ذات نهارٍ شتويٍّ بارد قبل عامين، كان وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور يجلس في مكتبه الوثير ببرج الوزارة المُطل على شارع النيل بالخرطوم يتابع تفاعلات قرار المملكة العربية السعودية قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران احتجاجًا على اقتحام نشطاء إيرانيين لمقر السفارة السعودية في العاصمة طهران وقنصليتها في مدينة مشهد.
الخارجية السودانية آخر من يعلم بقطع العلاقات مع إيران!
في تلك الأثناء أوردت الفضائيات العالمية خبرًا عاجلًا مفاده أن جمهورية السودان قررت قطع العلاقات مع إيران واستدعاء سفيرها هناك، وكانت المفاجأة أن وسائل الإعلام نقلت النبأ عن وكالة الأنباء السعودية التي أوضحت أن مدير مكتب الرئيس السوداني وزير الدولة طه عثمان أبلغ ولي ولي العهد السعودي “آنذاك” الأمير محمد بن سلمان بقرار الخرطوم وكانت وزارة الخارجية السودانية آخر من يعلم.
لم يشأ غندور وهو الرجل المهذب الصامت أن يحتج صراحةً، بل أخذ يبرر قرار الحكومة السودانية المفاجئ ويدافع عنه أمام وسائل الإعلام، مدعيًا أن “قطع العلاقات مع إيران قرار سوداني خالص لا يبحث عن مقابل، واتُخذ بعد نقاشات مطولة وآراء متباينة”.
قرار قطع العلاقات مع إيران لعب فيه طه عثمان مدير مكتب الرئيس السوداني السابق، دورًا كبيرًا حيث نجح في إقناع البشير باتخاذ القرار المتعجل دون الرجوع إلى المؤسسات الرسمية فلم يكن هناك داعٍ لاتخاذ خطوة كهذه لأن معظم دول الخليج التي هي أقرب للسعودية بالطبع اتخذت قرارات بخفض التمثيل الدبلوماسي مع طهران وليس قطع العلاقات كلية
بينما يعلم الجميع أن الخطوة المتعجلة التي اتخذتها الحكومة السودانية بعيدًا عن مؤسساتها الرسمية مثل وزارة الخارجية وربما جهاز المخابرات، لم تكن مدروسة بأي حالٍ من الأحوال، بل كانت مجاملة للسعودية التي هرول السودان إليها دون دراسة أو تأنٍّ بعدما انضم إلى تحالف “عاصفة الحزم” الذي تقوده المملكة في اليمن وأرسل آلاف الجنود إلى هناك.
ومنذ استيلاء نظام “الإنقاذ” على الحكم في يونيو/حزيران 1989، وهو يقيم علاقات وثيقة مع إيران وحزب الله، كما استضاف حركات المقاومة الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي، وعانى جراء تلك المواقف من استهداف إسرائيلي متكرر؛ إذ قصفت طائرات يعتقد أنها إسرائيلية مصنع اليرموك للذخائر جنوب الخرطوم في 2012، وقبله بعام استهدف سلاح الجو الإسرائيلي سيارة تقل مواطن سوداني وآخر فلسطيني في مدينة بورتسودان الساحلية حيث يعتقد أن الرجلين كانا على صلة بتسهيل وصول الأسلحة إلى غزة عبر البحر الأحمر.
إذًا، قرار قطع العلاقات مع إيران لعب فيه طه عثمان مدير مكتب الرئيس السوداني السابق، دورًا كبيرًا حيث نجح في إقناع البشير باتخاذ القرار المتعجل دون الرجوع إلى المؤسسات الرسمية فلم يكن هناك من داعٍ لاتخاذ خطوة كهذه لأن معظم دول الخليج التي هي أقرب للسعودية بالطبع اتخذت قرارات بخفض التمثيل الدبلوماسي مع طهران وليس قطع العلاقات كلية بينما لم تتضامن سلطنة عمان نهائيًا مع السعودية في صراعها مع إيران.
زيارات متكررة للرؤساء الإيرانيين إلى السودان
وما يدل على عمق العلاقات السودانية الإيرانية، زيارات الرؤساء الإيرانيين السابقين للخرطوم، ففي 2004 خاطب الرئيس الأسبق محمد خاتمي أعضاء المجلس الوطني السوداني (البرلمان) بعد جلسة مباحثات مطولة أجراها مع الرئيس عمر البشير تناولت العلاقات بين البلدين وقضية دارفور والأوضاع في الصومال والعالم الإسلامي.
الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي
وخلال الزيارة وقّع البلدان اتفاقيتين إحداهما عن منع الازدواج الضريبي، والثانية عن وقاية النباتات والحجر الزراعي، كما شهدت الزيارة التوقيع على مذكرة تفاهم بين بنك السودان والبنك المركزي الإيراني.
أحمدي نجاد يترافع عن الخرطوم في الأمم المتحدة
وفي 2011 عقب انفصال جنوب السودان مباشرةً، استقبلت الخرطوم الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد الذي استبق رحلته إلى السودان بخطابٍ ثائرٍ أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هاجم فيه مجلس الأمن الدولي بشدة، قائلاً إنه أسهم في تقسيم السودان وتحفيز الجنوب على الانفصال، حينها، قُوبلت كلمة “نجاد” بغضبٍ أمريكي ـ أوروبي انسحب معها الوفدان من الجمعية العامة في أثناء إلقائه كلمته.
وآنذاك، وصف مستشار الرئيس السوداني مصطفى عثمان إسماعيل زيارة نجاد للسودان بـ”المهمة”، خاصة أن الرجل وصل بعد مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يعني وفقًا لإسماعيل تزويدهم برؤيةٍ حيال تطورات الأوضاع الإقليمية والدولية.
الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد
وكان البلدان قد وقعا في 2008 اتفاقية أمنية لم تعلن تفاصيها لكن الثابت أن طهران دعمت الخرطوم سياسيًا وعسكريًا خلال فترة عزلته الإقليمية والدولية.
بداية توتر العلاقات مع إيران.. السودان يغلق المراكز الثقافية
في سبتمبر/أيلول 2014، اتخذ السودان قرارًا بإغلاق جميع المراكز الثقافية الإيرانية الموجودة على أراضيه وأمهل الملحق الثقافي الإيراني ودبلوماسيين آخرين 72 ساعة لمغادرة البلاد.
وذكرت وزارة الخارجية السودانية في بيان لها الثلاثاء 2 من سبتمبر/أيلول أن “السودان ظل يتابع نشاط المركز الثقافي الإيراني وفروعه في ولايات السودان وتأكد له مؤخرًا أن المركز وفروعه قد تجاوزوا التفويض الممنوح لهم والاختصاصات التي تحدد الأنشطة التي يخول القيام بها وبذلك أصبح يشكل تهديدًا للأمن الفكري والأمن الاجتماعي”.
قرار إغلاق المراكز الإيرانية وجد ارتياحًا عامًا لدى قطاع عريض من الشعب السوداني، ذلك لأن استفهامات كثيرة كانت تدور حول طبيعة نشاط هذه المراكز الذي يفترض ألا يتجاوز التعريف بالثقافة والتراث الإيراني
من جانبه، قال مصدر حكومي سوداني – طلب عدم ذكر اسمه – لوكالة الأنباء الفرنسية إن قرار الحكومة جاء بسبب “تزايد نشاط هذه المراكز في التبشير بالمذهب الشيعي”.
في المقابل، علّق مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والإفريقية حسين أمير عبداللهيان لوكالة أنباء فارس على قرار السودان، قائلًا إن بعض التيارات السودانية تحاول التأثير على العلاقات الطيبة بين طهران والخرطوم.
يُستدل من تصريحات المسؤول الإيراني الرفيع أن بلاده كان لديها أمل في أن تتراجع حكومة عمر البشير عن قرار إغلاق المراكز الثقافية أو على الأقل لا تتخذ خطواتٍ تصعيدية مثلما حدث لاحقًا في 2016.
وربما كانت إيران تثق في أن السودان لن يضحي بعلاقاته الإستراتيجية مع إيران بمنتهى السهولة كما حصل بالفعل، ونشير إلى أن قرار إغلاق المراكز الإيرانية وجد ارتياحًا عامًا لدى قطاع عريض من الشعب السوداني، ذلك لأن استفهامات كثيرة كانت تدور حول طبيعة نشاط هذه المراكز الذي يفترض ألا يتجاوز التعريف بالثقافة والتراث الإيراني.
طهران توقف تمويل مشروعات تنموية بالسودان
فور بداية توتر العلاقات بين البلدين، أوقفت الحكومة الإيرانية تنفيذ مشروعات تنموية كبرى في السودان، بعد تعهدها في وقتٍ سابقٍ بالعمل على تشييدها وإبرامها لعقودات خاصة بذلك.
حيث اعترف، أحمد قاسم وزير البنى التحتية السابق بحكومة ولاية الخرطوم بأن طهران أوقفت تنفيذ الجسر الرابط بين مدينة الخرطوم بحري وجزيرة توتي بجانب مشروع محطة مياه (أبوسِعد) بمحلية أم درمان.
مشيرًا إلى أن الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد وعد بقرضٍ ماليٍّ لإنشاء جسر يربط (جزيرة توتي) بالخرطوم بحري، بجانب تمويل مشروع مياه (أبو سعد) حيث بدأت إحدى الشركات الإيرانية العمل في مشروع الجسر، لكنها توقفت فجأة لعدم ضخ طهران الأموال المتفق عليها.
البشير يغازل إيران من روسيا
خلال زيارته إلى روسيا في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، أطلق الرئيس السوداني عمر البشير تصريحاتٍ مفاجئة احتفلت بها وسائل الإعلام الإيرانية، عندما قال لقناة روسيا اليوم: “الخيار الأفضل للتعايش بين العرب وإيران هو من خلال الحوار، وليس من خلال المواجهة، والعمل العسكري”، وأضاف أن “أي مواجهة عسكرية إيرانية عربية هي خسارة للمنطقة كلها”.
زيارة البشير إلى روسيا وتصريحاته هناك، اعتبرها مراقبون بداية تحول في سياسة السودان الخارجية، خصوصًا أن الحكومة السودانية اتخذت خطواتٍ أخرى تبعدها عن المحور السعودي فقد استقبل البشير نظيره التركي رجب طيب أردوغان في زيارته التاريخية التي أشعلت النيران ورفعت وتيرة الغضب في حلف السعودية ـ الإمارات ـ مصر، حيث هاجم إعلام الدول الثلاثة السودان بضراوةٍ فور هبوط طائرة أردوغان في الخرطوم.
كما استقبل البشير فيما بعد، وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن الذي وقّع مع نظيره السوداني إبراهيم غندور اتفاقًا لتشكيل لجنة للمشاورات السياسية بين الدوحة والخرطوم في رسالةٍ على ما يبدو للمحور الإماراتي ـ السعودي.
أسباب التحول في الموقف السوداني
منذ فترةٍ ليست بالقصيرة بدا أن الرئيس السوداني لم يعد راضيًا عن موقف السعودية والإمارات، إذ توقفت ـ فجأة ـ جولاته المكوكية بين الرياض وأبوظبي التي كانت تثير حفيظة نشطاء سودانيين رأوها تقليلًا من هيبة ومكانة السودان بالنظر إلى تجاهل قادة تلك الدول للخرطوم، فالبشير على سبيل المثال زار السعودية أكثر من 10 مرات خلال عامين فقط بينما شكّلت زيارة الملك خالد بن عبدالعزيز عام 1978 آخر زيارة لملك سعودي للسودان!
بالإضافة إلى تقاعس الرياض وأبوظبي عن دعم البشير في محنته الاقتصادية؛ حيث شهدت البلاد مظاهرات حاشدة مطلع العام الحاليّ احتجاجًا على رفع أسعار الخبز والعام الماضي شهدت البلاد دعواتٍ للاحتجاج والعصيان الماضي بسبب رفع أسعار الدواء والمنتجات النفطية، فكان البشير ينتظر نجدةً عاجلةً من حلفائه الجدد بعد التنازلات التي قدمها لهم ومشاركته بقواتٍ برية في حرب اليمن لكنهم لم يعيروه أدنى اهتمام.
فضلًا عن إقرار السعودية بمصرية مثلث “حلايب” المتنازع عليه بين الخرطوم والقاهرة، فقد خاطب وزير الخارجية السوداني نظيره السعودي لتوضيح الموقف، لكن الأخير تجاهل الرسالة السودانية ولم يرد عليها.
ونلفت إلى أن موقف الإمارات من حلايب يماثل الموقف السعودي، فأبوظبي موّلت مشروعاتٍ للطاقة الشمسية في حلايب ودعمت خطط السيسي هناك؛ ما يعد اعترافًا كاملًا بمصرية المثلث المتنازع عليه.
شواهد على قرب عودة العلاقات بين السودان وإيران
فعليًا، يبدو أن الحكومة السودانية شعرت بفداحة استعجالها في قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وأخذت تراجع الموقف بصورة جدية حرصًا على مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية.
يستدل على ذلك من تصريحات البشير المشار إليها أعلاه، ثم مراهنة الحزب الحاكم على الدعم التركي ومخرجات زيارة أردوغان فقد وقعت الخرطوم اتفاقية قرضٍ سلعي مع مجموعة تركية في الأيام الماضية.
السياسة الخارجية يجب أن تترك لأهل الحل والعقد وأن تكون بمنأى عن تصرفات الأفراد وأمزجتهم الشخصية مهما كانوا، فالدولة الناجحة تعطي المجال لمؤسساتها الراسخة لكي تُقيِّم مسار العلاقات مع دول العالم وتدرسها بشكل جيّد بما يحفظ مصالح البلاد والشعب
كما صمد الرئيس السوداني في وجه الضغوط السعودية والإماراتية التي كانت تصر على إلغاء اتفاق “سواكن” بين السودان وتركيا، ولعل عمر البشير يتذكّر جيدًا أن السعودية وجهت إليه إهانة بالغة، فقد منعته من عبور أجوائها في 2013 عندما كان في طريقه إلى إيران للمشاركة في تنصيب الرئيس حسن روحاني، مما اضطر قائد الطائرة الرئاسية للعودة إلى الخرطوم.
ويلاحظ أن حكومة السودان بدأت تكثف اتصالاتها مع الدوحة التي تحتفظ بعلاقاتٍ وثيقة مع طهران، كما تبادل الرئيس البشير وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد خطاباتٍ لم يُكشف عن مضمونها، لكنّ وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن أشاد بمتانة العلاقات مع السودان بشكلٍ عام.
وعليه، يمكن أن تعود العلاقات بين السودان وإيران تدريجيًا، فقد كشفت وسائل إعلام وصحف سودانية قبل 3 أشهر، وصول سفينة شحن إيرانية لميناء “سواكن” السوداني قبل 3 أشهر.
وقالت صحيفة “الانتباهة” عن مصادرها، إن السفينة جرفتها التيارات لداخل المياه الإقليمية السودانية، وأشارت إلى إلزام السلطات لطاقم السفينة الإيرانية بالخروج منها لسحبها لإنقاذها، لافتة إلى أن الطاقم القائد للسفينة يتكون من 6 إيرانيين
ليس في السياسة شيء بعيد، فربما استأنفت السلطات السودانية فعليًا اتصالاتها مع الجانب الإيراني لبحث عودة العلاقات الدبلوماسية .
وقد يقتصر الأمر في الفترة الأولى على فتح السفارات والممثليات القنصلية في البلدين دون عودة السفراء، فالخرطوم ستعمل على إبقاء “شعرة معاوية” مع الرياض والسعودية بعد الورطة التي أدخلت نفسها فيها عندما استعجلت بقطع العلاقات مع إيران بلا دراسة لكل الأبعاد والتأثيرات.
السياسة الخارجية يجب أن تترك لأهل الحل والعقد وتكون بمنأى عن تصرفات الأفراد وأمزجتهم الشخصية مهما كانوا، فالدولة الناجحة تعطي المجال لمؤسساتها الراسخة لكي تُقيِّم مسار العلاقات مع دول العالم وتدرسها بشكل جيّد بما يحفظ مصالح البلاد والشعب.