ترجمة وتحرير: نون بوست
في الصباح، تحاول أشعة الشمس اختراق الضباب الذي يخيم على سهل البقاع لتصل إلى مخيم اللاجئين السوريين، حيث يقف المئات من اللاجئين في طوابير على طول الشوارع الرئيسية. وفي الأثناء، كان اللاجئون يحاولون الاحتماء من أشعة الشمس عبر أغطية بلاستيكية تابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وبين الحقول والشجيرات، توجد مخيمات مصنوعة من النايلون.
على بعد بعض الكيلومترات من هذا المكان، لازالت المعارك في الأراضي السورية قائمة، فيما تعيش الغوطة الشرقية تحت وطأة القصف. ولا يزال مشهد الحرب السورية راسخا في أذهان اللاجئين إلى درجة أن أصوات القصف لا تفارق آذانهم. وفي حين ترزح سوريا تحت وطأة حرب حامية الوطيس، يعيش اللاجئون القاطنون في منطقة بر الياس في مأمن من العنف. ومع ذلك، يشعر هؤلاء اللاجئون بالقلق حيال مستقبل أطفالهم.
في مخيم مدين الصغير في مدينة بر الياس، تعيش تسع عائلات في ثمانية خيام، التي تغمرها المياه عند هطول الأمطار، ويصعب تدفئتها خلال فصل الشتاء. أما في فصل الصيف، تصبح درجات الحرارة مرتفعة للغاية بشكل لا يطاق. في هذا السياق، أفادت إحدى اللاجئات، التي تدعى أمينة ملحم، بأن “الطقس يتحسن بشكل بطيء. وخلال الأسابيع الماضية، أصيب كل المقيمين في المخيم بتوعكات صحية”.
كانت ملحم تجلس رفقة طفليها أمام مدفأة تتوسط الخيمة، التي تعتبرها العائلة غرفة نوم وغرفة معيشة في آن واحد. وفي الخارج، كان الأطفال يركضون على أرضية موحلة، بنعالهم البلاستيكية في درجات حرارة في حدود 12 درجة.
أمينة ملحم وعائلتها- يعيشون في مدينة بر الياس اللبنانية منذ سنة 2012
فرت عائلة الأحمد من مدينة حمص
كان أغلب متساكني هذا المخيم أطفالا تتراوح أعمارهم بين سنتين و17 سنة. ومن بين هؤلاء الأطفال، نذكر خالد الأحمد أحد أبناء أمينة ملحم، البالغ من العمر 15 سنة، الذي قال “لازلت أتذكر مسقط رأسي في مدينة القصير في سوريا”. وأضاف هذا الفتى، الذي يبدو أكبر من عمره الحقيقي، “عندما قررنا الفرار من بلدنا، كنت طالبا في الصف الثالث”.
وتجدر الإشارة إلى أن مدينة القصير تقع في محافظة حمص، التي كانت في السابق معقلا للثوار قبل أن يشن عليها نظام الأسد وابلا من الغارات التي دمرت جزءا كبيرا منها. وفي سنة 2012، فر خالد رفقة أمه وأبيه بالإضافة إلى أشقائه وأبناء عمه إلى أحد المخيمات اللبنانية.
في سوريا، كانت عائلة الأحمد ميسورة، حيث كانت تملك مسكنا ودخلا محترما. أما في الوقت الراهن، تعيش هذه العائلة في خيمة يتقاسمها 11 فردا نظرا لأن مدين يربي أبناء أخيه المتوفي. من جهته، أورد خالد “منذ قدومي إلى هنا، فقدت جزءا من قدراتي على القراءة والكتابة”، مع العلم أنه يعرف القراءة والكتابة خلافا لإخوته وأبناء عمه.
خديجة أخت خالد، ولدت في لبنان
“مدرسة خيمة” للأطفال
لتعليم الأطفال القراءة والكتابة، بادر مدين الأحمد ببناء “مدرسة خيمة” تتسع لحوالي 70 طفلا قادمين من مختلف المخيمات. أما الدروس فيؤمنها أربعة مدرسين سوريين متطوعين. وعلى المستوى التنظيمي، لم يتم تقسيم الفصول حسب الأعمار، بل وفقا للمستوى التعليمي، حيث تلقن الدروس دون إجراء اختبارات.
بفضل الدعم المالي، الذي توفره بعض المنظمات الصغرى، تم بناء ثلاث قاعات تدريس وفضاء عمل بثكنة عسكرية مجاورة لهذه المدرسة. وفي البداية، كانت القاعات غير مجهزة بشكل جيد، حيث كان الأطفال يجلسون على الزرابي مكان الكراسي. كما كانت القاعة مجهزة بالأغطية البلاستيكية بدلا من النوافذ. أما اليوم، فقد أصبحت الجدران مطلية بالألوان الزاهية، في حين أصبح الأطفال يتابعون دروسهم على مقاعد. ومازالت المدرسة قادرة على استيعاب أكثر عدد من الأطفال اللاجئين.
في هذا اليوم، تعطلت الدروس في المدرسة بسبب هطول الأمطار. وقد أورد المدرس، موفق ملحم، أنه “على الرغم من أن الألوان الزاهية التي تزين الجدران، قد خلقت جوا من البهجة في المدرسة، إلا أن الحالة النفسية للأطفال تعكرت”. فهناك “الكثير من الأطفال الذين يعيشون دون هوية ولا يملكون جوازات سفر، فضلا عن أن بعضهم أميون. أما الآباء فيجب عليهم مزيد العمل ليبقى الأطفال بمفردهم”. وأضاف ملحم أن “المخيم يتميز بطابعه الخصوصي. وعموما، يجب علينا أن نكافح من أجل إنقاذ هذا الجيل من الضياع”.
يعمل بعض الأطفال في سن الثامنة في الحقول، وبين الفينة والأخرى، تروج بعض الأخبار إلى وقوع بعض الأطفال في مستنقع تهريب المخدرات
القلق بشأن المستقبل
يحاول خالد إخفاء همومه عن والديه. وحيال أحلامه قال هذا الطفل، “أريد أن أصبح مصمم غرافيك في المستقبل”. وأخرج خالد الحاسوب المحمول، الذي تحصل عليه بفضل التبرعات، ليشاهد بعض مقاطع الفيديو التعليمية على موقع اليوتيوب بهدف تعلم كيفية تحرير الصور.
بالإضافة إلى ذلك، فتح خالد بعض الصور الخاصة ومقاطع الفيديو على هاتفه الذكي القديم. ونظرا لأن المخيم يفتقر للتيار كهربائي وتغطية إنترنت جيدة، لم يتمكن هذا اللاجئ السوري من إحداث قناة خاصة على موقع اليوتيوب. وفي بعض الأحيان، يلعب هذا الطفل كرة القدم في مخيم مجاور يحتضن ملعبا غير معشب، حيث قال والابتسامة تعلو محياه لأول مرة في حوارنا معه، “أشجع نادي ريال مدريد”.
المنظر الخارجي لأحد قاعات التدريس بمدرسة المخيم
الأطفال ممنوعون من العمل
خلافا لبقية العائلات اللاجئة، تمنع عائلة الأحمد أبناءها من العمل. ففي هذا المخيم، يعمل بعض الأطفال في سن الثامنة في الحقول. وبين الفينة والأخرى، تروج بعض الأخبار إلى وقوع بعض الأطفال في مستنقع تهريب المخدرات.
في الحقيقة، لا تسمح كل العائلات لأطفالها بالذهاب إلى المدرسة. وحيال هذا الشأن، أكد أحد مؤسسي جمعية “بسمة وزيتونة“، علاء الزيبق، أن “الكثير من الآباء غير واعين بأن التعليم مفتاح المستقبل”. وتابع الزيبق أنه “على الرغم من أن التعليم مفتاح السلام، إلا أن الكثير من الأولياء يترددون في ترسيم أبنائهم في المدرسة تجنبا لدفع معاليم الترسيم المقدرة بنحو 50 دولارا”. والجدير بالذكر أن جمعية “بسمة وزيتونة” توفر ورشات عمل تعليمية للأطفال والأولياء على حد السواء.
تضم مدينة بر الياس قرابة 50 ألف مواطن لبناني و70 ألف لاجئ سوري
مستقبل سوريا
تساءل الزيبق، الذي فر من منطقة الغوطة الشرقية منذ خمس سنوات، “من سيعيد بناء سوريا في حال لم يكن الشباب متعلما؟”. وعقب هذا اللاجئ السوري، البالغ من العمر 31 سنة، “عندما غادرت مسقط رأسي، أنهيت دراستي. وفي حال عاد الأطفال إلى سوريا دون تعليم، سيكونون عرضة للتطرف الديني”.
في الواقع، أخذ السياسيون اللبنانيون أزمة اللاجئين والمسائل الأمنية بعين الاعتبار. وعلى هذا الأساس، أعرب هؤلاء الساسة عن خشيتهم من وقوع الأطفال الأميين ضحية استقطاب المتطرفين اللبنانيين. وفي الحقيقة، لا يقدر لبنان على إنقاذ الأطفال من مستنقع التطرف خاصة وأن اقتصاده يعاني من التدهور، علاوة على ضعف تغطية التيار الكهربائي وشح الموارد المائية.
وفقا لمعطيات صادرة عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يبحث حوالي 1.1 مليون سوري عن ملجأ آمن في لبنان، فيما خير مليونا مواطن البقاء في سوريا. وعلى الرغم من البنية التحتية المتردية، بذلت السلطات اللبنانية منذ بداية الحرب السورية جهودا من أجل إلحاق الأطفال السوريين بالمدارس. وفي سنة 1991، صادق لبنان على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل وتعهد بموجب ذلك بمنح الأطفال حق التعلم.
وضع اللاجئون السوريون المقيمون بمخيم مدين لافتة عليها عبارة “نحب الحياة”
حيال هذا الشأن، أفاد الزيبق بأن “المجتمعين السوري واللبناني يعيشان تحت ضغط كبير. وفي الوقت الراهن، تضم مدينة بر الياس قرابة 50 ألف مواطن لبناني و70 ألف لاجئ سوري. وعلى الرغم من أن المنطقة لا تزال تعاني من العديد من المشاكل، إلا أنها أفضل من بقية المناطق”. ولعل الأمر المثير للاستغراب أن بعض البلديات تفرض حظر تجول على اللاجئين السوريين بداية من السابعة مساء. ومن جهتها، قدرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” عدد الأطفال السوريين المطالبين بالالتحاق بمقاعد الدراسة بنحو 500 ألف طفل، والحال أن نصف هؤلاء الأطفال لم يلتحقوا بالمدارس قط.
يعمل موفق ملحم في مدرسة المخيم، علما وأنه كان في سوريا مدرسا.
مؤخرا، التحق خالد الأحمد بمدرسة لبنانية. ونظرا لأن المدرسة بعيدة عن المخيم لمسافة سبعة كيلومترات، يستقل هذا الطفل الحافلة للذهاب إلى المدرسة كل يوم، التي توفر فصولا مخصصة للسوريين في المساء. في هذا الصدد، أورد خالد “التحقت بفصل خاص بالسوريين تجنبا للمشاكل والخلافات مع بقية الطلاب اللبنانيين”. وعلى الرغم من أن خالد يشعر بالسعادة لتمكنه من مواصلة تعليمه، إلا أنه يقر بصعوبة متابعة دروس في اختصاص تصميم الغرافيك نظرا لأنه لا يملك المال الكافي.
العيش بكرامة
يعتبر خالد واحدا من بين الأطفال القادرين على مواصلة دراستهم في المخيم، وهذا يدل على أن والدته أمينة تفكر في مستقبل أبنائها. وفي هذا الصدد، قالت أمينة “أتحمل كل المصاعب من أجل أبنائي. وقد قبلت بالعيش في خيمة بعد أن كنا نملك بيتا في سوريا. وأرضى بالعيش في مكان غير آمن. في المقابل، أشعر بالقلق إزاء مستقبل أبنائي”. وأثناء حديثنا معها، كانت ملامح اليأس بادية على وجه هذه المرأة.
لا يرغب خالد وعائلته في الفرار من لبنان في اتجاه أوروبا نظرا لأنهم يرومون العيش في بلد قريب من وطنهم سوريا. ولعل هذا ما أكده المدرس موفق ملحم في قوله “لن نعتاد على العيش في خيمة، لكن ذلك أفضل من العيش تحت وطأة القصف. وفي الواقع، نحن لا نريد أن نكون عالة على أحد. ويجب على كل الأطراف إنهاء الحرب، التي بلغت عامها الثامن”.
المصدر: دويتشه فيله