ترجمة وتحرير: نون بوست
بالنسبة لمستخدم الإنترنت العادي، يدار موقع ويكيبيديا في الخلفية ونادرا ما يتم الالتجاء إليه، حيث تظل مقالاته التي يتجاوز عددها 44 مليونا طي النسيان حتى يقرر أحدهم نفض الغبار عنها والبحث عن عاصمة أذربيجان. ومع ذلك، وجد المحررون المتطوعون التابعون لويكيبيديا، بالإضافة إلى المنظمات غير الربحية التي تجعل عمل هذه المنظمة ممكنا، ومؤسسة ويكيميديا، أنفسهم داخل سيل من الأخبار، ومكلفين مرة أخرى بتقديم المستوى الأدنى من الحقيقة لمنصات عاجزة عن توفيرها لأنفسها.
يوم الثلاثاء الماضي، أعلنت المديرة التنفيذية لشركة يوتيوب، سوزان وجسيكي، في مؤتمر “جنوب الجنوب الغربي”، أن شركتها ستباشر بإضافة “إشارات للمعلومات” على مقاطع الفيديو التي تعنى بنظريات المؤامرة، تحتوي على روابط نصية تهدف إلى تزويد المستخدمين بمعلومات أكثر دقة حول المحتوى الذي يشاهدونه.
في هذا السياق، يندرج ويكيبيديا ضمن المواقع التي تنوي إدارة يوتيوب استعمالها. وفي تصريحاتها، قالت وجسيكي “سنقوم بإطلاق هذه الخدمة للمرة الأولى خلال أسبوعين، وهدفنا هو البدء بلائحة مؤامرات الاإترنت المدرجة في المواقع التي تتضمن الكثير من المحادثات النشطة على اليوتيوب”. وفي واقع الأمر، مثلت هذه الخطوة مفاجأة حتى بالنسبة لمنظمة ويكيميديا نفسها، حيث أعلن القائمون عليها في بيان لهم أنه “في هذه الحالة، لم تكن ويكيبيديا أو مؤسسة ويكيميديا جزءا من شراكة رسمية مع يوتيوب. ولم يتم إعلامنا مسبقا بهذا الإعلان”.
يوتيوب ليست أول شركة تكنولوجية، أو حتى أول منصة اجتماعية، تستعمل محتوى موسوعة ويكيبيديا لخدمة أهدافها الخاصة. في الحقيقة، تستعمل ألفابت، الشركة الأم لموقع يوتيوب، محتوى ويكيبيديا بصفة كبيرة في نتائج محرك البحث غوغل
في الواقع، ارتأت شركة يوتيوب التي تبلغ قيمتها السوقية مليارات الدولارات، والتي تتعرض لدفق من الأموال المتأتية عن الإعلانات، تفريغ مشكلتها التضليلية بصفة جزئية في موسوعة غير ربحية قائمة على العمل التطوعي، دون الرجوع إليها وإعلامها بهذا القرار. ولم يستجب يوتيوب على الفور لطلب الإدلاء بتعليق حول هذه الخطوة، لكن ما نعلمه هو أن هذه الخطوة أثارت احتجاجات من طرف وسائل الإعلام وبعض المحررين من ويكيبيديا.
بصفتها محررة منذ زمن طويل بين صفحات موسوعة ويكيبيديا، تساءلت أماندا ليفاندوفسكي، وهي مدرسة مساعدة في كلية الحقوق بجامعة نيويورك الأمريكية، عما إذا كان يوتيوب قد فكر بعمق في التأثير الذي سيخلفه الاعتماد على ويكيبيديا لمكافحة المعلومات المضللة في مقاطع الفيديو المعروضة على اليوتيوب، على ويكيبيديا ومجتمع المحررين.
لكن يوتيوب ليست أول شركة تكنولوجية، أو حتى أول منصة اجتماعية، تستعمل محتوى موسوعة ويكيبيديا لخدمة أهدافها الخاصة. في الحقيقة، تستعمل ألفابت، الشركة الأم لموقع يوتيوب، محتوى ويكيبيديا بصفة كبيرة في نتائج محرك البحث غوغل. وقد انضمت شركة فيسبوك لركب المستفيدين من ويكيبيديا، حيث يعمل عملاق شبكات التواصل الاجتماعي على تجربة اعتماد الموسوعة الرقمية لمحاربة مشكلة المعلومات المضللة الخاصة بها. لكن المسؤولين العاملين مع مارك زوكربيرغ قاموا بإطلاع منظمة ويكيميديا بنواياهم منذ البداية.
لا يخفى على أحد أن الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي يعتبرون الموسوعة الرقمية التي تشهد 20 ألف مقالة جديدة في الشهر، ملاذا لهم لتطبيق الخوارزميات أو تعليم المساعدات الرقمية الذكية. وفي هذا الصدد، أفادت ليفاندوفسكي بأن شركة جيغساو التابعة لألفابت تستعمل صفحات نقاش المقالات الخاصة بويكيبيديا بصفة جزئية لكي تدرب برمجيات الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر التي تهدف لمحاربة متصيدي الإنترنت.
إلى جانب أوجه القصور الحالية، تقتصر نصف المقالات التي تعنى بتحديد المناطق الجغرافية على محررين من خمس بلدان فقط
في شأن ذي صلة، صرحت المديرة التنفيذية لمؤسسة ويكيميديا، كاثرين ماهر، بأن “المحتوى الذي نقدمه يفرض المئات من خدمات الويب الدلالي والرسومات البيانية المعرفة. ويشمل ذلك تلك التي تحتفظ بها غوغل ويوتيوب وياهو. ويتم استخدام بيانات حركة المرور الخاصة بنا لتتبع فيروس الإنفلونزا، وتحليل التغيرات التي تطرأ على سوق الأوراق المالية، فضلا عن توقع الفيلم القادم الذي سيعتلي صدارة شباك التذاكر الأمريكي. وتستعمل منصة بيانات ويكيداتا المرتبطة بنا لتنظيم مجموعات البيانات انطلاقا من مكتبة الكونغرس ووصولا إلى متحف المتروبوليتان للفنون”.
من يكتب التاريخ
من الجيد الاعتراف بأن ويكيبيديا تبلي بلاء حسنا في المجمل، حيث أن الولوج إلى الموقع لا يكلف شيئا، ويمكن التعويل على المحتوى الذي يقدمه، فضلا عن كونه مصدرا كبيرا للمعلومات. لكن هذه الإيجابية لا تنفي السلبيات التي تشوب هذه الموسوعة الرقمية العملاقة، نظرا لكون العنصر النسائي يمثل 16 بالمائة فقط من إجمالي المحررين، وفقا لدراسة أجريت سنة 2013.
إلى جانب أوجه القصور الحالية، تقتصر نصف المقالات التي تعنى بتحديد المناطق الجغرافية على محررين من خمس بلدان فقط، وهي المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وذلك بالرجوع إلى دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد سنة 2015. وقد هذه أوردت الدراسة أن مجموع التعديلات التي أجريت من هولندا تتجاوز التعديلات التي أجرتها البلدان الإفريقية مجتمعة.
عموما، تؤدي هذه التباينات إلى عواقب ملموسة على مستوى نوع المحتوى الذي ينتهي به المطاف بين صفحات موسوعة ويكيبيديا الرقمية، وعلى طريقة كتابة هذا المحتوى. وفي حين تقدم ويكيبيديا نفسها كمصدر للحقائق، فإن هذه المقالات قادرة على امتلاك منعطفاتها الخاصة بها.
تمثل الجهود المبذولة لتنويع قاعدة المساهمين في ويكيبيديا تحديًا في حد ذاتها، خاصة عندما تستخدم الشركات محتواها
في هذا السياق، صرح سورين آدم ماتي، أستاذ في جامعة بيردو ومؤلف كتاب “التفرقة الهيكلية على مواقع التواصل الاجتماعي” الذي ناقش من خلاله 10 سنوات من سجلات تحرير ويكيبيديا، بأنه “بالنسبة لمواضيع سياسية معينة، هناك انحياز يساري مركزي، فضلا عن وجود تحيز عندما يتعلق الأمر بالمزيد من المواضيع السياسية، وانحياز مقاوم للقيم الثقافية الموروثة. ولا يشمل ذلك جميع المجالات، أو جميع الأمور”.
في الواقع، تجرى غالبية التعديلات على ويكيبيديا بواسطة شريحة صغيرة من المتطوعين. وبالرجوع إلى كتاب ماتي، يتبين أن واحد بالمائة من المحررين يتكفلون بمفردهم بكتابة 77 بالمائة من المحتوى العام لموقع ويكيبيديا. والجدير بالذكر أن الأستاذ في جامعة بيردو استعان ببريان بريت، الأستاذ المساعد في الصحافة بجامعة ولاية ساوث داكوتا، لكتابة مؤلفته.
في سياق متصل، قالت ماهر “لقد كان تنوع وتمثيل مجتمع المحررين مجالًا من مجالات التركيز الحاسمة لحركتنا على مدى السنوات العديدة الماضية. ولكي تكون حقًا مصدرًا مجانيًا للمعرفة ومتاحا للجميع، يجب أن تعكس ويكيبيديا التجربة الحياتية للعالم، بما يتجاوز النوع واللغة والجغرافيا أو أي شيء آخر. ونحن نلتزم في مؤسستنا بدعم التنوع في مجتمع المحررين في ويكيميديا، ودعم جهود أولئك الذين يعملون لجعل ويكيبيديا أكثر تمثيلاً”.
مع ذلك، تمثل الجهود المبذولة لتنويع قاعدة المساهمين في ويكيبيديا تحديًا في حد ذاتها، خاصة عندما تستخدم الشركات محتواها، ولكن في المقابل لا تستثمر في مستقبلها، أو عندما يختارون أن يعاملوها على أنها “مورد متجدد بلا نهاية بعمالة مجانية”، على حد قول المحررة الأقدم في ويكيبيديا وأمينة المكتبة، فويب آيرز. وفي هذا السياق، أكدت غوغل لمجلة نيويورك بأنها لا تقدم أي مساهمة مالية لمؤسسة ويكيميديا.
من أبرز نقاط قوة ويكيبيديا، إتاحتها لأي شخص إمكانية المساهمة في تعديل محتواها، وهي ميزة لطالما كانت محل الانتقادات
مما لا شك فيه، إن الحط من قيمة محتوى ويكيبيديا له تداعيات جانبية في أجزاء أخرى من شبكة الإنترنت. وذلك يتجلى عندما تبحث في عدد من وسائل الأخبار في غوغل، حيث يتم تقديم العديد من الصحف الأمريكية اليومية في المناطق الحضرية الكبرى، مثل شيكاغو تريبيون ونيويورك ديلي نيوز، على أنها “تحالفات سياسية”. وتصف نتائج البحث الأول بأنه محافظ، والأخير بالوسطية.
لكن إذا كنت تبحث عن صحف متحيزة بشكل صريح، على غرار بريت بارت، فلن يظهر لك في نتائج البحث أي ميول سياسية، لأن محرري ويكيبيديا لم يضيفوا أحدها في تقارير الموسوعة. ويعزى ذلك لأن المعلومات التي تعيش على غوغل، مستقلة عن مصدرها، لذلك من غير الواضح سبب ظهور المعلومات من عدمه في نتائج البحث.
بالطبع، يمكن لأي شخص إضافة علامة المواءمة السياسية لتقرير بريت بارت في ويكيبيديا إذا أراد ذلك. ومن أبرز نقاط قوة ويكيبيديا، إتاحتها لأي شخص إمكانية المساهمة في تعديل محتواها، وهي ميزة لطالما كانت محل الانتقادات. ولقد تم تسليط الضوء على أشخاص نافذين يغيرون في محتوى الموسوعة لتتناسب مع مصلحتهم الخاصة، أو لتحريف التاريخ أو تبرئة أنفسهم من جرائم الماضي.
على سبيل المثال، كشفت التحقيقات التي أجرتها صحيفة بوليتيكو سنة 2015، أن شخصًا ما، كان يتمتع بحق الوصول إلى أجهزة كمبيوتر قسم شرطة في مدينة نيويورك، قام بتعديل صفحات ويكيبيديا التي تعرض تفاصيل عن وحشية الشرطة المزعومة. ولقد حاول حذف تقارير كاملة في ويكيبيديا تتحدث عن الضحايا المعروفين، بمن فيهم إريك غارنر.
في الحقيقة، لا تعتبر فضيحة شرطة نيويورك مع محاولة استغلال ويكيبيديا الأولى من نوعها، فقد هناك تحديثات يومية مجهولة ينشرها روبوت على تويتر يتم إجراؤها على موقع ويكيبيديا من عناوين “آي بي” مرتبطة بالكونغرس، على الرغم من أن ليست كل التعديلات التي سجلت لها آثار أو أهداف سياسية. كما عانت ويكيبيديا من كيفية التعامل مع الأشخاص الذين يتقاضون أجوراً لتحرير مقالات تتلائم مع المتبرعين.
في دراسة أجريت سنة 2016 من قبل ثلاثة باحثين في ستانفورد، تبين أن معظم الخدع على ويكيبيديا يتم اكتشافها والتعامل معها بسرعة
في المقابل، لم تدّع ويكيبيديا أبداً أنها مثالية، وهي ليست كذلك. لكن عمالقة التكنولوجيا مازالوا يستخدمونها كقوة لا يمكن تجاوزها، في محاولة منهم لإخفاء فشلهم في التشبث بالوسطية.
بوابة المؤامرات
أعرب بعض المحررين في ويكيبيديا عن قلقهم من أن ميزة يوتيوب الجديدة ستجعل وظائفهم أكثر صعوبة، من خلال إرسال فيض من نظريات المؤامرة إلى الموقع لأشخاص متحمسين لتعديل الصفحات لتشكيل رؤيتهم للعالم. وحتى الآن، تتمتع ويكيبيديا بسجل حافل بمحاربة الأشخاص المهتمين بنشر المعلومات المضللة.
في دراسة أجريت سنة 2016 من قبل ثلاثة باحثين في ستانفورد، تبين أن معظم الخدع على ويكيبيديا يتم اكتشافها والتعامل معها بسرعة. في الأثناء، يمكن لأي شخص المساهمة في ويكيبيديا، علما بأن هذه العملية بيروقراطية إلى حد ما، ولن يكون باستطاعتك القيام بها بسهولة بعد مشاهدة فيديو يتحدث عن إحدى نظريات المؤامرة على يوتيوب. وفي في الماضي، واجهت ويكيبيديا صعوبات في توظيف محررين جدد بسبب الضمانات المرهقة التي وضعتها من أجل منع التعديلات ذات الجودة المنخفضة من الوصول إلى التقارير.
إذا حاول جيش من أصحاب نظرية الأرض المسطحة التسلل إلى ويكيبيديا، فإن كل ما سينشئونه هو عمل إضافي لمحرري الموقع، الذين لا يتلقون تعويضا على عملهم الإضافي. ومن المحتمل أن يتسببوا في مضايقة محرري التقارير الذين يفضحون نظريات المؤامرة، وهي مشكلة عالجها الموقع أثناء نشوب الجدل القائم حول “غايم غايت”.
ربما الأسوأ من التخريب، هو القلق من أن تصبح روابط ويكيبيديا المعروضة على اليوتيوب أو على أي منصة أخرى، رمزا وليس مصدرا لمزيد من المعلومات. فمن المحتمل أن لا يقرأ المستخدمون تقارير الموسوعة، ولكنهم سيفسرونها كتلميحات. كما سيُنظر إلى مقاطع الفيديو المعروضة من دون صفحات ويكيبيديا أو غيرها من المعلومات الإضافية تلقائيًا، على أنها أكثر شرعية من غيرها.
في هذا الصدد، قال ماتي “عندما يرى الناس المحتوى فهم لا يفكرون فيه، لأنهم لا يريدون أن يفكروا، بل يريدون رؤية الاتفاقات والإشارات المشفرة التي تساعدهم على اتخاذ قرارات سريعة. أو بالأحرى هم يريدون فقط إشارة تفيد بأن هذا زيف وكذب”.
إلى جانب ذلك، إن شركات التكنولوجيا التي تستخدم ويكيبيديا من أجل محاربة التضليل تشكل خطرا أكبر على الموسوعة الحرة. فاستخدام الموسوعة المتعطشة للجمهور كدرع، سيجعل تلك المنصات تتخلى عن مسؤوليتها حول المحتوى الذي تعرضه.
المصدر: وايرد