“عميل للمخابرات الأمريكية وجاسوس للمخابرات السعودية” هذا هو الدكتور عبد الله عزام في نظر الطبيب أيمن الظواهري على حد وصفه، وأن عزام لم يكن سوى عميل متعاون مع عميل آخر للمخابرات الفرنسية وهو أحمد شاه مسعود، هجوم الظواهري لاغتيال شخصية الدكتور عبد الله عزام في حياته أمام المقاتلين العرب والأفغان كان مكثفًا لإفقاد الجمهرة الشعبية لعزام زخمها.
وصلت اتهامات الظواهري للقدح في ذمة عزام المالية والمطالبة بقطع يده كسارق، قاد هذه الحملة المصري أبو عبد الرحمن خضر المعروف بـ”أبو عبد الرحمن الكندي” نسبة إلى جنسيته الكندية وهو الصديق المقرب من الظواهري، حيث اتهم عبد الله عزام بتحويل المساعدات والتبرعات المالية للشعب الأفغاني إلى السفارة الأمريكية في إسلام أباد وإلى جمعيات خيرية مسيحية، وسرعان ما انتشرت في بيشاور الدعاوى المطالبة بمحاكمة عبد الله عزام ووزعت الملصقات والمنشورات الورقية المحرضة على ذلك.
البعض قد يصنف طبيعة الخلاف بين الظواهري وعزام بالخلاف الفكري أو المنهجي، لكن في حقيقة الأمر ما كان بين الرجلين أعمق من وصفه بالخلاف؛ فكليهما يحملان مشروعين متضادين مما أحدث شرخًا في مسيرة المقاومة الأفغانية بأكملها
وبالفعل عُقدت محاكمة أفضت إلى إلزام عزام بإعادة أموال المساعدات إلى يد أبو عبد الرحمن الكندي، هذه التفاصيل جاءت في كتاب “حركة الجهاد العالمي” لمؤلفيه روهان غونارانتا وأفيف أوريج.
اجتمع لإقصاء عبد الله عزام القطبان السعودي والمصري في أفغانستان كما يوضح “لورانس رايت” الكاتب والصحفي الأمريكي المتخصص في دراسات تنظيم القاعدة وصاحب كتاب “البروج المشيدة.. القاعدة والطريق إلى 11/9” وهو نتاج بحث معمق لخمسة أعوام، وثق رايت خلالها مئات المقابلات وصُنف عمله كأفضل كتاب تحليلي في دراسة تنظيم القاعدة وهو الكتاب الأعلى مبيعًا بين الكتب التي موضوعها الإرهاب.
تناول رايت في أحد فصول الكتاب مرحلة التخلص من عبد الله عزام بتدبير من الظواهري والعمل على تنحيته عن قيادة المقاتلين العرب والأهم من هذا وذاك عزله عن الممول اللوجستي والمادي الأبرز أسامة بن لادن، هذه الرؤية للظواهري اتفقت مع التيار السعودي المتشدد في أفغانستان الذي كان يرى في عزام معضلة جذب الشباب السعودي لتبني نهج جماعة الإخوان المسلمين، الأمر الذي لا بد من إيقافه.
البعض قد يصنف طبيعة الخلاف بين الظواهري وعزام بالخلاف الفكري أو المنهجي، لكن في حقيقة الأمر ما كان بين الرجلين أعمق من وصفه بالخلاف؛ فكليهما يحملان مشروعين متضادين مما أحدث شرخًا في مسيرة المقاومة الأفغانية بأكملها، ففي الوقت الذي كان يعتقد فيه عزام بتوجيه الخبرات العسكرية الكامنة في المقاتلين العرب إلى تطوير مشروع المقاومة الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة، كان الظواهري يعتقد يقينًا بنهج الانتقام تحت مظلة التكفير (الفكر الذي حمله معه من مصر).
كان هاجس الظواهري حشد كل الجهود للانقضاض على الأنظمة العربية وإسقاطها وضرورة البدء بمصر تحديدًا وهي المنهجية التي سيقوم عليها ما عُرف بتنظيم القاعدة لاحقًا، والكفة بين المشروعين رجحها النفوذ المالي المتمثل بابن لادن الذي انفض عن عزام ليتبنى مشروع الظواهري.
بحسب شهادة عبد الله أنس مدير مكتب “خدمات المجاهدين” لم يكُن الظواهري معروفًا كمجاهد في بيشاور بل كانت مهمته التي أوكلها لنفسه هي تجنيد المقاتلين لشن هجمات ضد مصر، وأصبح أسامة بن لادن جزءًا من هذه المجموعة الجديدة وكانوا يجتمعون في بيت الضيافة لأسامة بن لادن.
كثفت المجموعة جهودها للطعن في مسعود؛ فأصدرت بيانًا رسميًا باللغات العربية والأردو والإنجليزية ونشرته في الصحف ووزعته في بيت الضيافة في بيشاور، كان فحوى البيان أن أحمد شاه مسعود يعطل تطبيق الشريعة، وحمل البيان توقيع واحد وعشرين من المقاتلين العرب، عبد الله عزام وصف البيان بالجنون وتبرأ منه وأكد على صلاح مسعود وأشاد بمنهجه.
وفقًا لأسامة رشدي القيادي في الجماعة الإسلامية الذي كان موجودًا في بيشاور آنذاك، كانت هذه النقطة التي استغلها الظواهري ضد عزام واتهمه بالكذب في وصفه لمسعود وحاول تأليب رأي المقاتلين ضد عزام من خلالها، وطلب من المسلمين عدم الصلاة خلف عبد الله عزام.
عبد الله عزام لم يكن الأب الروحي للجميع، فقد كان هناك معارضون لعزام ومخالفون لأفكاره وأسلوبه من التكفيريين كما يقول البحري، ورموز جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد المصرية لم يتفقوا مع فكر عبد الله عزام وهي الجماعات التي انضمت فيما بعد تحت لواء تنظيم القاعدة
يؤكد ناصر البحري الحارس الشخصي لابن لادن في حوار نُشر عام 2005 في صحيفة القدس العربي أجراه معه مراسل الصحيفة في صنعاء الصحافي “خالد الحمادي”، بأن عبد الله عزام رفض أسلوب التجريح تجاه مسعود أو غيره، وأنه كان يذكر الجميع بكل أدب واحترام حتى خصومه، ورفض طلب المتشددين بأن يُصدر بيانًا أو تصريحًا بخيانة وعمالة مسعود.
ولدى سؤال البحري عما إذا كان عبد الله عزام هو الأب الروحي للأفغان العرب فكان جوابه مغايرًا لما هو دارج في أذهان الكثيرين، فعبد الله عزام لم يكن الأب الروحي للجميع، فقد كان هناك معارضون لعزام ومخالفون لأفكاره وأسلوبه من التكفيريين كما يقول البحري، ورموز جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد المصرية لم يتفقوا مع فكر عبد الله عزام وهي الجماعات التي انضمت فيما بعد تحت لواء تنظيم القاعدة.
فرج إسماعيل صحفي مصري كان يغطي مسيرة ما عُرف بالجهاد الأفغاني لصحيفة “المسلمون” التي انطلقت عام 1986، يسلط فرج الضوء على التوتر الذي كان يسود العلاقة بين عزام من جهة والظواهري وابن لادن من جهة أخرى، فيقول: “قبل بضعة شهور من اغتيال عبد الله عزام كان هناك نوع من التردد تجاه عبد الله عزام من الظواهري وابن لادن، في ذلك الوقت مُنع عبد الله عزام من إلقاء المحاضرات في بيت الأنصار”، بيت الأنصار هو ملتقى الأفراد الذين سيأسسون لاحقًا تنظيم القاعدة.
هذه العلاقة المتوترة يؤكد حسن عبد ربه أحد المنضمين للمقاتلين العرب في مراحل المقاومة الأولى في أفغانستان حقيقتها إلى حد جعله مُقتنعًا بأن القاعدة مَنْ وراء اغتيال عبد الله عزام، يقول عبد ربه: “في عام 1989 كان هناك خلاف بين المصريين وعبد الله عزام، لقد كرهوه للاختلاف العقائدي في نظرتهم للإيمان ولأنهم كانوا يرغبون بإبراز نجم أسامة بن لادن، إنني أشك بتورط ابن لادن في اغتيال عبد الله عزام، لكنني أعتقد بتورط المصريين؛ لأن مقتل عبد الله عزام تزامن مع تأسيس تنظيم القاعدة”.
وفي شهادة الدكتور كمال الهلباوي أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذي كان في بيشاور وقت اغتيال عبد الله عزام تلميح مباشر بتورط بعض مؤسسي القاعدة في اغتيال عزام، يقول: “أعتقد بأن قاتلي عزام كانوا من البيئة المحلية، ليسوا الصهاينة ولا الروس ولا حتى الأمريكيين، فالسوفييت كانوا قد هُزموا بالفعل، أعني إما العرب أو الأفغان من قتلوه، فهناك بعض الفصائل المجاهدة التي لم تكن سعيدة من عبد الله عزام، وقبيل اغتيال عزام انتشرت العديد من التصريحات والمنشورات في بيشاور التي تتهمه بأنه مسلم غير صالح”.
هذه الشهادات جمعها “بيتر بيرغان” الصحفي ومحلل شؤون الأمن القومي لقناة CNN في كتابه (أسامة بن لادن الذي أعرف: التاريخ الشفوي لزعيم القاعدة) الذي يستند في كتابه على توثيق شهادات مَن عاصروا ابن لادن في مختلف مراحله السياسية والعسكرية.
وفي شهادة أخرى لعبد الله أنس وردت في كتاب “تفكيك القاعدة” للكاتبة إيلينا ماستورز يقول أنس: “عبد الله عزام اشتكى لي من مفتعل المشاكل بين المجاهدين وتحديدًا الظواهري، وسرعان ما سيوقع الفتنة بين عبد الله عزام والمتطوعين”.
في عام 1989 عقد عبد الله عزام اجتماعًا لخمسة من قيادات الجهاد بهدف توحيد الرؤى تحت غاية واحدة، إلا أن عُقبى الاجتماع كانت كارثية؛ حيث اتهم كل قيادي الآخر بالهرطقة، وغادر ابن لادن والظواهري الاجتماع مُحبطين وغاضبين من عزام، هذا الاجتماع السري قبيل اغتيال عبد الله عزام وثقه أحد عملاء الاستخبارات الفيدرالية الأمريكية وروى أحداثه للكاتب جونثان رايت التي ذكرها في كتابه “الإرهاب والأمن الداخلي”.
يعلق “بيتر بيرغان” في بحثه عن الجهة التي وقفت خلف اغتيال عبدالله عزام فيقول: “كلما نظرتُ في موت عبد الله عزام بدا لي معقولًا أكثر أن موته لم يكن له علاقة بدوره في تأسيس حركة حماس ولا بالأفغان الشيوعيين بل هو أقرب لتحالف مصريين متطرفين مع القائد الأفغاني غلبدين حكمتيار الذين اجتمع لديهم الدافع الأقوى لقتل عبد الله عزام، فمع موت عزام يقضي حكمتيار على أبرز مؤيدي خصمه الرئيسي مسعود وفي الوقت ذاته يتخلص الجهاديون المصريون من قائد الأفغان العرب الذي لم يشاركهم رؤيتهم لضرورة إسقاط الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، مع رحيل عزام أصبح لفكر القاعدة بعض الثقل بين الأفغان العرب”.
الظواهري خريج كلية الطب في جامعة القاهرة وحامل درجة الماجستير في جراحة العيون دشن للفكر المحظور وقولب جميع أطروحات هذا الفكر في بوتقة الحرب؛ فاعتبر العالم أجمعه في معسكر وفكره في معسكر مواجه
موقف عبد الله عزام الفقهي والأيديولوجي الذي وضعه على فوهة مواجهة مع تيار الظواهري كان شديد الوضوح، مساندة المقاتلين العرب للشعب الأفغاني في دحر الاحتلال السوفيتي ولا عدو إلا العدو الصهيوني، لم يكن هذا الموقف لعزام حديث العهد إبان إقامته في أفغانستان، بل سبق أن اتخذ الموقف ذاته خلال أحداث ما عُرف بـ”أيلول الأسود” عام 1970 في الأردن عندما كان مسؤول قاعدة بيت المقدس في معسكرات الشيوخ التابعة لجماعة الإخوان المسلمين ضمن مخيمات الفدائيين التابعة لحركة فتح.
إذْ استقر رأي عبد الله عزام وباقي القيادة الميدانية لقواعد الشيوخ آنذاك على ألا يشاركوا في تلك الأحداث بصف أي كان؛ فأخلوا خيامهم وأمروا مقاتليهم بالاعتصام في الجبال ولم يطلقوا رصاصة واحدة في وجه أي جانب، مؤكدين في بيان أصدروه حينها بأن العدو الوحيد الذي التحقوا بالعمل الفدائي لمحاربته هو العدو الصهيوني، وأنهم لذلك لا يمكنهم أن يصوبوا بنادقهم لغير هذا العدو الصهيوني.
هذه المنهجية لم تتغير في مُعتقد عزام وكانت بوصلته التي ربما أودت بحياته بطريقة أو بأخرى، فحتى ما عُرف بـ”الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين” التي انتسب إليها عدد من الجماعات المتطرفة والشخصيات المصنفة في قوائم الإرهاب وقادت تنظيم القاعدة حيث كانت الممثل والناطق الرسمي الوحيد باسمها، فهذه أُنشئت عام 1998 أي بعد اغتيال عبد الله عزام بتسعة أعوام، ومنها تفرعت للقاعدة جبهات في العالم.
بين الطبيب والفقيه العالم العامل تكمن الفجوة التي خلقت الفهم العقيم تجاه المخالف وأنعشت البيئة المناسبة لخلق التطرف، هما فكران متضادان لا يمكن أن يجتمعا، فالظواهري خريج كلية الطب في جامعة القاهرة وحامل درجة الماجستير في جراحة العيون دشن للفكر المحظور وقولب جميع أطروحات هذا الفكر في بوتقة الحرب؛ فاعتبر العالم أجمعه في معسكر وفكره في معسكر مواجه.
من المهم مراجعة تجربة حرب أفغانستان الأولى ودراسة انعكاساتها على اليوم الحاضر، والوقوف على أثر انبعاثات تلك المرحلة تحديدًا في ظهور تنظيم القاعدة وغيرها من التنظميات القتالية المتطرفة
في المقابل كان الأستاذ الجامعي عبد الله عزام خريج الأزهر العريق والمدرس في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية يحمل قناعات لا تتسق مع نمطية احتكار الإيمان بالله في جماعة بعينها دون غيرها بالارتكاز على التقييس الأيديولوجي، واستند في ذلك إلى الحجة والدليل العلميين؛ مما أهله ليكون ليس فقط حجرًا بل صخرة جلفة في طريق تمدد الفكر التكفيري.
يقول ناصر البحري الحارس الشخصي لابن لادن: “كان هناك من المجاهدين العرب من هم ضد الشيخ عزام، ولكن ظروفهم ووضعهم لم تسمح لهم بمواجهة هذا الرجل، لأنه كان قويًا في وضعه، قويًا في طرحه، قويًا في حواره وقويًا في جميع المجالات، وأي مواجهة معه كانت لن تكون صحيحة، ولم يكن في تلك الساحة من يملك القدرة على مواجهته”.
من المهم مراجعة تجربة حرب أفغانستان الأولى ودراسة انعكاساتها على اليوم الحاضر، والوقوف على أثر انبعاثات تلك المرحلة تحديدًا في ظهور تنظيم القاعدة وغيرها من التنظميات القتالية المتطرفة، ومراجعة مواقف الفاعلين الرئيسيين في تلك المرحلة وتحليلها بين الصواب ومجانبته، ومن بين هؤلاء الدكتور عبد الله عزام بلا شك، إلا أن إشكالية النص التحليلي لهذه المرحلة التي يقع بها البعض تكمنُ في إغفال حقيقة التصادم المنهجي المباشر بين القاعدة وعبد الله عزام في الوقت الذي يعتبرها الدارسون المختصون في دراسات الحركات الإسلامية في العالم كما أسلفنا آنفًا حقيقة أساسية واقعة لم توقفها إلا وفاة عزام.