًا وشمالًا، في العلن وتحت الضوء وأمام بعضنا، لنتجنب أي مصيبة جديدة من مصائب التطرف الديني والطائفي التي ندفع ثمنها دماءً اليوم
علماء ومفكرون وكُتاب دأبوا طوال العقود والقرون الماضية، على إصلاح هذا الشرخ الذي صنعته أحداث التاريخ بأيدي شخوصه من هذا الطرف وذاك، بيد أن جميع محاولاتهم لم تلق عقولًا تستقبلها ولا آذنًا تسمعها، لا لقصور فينا عن السمع والتكفير، إنما رغبة عجيبة في الغرق أكثر فأكثر في مستنقعات الجهل والرفض والطائفية الظاهرة منها والمبطنة، وأنا هنا لا أحاول سلك الأعلام سابقي الذكر، بل كان لا بد أن أعرج على هذه الفكرة لأقول لنفسي ولمن يقرأ: تعالوا لنحطم معًا أصنام تاريخنا، لنبدأ نحن الشباب العرب معركتنا الحقيقية.
لنتحرر من أغلال الكهنوت واللاهوت، ولنعيد للدين قيمته الروحانية المتعالية النزيهة، ولنتعلم أن الدين شيء وتفسيره شيء آخر، ومن اشتغلوا به واجتهدوا فيه ليسوا جزءًا من الدين أيضًا، بل جزء من تاريخه.
إن ثقافة تنزيه التاريخ وتقديس شخوصه لم تجعلنا أسرى لهذا التاريخ وأحداثه وموضوعاته فحسب، بل جعلتنا أسرى أنفسنا وأمراضنا التي نأبى أن نتخلص منها، من حيث أننا أصبحنا نريد أن نعيش مثلما تخيلنا وأحببنا هذا التاريخ، وليس ما كان عليه حقًا بخيره وشره وبسلبياته وحسناته، وعملية استحضار التاريخ ليكون واقعًا لم تعد مشكلة اليوم، بقدر ما أصبحت المشكلة استحضار الأمنيات اللاواقعية القديمة، لتكون القوانين الجديدة التي ستحل مشاكلنا بلمسة سحرية وبغمضة عين.
يقول المفكر والكاتب السوري هاشم صالح المقيم في باريس، في كتابه “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” الذي أُعجبت به أيما إعجاب: “التاريخ العربي الإسلامي يظل تراثي الأساسي الذي أسبح فيه كما تسبح السمكة في الماء، لي الحق في الاختيار والفرز، ولي الحق في أن أحب الفارابي وابن سينا والمعري والتوحيدي، أكثر من الغزالي وابن تيمية وبقية الفقهاء الكبار”.
ولا يتوقف صالح عند هذا الحد بل يقول: “لي الحق أن أفضل المعتزلة على الحنابلة، ولي الحق في أن أفضل التيار الإنساني والعقلاني، على التيار السلفي والإخواني، الذي يشتبه بالعقل والفلسفة، بل ويكفرهما”، وهنا يجبرني صالح على تبني موقفه الشجاع، لأقول أنا أيضًا وبصراحة، إنني أفضل ابن رشد على ابن عثيمين، وأُفضل محمد شحرور وعدنان إبراهيم وإسلام بحيري وعبد العزيز القناعي وإبراهيم البليهي، وأُحبهم أكثر من محمد العريفي ومحمد حسان والحويني والقرني وبقية الدعاة والمفكرين في الساحة، هل هناك ضير في ذلك؟
هم كانوا أحرارًا فيما فعلوا واجتهدوا ونحن أحرار بأن نأخذ الموقف مما فعلوا وقالوا بكل حرية، بما يتوافق مع أدواتنا العقلية والمنطقية، إلا إذا أردنا أن تتحكم بنا خلافاتهم وفتاواهم ومشاكلهم إلى آخر الدهر!
واستكمالًا للحديث عن ثقافة تنزيه التاريخ والتراث، فإن قلنا للمتعصب الأهوج إن المجتمع الصحابي كان بشريًا كباقي المجتمعات، والصحابة كانوا يغارون ويتناظرون ويتخاصمون ويخطئون ويُحارب بعضهم بعضًا، وسقط نتيجة بعض تلك الحوادث المئات من الأبرياء، معظمهم من الدوائر المقربة للرسول الكريم من الصحابة والتابعين، هل سيصدق المتعصب ذلك؟ ربما نعم مع قليل من الجهد، لأن ذلك ليس مستغربًا، فالمجتمع الصحابي لم يكن ملائكيًا، فما بالكم بالمجتهدين المتأخرين من أمثال محمد بن عبد الوهاب وابن عثيمين وحسن البنا وغيرهم، من الذين يتمتعون اليوم بهالة من القدسية، أجزم أن الكثير من الصحابة لم يتمتعوا بها.
إذًا هم كانوا أحرارًا فيما فعلوا واجتهدوا ونحن أحرار بأن نأخذ الموقف مما فعلوا وقالوا بكل حرية، بما يتوافق مع أدواتنا العقلية والمنطقية، إلا إذا أردنا أن تتحكم بنا خلافاتهم وفتاواهم ومشاكلهم إلى آخر الدهر! شكرًا لكل العلماء والمجتهدين في كل العصور السابقة، ونقول لهم انتهى وقتكم وهذا الوقت وقتنا، لنحل مشاكلنا بأنفسنا دون وصاية مقدسة، أنتم اجتهدتم ونحن سنجتهد، وأنتم رجال ونحن رجال، ولكل عصر دولة ورجال.
يتفرع عن موضوعنا هذا قضايا كثيرة تتعلق به بشكل مباشر، أولها قضية التفسير المنطقي المستنير للدين الذي نسعى إليه جاهدين، والتفسير القروسطي المتعنت القديم، الذي نريد الحفر تحته أركيولوجيًا وبعناية، والخوض في مشاكله بكامل إرادتنا، لنناقشها ونقلبها يمينًا وشمالًا، في العلن وتحت الضوء وأمام بعضنا، لنتجنب أي مصيبة جديدة من مصائب التطرف الديني والطائفي التي ندفع ثمنها دماءً اليوم، في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر وبلدانًا عربية عزيزة أخرى، ولكن لا بد من فهم الخلفية الثقافية والمعرفية لهذه المشكلة قبل بدء معركتنا الفكرية معها.