كان القرار الأول لوزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في الحرب على غزة هو إغلاق المعابر بشكل كامل، ومنع إدخال الغذاء والدواء والوقود، فيما وصف الفلسطينيين في تلك الفترة بأنهم “حيوانات” يجب قتلهم في تسريب صوتي له.
شكّل هذا الأمر مدخلًا لتجويع غزة والضغط على أهلها بورقة الطعام مقابل تسليم الأسرى الإسرائيليين، الذين كان عددهم في اليوم الأول للحرب 250 أسيرًا وأسيرة قبل أن تتم الصفقة الأولى، وتتم استعادة بعض الأسرى على شكل جثث، أو عملية التخليص الأخيرة في النصيرات.
وخلال فترة الحرب تمّ التوصل إلى صفقة بوساطة فرنسية قطرية تقوم على إرسال الأدوية للقطاع مقابل وصولها إلى الأسرى الإسرائيليين في غزة، وهو ما عكس استخدام الاحتلال لسلاح التجويع في محاربة غزة وأهلها للضغط على المقاومة.
إلى جانب التجويع تحضر حرب العطش التي يقوم بها الاحتلال باستهداف آبار المياه وتعطيل وصول الفلسطينيين إليها، حيث إن التقديرات تشير إلى أن حصة الفرد في قطاع غزة من المياه تراجعت بنسبة 97% منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فيما انخفضت حصة الفرد الواحد إلى ما بين 3-15 لترًا يوميًا في ظل الحرب.
ويتحكم الاحتلال الإسرائيلي بعدد الشاحنات الواردة للقطاع من خلال الإدخالات المحدودة التي تتم بشكل يومي، والتي لا تراعي احتياجات الفلسطينيين الأساسية من الأطعمة والمشروبات، وهو ما انعكس بالسلب على واقعهم الصحي.
ومنذ بداية الحرب على غزة وثّق المرصد الأورو متوسطي نحو 49 حالة وفاة بين الأطفال في قطاع غزة بفعل الجوع وانعدام الأمن الغذائي، فيما يواجه 3 آلاف و500 طفل خطر الموت بسبب سوء التغذية ونقص المكملات الغذائية والتطعيمات، وتنتشر ظاهرة إصابتهم بالهزال والضعف الحاد والأوبئة، وباتوا يعانون بشدة من أجساد نحيلة ووجوه شاحبة وباهتة وعيون بارزة.
سياسة تاريخية
كان زعيم النازية أدولف هتلر أحد زعماء العالم التاريخيين الذين استخدموا سلاح التجويع لتركيع السوفيت، حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي.
غير أن هذا السلاح الحربي الذي لا يعتمد على القصف أو الأسلحة التقليدية كان أحد زعماء السوفيت جوزيف ستالين من استخدمه قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنوات، لقتل ما يقَّدره المؤرخون بين 3 و12 مليون شخص معظمهم من أصل أوكراني.
حيث تعمدت السلطات السوفيتية إحداث هذه الكارثة عمدًا عندما أراد ستالين تجويع الفلاحين الأوكرانيين وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية الحكومية التي تسمّى “كولخوز”، والتي ادّعى أنها ستكون أكثر فعالية، وتنتج فائضًا من شأنه إطعام العمال الصناعيين، لكنه سعى في الواقع إلى معاقبة ذوي العقلية الاستقلالية الذين شكّلوا تهديدًا لسلطته الشمولية.
وفي عام 1932 تم رفع حصة الحكومة السوفيتية من المحاصيل بشكل يعجز الفلاحون عن تلبيته، فأمر ستالين بمصادرة ما أنتجه الفلاحون من الحبوب، ولم يبقَ لهم أو لأسرهم أي شيء، وغالبًا ما عوقب المزارعون الذين خزّنوا محاصيلهم بمصادرة حقولهم ومنازلهم ونفيهم أو سجنهم أو إعدامهم.
وبعدها بسنوات، استخدم هتلر هذا السلاح واستعان به خلال عملية بربروسا عام 1941، حيث شرع في تنفيذ ما عُرف بـ”خطة الجوع” التي صاغها هيربيرت باك، الذي كان وزير دولة في وزارة الأغذية والزراعة بالرايخ الألماني حينها.
وتضمنت الخطة التي راح ضحيتها الملايين الاستيلاء على الأراضي التي كان يسيطر عليها السوفيت، ومصادرة محاصيلها بهدف إطعام القوات الألمانية، وذلك لتأمين الغذاء للألمان داخل ألمانيا مقابل تجويع السكان المحليين حتى الموت.
واستخدم هتلر سردية تفوق العرق الآري للدعاية لخطته، وتبرير سرقة الأراضي والإمدادات من أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم “أدنى عرقيًا”، أو أولئك الذين اُعتبروا “غير جديرين بالعيش”، أو مَن أُطلق عليهم “المستهلكون عديمو الفائدة”، وشمل ذلك البولنديين والغجر والسلاف وذوي الإعاقة والمثليين واليهود الذين كانوا على رأس القائمة.
أدوات الإبادة الجماعية
خلال الحرب الجارية من إبادة وتدمير، وضع الاحتلال الإسرائيلي عبر وزارة الحرب “خطة الخطوط الحمراء”، وتم عرضها على المجلس الوزراء المصغّر “الكابينت”، حيث تهدف إلى مراقبة دخول الغذاء إلى غزة وتمرير الحد الأدنى منه بما يمنع فقط حدوث مجاعة، وحساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء سكان غزة على قيد الحياة وليس أكثر من ذلك.
وحتى قبل عرض الخطة ظهرت استراتيجيتها في تصريحات مسؤولين إسرائيليين تكشف خفايا ما يدبّرونه للقطاع، مثل تصريح مهندس خطة الانسحاب من القطاع دوف وايسغلاس، بأن الغزيين سيظلّون ملتزمين بحمية غذائية دون دفعهم إلى الموت جوعًا.
وبناء على هذا الأمر لا يجب إغفال تلك الخطة التي سُرّبت منتصف عام 2009، حيث كشفت تفاصيل العمل الذي قامت به هيئة من وزارة الحرب بالتعاون مع وزارة الصحة الإسرائيلية، لاحتساب استهلاك الغذاء العادي لسكان قطاع غزة وتحديدًا حساب السعرات الحرارية اللازمة لبقاء الفرد على قيد الحياة، وقد قدّرت الخطة عدد السعرات الحرارية اللازمة يوميًا للفرد في القطاع بـ 2279 سعرة.
ورغم تعارض هذا الأمر مع القانون الدولي، إلا أن الاحتلال طبّق الخطة على أرض الواقع، حيث تنص المادة 2 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية على أن إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، ينطبق عليه مفهوم الإبادة الجماعية.
وتنص المادتان 55 و59 على ضرورة تموين السكان بالمؤن الغذائية، وألا تحول الدول دون وصول الإمدادات الغذائية، والسماح لعمليات الإغاثة لمصلحة السكان، في حين أشار نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقاعدة 156 من القانون الدولي الإنساني العرفي، إلى أن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني تشكّل جرائم حرب، ويقع ضمنها استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب، بحرمانهم من أشياء لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك إعاقة تزويدهم بمؤن الإغاثة.
لجأ السكان في غزة إلى تناول أعلاف الحيوانات أو طحنها لصناعة الخبز منها، عدا عن طهي الأعشاب لتحويلها إلى سوائل يتناولونها خلال فترات اشتداد الأزمة، وهو ما عرّضهم لظواهر صحية خطيرة
ولم تنقذ المساعدات الإنسانية المتواضعة التي وصلت إلى غزة، قبل وأثناء الهدنة الإنسانية، القطاع من الانزلاق لخطر المجاعة، وقد وقفت المنظمات الدولية عاجزة عن القيام بواجبها في تقديم الإمدادات الإغاثية الغذائية لسكان القطاع.
حتى قد تم حرمان شمال القطاع من وصول المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها لتهجير الناس من مناطق الشمال، وهي جريمة مضاعفة بتجويع السكان ودعوتهم للتهجير القسري وفقًا للقانون الدولي.
نماذج للتجويع في غزة: سلع غير أساسية
خلال الحرب على غزة اتّبع الاحتلال الإسرائيلي أشكالًا من التجويع، فعلى سبيل المثال وفي الوقت الذي كان يمنع فيه وصول الدقيق والخبز إلى مخابز غزة والشمال، كانت عمليات التوزيع تتم بشكل اعتيادي في الجنوب والوسط من القطاع.
وإلى جانب ذلك، ومع تشغيل معبر رفح في تلك الفترة وعمليات التفتيش، كان الاحتلال يسمح بمرور أصناف من السلع غير الأساسية مثل الإندومي أو المنبّهات (القهوة والنسكافيه) وأصناف من الشوكولاتة.
فيما كانت الأسواق تخلو من اللحوم والخضروات والفواكه، وهو ما يعكس تطبيقًا عمليًا من قبل الاحتلال لسياسة الخطوط الحمراء، وهو ما يدفع السكان للاعتماد على أصناف غير مفيدة لسدّ الجوع.
علاوة على ذلك، إن الاحتلال يتحكم في أعداد الشاحنات التي يُسمح لها بالوصول إلى القطاع، ويعرقل عبر منظمات يهودية يمينية وصول الشاحنات من الضفة لغزة عبر التظاهرات التي تعترض طريق المساعدات.
في الوقت ذاته، لم يقم الميناء الأمريكي المؤقت بالعمل بشكل فعلي، حيث اقتصر على عشرات الشاحنات فقط مع تعطيل شبه مستمر، علاوة على أن المعابر البرية كانت تشهد يوميًا إدخال ما لا يقل عن 500 شاحنة من مختلف الاحتياجات.
ولجأ السكان في غزة منذ بداية الحرب إلى تناول أعلاف الحيوانات أو طحنها لصناعة الخبز منها، عدا عن طهي الأعشاب لتحويلها إلى سوائل يتناولونها خلال فترات اشتداد الأزمة، وهو ما عرّضهم لظواهر صحية خطيرة.