ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد فجر يوم 22 شباط/فبراير 2006 بوقت قصير؛ هزّت الانفجارات ضريح العسكري في سامراء بالعراق، وهو أحد أقدس المواقع الإسلامية الشيعية، وكان تنظيم القاعدة هو الجاني، وبدا أن الهجوم يهدف إلى إشعال فتيل العنف الطائفي في وقت كانت البلاد تعاني فيه حالة من الانفلات الأمني الخطير، وبدأت الأعمال الانتقامية المناهضة للسنة في أعقاب التفجيرات مباشرة في بغداد، وأصبح الوضع يزداد خطورة مع مرور الوقت، وبينما كانت الجماعات المدعومة من إيران تطالب بضرب الأهداف السنية وبدء حرب أوسع نطاقًا؛ وقف آية الله العظمى علي السيستاني – زعيم المسلمين الشيعة العراقيين، وأحد أكثر رجال الدين نفوذاً في العالم – في وجه هذه الجماعات.
واجتمعت الحشود خارج منزل السيستاني في النجف، المدينة الشيعية المقدسة، مطالبين إياه بمباركة قتالهم ضد المتطرفين السنة، لكن السيستاني رفض ذلك وأصدر بيانًا تلاه ممثله على الحشود من مرقد الإمام علي القريب، وندد في البيان بالهجمات ودعا إلى التظاهر السلمي، لكنه حذر المؤمنين من الانجرار إلى الفتنة الطائفية، إلا أن ذلك لم يهدئ من الغضب الشعبي؛ فقد خرجت مظاهرات في جميع أنحاء العراق تدعو إلى رد قوي على تدنيس المقدسات الذي ارتكبه تنظيم القاعدة.
سافر زعماء العشائر من عدة محافظات إلى النجف صباح يوم الهجوم ومعهم مئات المسلحين، سعيًا لمقابلة السيستاني للدفاع عن العتبات المقدسة، واستقبلهم السيستاني احترامًا لدعمهم السابق له خلال مواجهته مع بول بريمر وسلطة التحالف المؤقتة بشأن الدستور العراقي والانتخابات، وسأل شيوخ العشائر عن سبب رغبتهم في إرسال ذويهم في سامراء ومواقع أخرى، فأجابوا بأن ذلك كان للدفاع عن النفس ولمنع المزيد من الهجمات ضد المجتمعات الشيعية، وكان رد السيستاني توجيهيًا فيما يتعلق بموقفه من الدولة، وهو الموقف الذي حافظ عليه بعد سنوات عديدة خلال صعود تنظيم الدولة في سنة 2014. فقد قال “إذا كنتم تريدون الأمن وحماية شعبكم، فعليكم أن تطلبوا من أبنائكم الانضمام إلى قوات الأمن ومساعدة الحكومة في الحفاظ على سيادة القانون”.
وصلت المزيد من الوفود إلى منزل السيستاني على مدار اليوم لمناشدته من أجل استجابة أقوى، وكان من بين الوفود وفد من قادة شبه عسكريين يتبعون قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني آنذاك، والمسؤول عن السياسة الإيرانية في العراق، مُلحين بشكل خاص، وقد ناشد القادة السيستاني إصدار فتوى لتعبئة قوات الدفاع، مشيرين إلى أنهم يمتلكون الوسائل والدعم الكافي لنشر آلاف المسلحين في سامراء والمزارات الأخرى، ورفض السيستاني موضحًا أن هذا بالضبط ما أراده تنظيم القاعدة؛ صنعُ فخٍّ وإشعال صراع شامل بين الشيعة والسنة في العراق، لكن الوفد استمر في الضغط على السيستاني، ملمحًا إلى أنه قد يلجأ إلى كبار الزعماء الدينيين الآخرين في النجف أو حتى طلب فتوى من آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، لإعطاء الضوء الأخضر للتعبئة باسم الدين.
طلب السيستاني التحلي بالصبر، ولم يعطِ ردًّا فوريًّا على قضية بهذا الحجم، وطلب من المجموعة الانتظار حتى وقت لاحق من اليوم لاتخاذ قرار حاسم. ثم أوعز إلى ابنه محمد رضا بدعوة كبار آيات الله الثلاثة الآخرين في النجف لعقد اجتماع عاجل.
من الواضح أن تهديد الوفد المبطن بتجاوز السيستاني جعله يشعر بعدم الارتياح، خاصة وأن القادة أشاروا إلى أنهم على استعداد للتوجه إلى طهران لتجاوز السلطة الدينية في النجف؛ جلس السيستاني على سجاد بسيط في زاوية غرفة الاستقبال الخاصة به، وتشاور مع آيات الله الآخرين، فقد كانوا يدعمونه حتى الآن باعتباره الأول من بين أقرانه، وأكبر آية الله في العراق الذي يتحدث باسم شيعة العراق، وأراد أن يضمن أن يكون لهم موقف موحد في مثل هذه اللحظة الخطيرة.
وقد نجح النهج الدبلوماسي الذي اتبعه السيستاني، فقد أكد له آيات الله الآخرون دعمهم المستمر وأنه لن تصدر أي فتوى من أي نوع في هذا الشأن على الرغم من الالتماسات التي تلقاها كل منهم بالفعل، وبهذه الطريقة، ضمن السيستاني أن النجف موحدة وأنها – وليس طهران – ستوفر القيادة لشيعة العراق، وقد ساعد رفضه السماح بنشر الميليشيات – حتى في أحلك الظروف – على منع اندلاع حرب أهلية واسعة النطاق، وعزّز مكانة النجف في العراق الجديد.
ولم تكن هذه سوى واحدة من حالات كثيرة – في العقود القليلة الماضية – دفع فيها السيستاني، الذي اشتهر بحنكته، باتجاه استجابة براغماتية ومدروسة ومبدئية للأحداث الجارية، ويتناقض نهجه تناقضًا صارخًا مع رجال الدين الشيعة الأكثر نفوذًا في إيران: فبينما يؤمن رجال الدين في إيران بالحكم الديني المباشر ويدفعون في كثير من الأحيان إلى التدخلات القوية، دافع السيستاني عن سلطة الشعب والاستقرار طوال حقبة من التقلبات الملحوظة.
يقترب السيستاني الآن من الرابعة والتسعين من عمره، ويتساءل العراقيون والشيعة في كل مكان عما سيأتي بعده؛ هل سيهيمن نموذج الحكم الديني المباشر الذي تتبناه إيران على العالم الشيعي؟ أم هل سينجح السيستاني، الذي لا يوجد له خليفة واضح، في توريث فلسفته المؤيدة للديمقراطية لجيل جديد؟
إرث السيستاني
يُظهر كتابي الجديد حول سيرته السياسية: “رجل الله في العراق: حياة وزعامة آية الله العظمى علي السيستاني” (2023)، أن إرث السيستاني يتجاوز الأفكار ويمتد إلى شبكات ومؤسسات ذات قوة دائمة، وهذا الإرث يجعل من المرجح أن تستمر رؤيته، على الرغم من أن الصراع بين المفهومين الإيراني والعراقي للإسلام الشيعي قد يزداد احتدامًا في السنوات القادمة.
سلّطت حادثة سامراء الضوء على المنافسة بين المركزين الرئيسيين للسلطة الدينية الشيعية؛ حيث كان السيستاني يقود أحد القطبين وخامنئي القطب الآخر، وبعد مرور نحو عقدين من الزمن، لا يزال هذان القطبان في العراق وإيران متمايزين من حيث فلسفتهما السياسية، وإحدى السمات المميزة لتطلعات إيران في الشرق الأوسط هي سعيها للحصول على دعم المسلمين الشيعة، الذين طالما كانوا أقلية مضطهدة، ومنذ ثورة سنة 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية، عملت الدولة الإيرانية على إقامة علاقات مع بلدان المنطقة التي تضم أعدادًا كبيرة من الشيعة، على أمل أن تكون حامل لواء المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم، ورغم أن جاذبية إيران خفتت إلى حد ما بعد وفاة روح الله الخميني في سنة 1989، إلا أنها بقيت لنحو ثلاثة عقود تقريبًا الدولة الوحيدة في العالم التي يسيطر فيها المسلمون الشيعة على السلطة.
ومع ذلك؛ فإن طموحات إيران ومواردها لم تكن دون منازع، فقد كان الشيعة في جميع أنحاء العالم يتطلعون في الواقع إلى العراق؛ حيث كانت النجف، العاصمة الروحية للإسلام الشيعي، و”حوزتها العلمية” الإسلامية، التي هي مصدر القيادة الدينية، وهناك، حافظ كبار الفقهاء (المعروفون بلقب “المرجع”، أي “المرشد” أو “آية الله العظمى”) على شكل من أشكال السلطة التي تجنبت لقرون إضفاء الطابع الرسمي على دور الدين في السياسة، وهذا يتناقض مع النهج الحديث لطهران في السياسة، وهو نهج الدولة الثيوقراطية القائمة على النسخة الخمينية من “ولاية الفقيه”، وبقدر ما اشتهر تبنّي إيران لنموذج الحكم الإسلامي عبر رجال الدين، إلا أنه كان – ولا يزال – أقلية بين علماء الدين والفقهاء الشيعة عبر التاريخ.
يشغل السيستاني منصب المرجع الأعلى في النجف منذ سنة 1993، وهو منعزل ويعيش أسلوب حياة زاهد يشبه أسلوب حياة رجال الدين في العصور الوسطى، وقد عانى السيستاني من الإقامة الجبرية الفعلية في منزله في ظل نظام صدام حسين، وكان مقيدًا بشدة من ممارسة دوره كزعيم ديني للمسلمين الشيعة في العراق، لكن الإطاحة بصدام في سنة 2003 غيرت ظروف السيستاني بشكل كبير وأتاحت له فرصة توفير قيادة للشيعة في العراق وخارجه.
المنافسة بين حوزة النجف والنظام الإيراني
وبما أن السيستاني رفض منذ فترة طويلة أي دور رسمي لرجال الدين في الحكومة، فإن موقفه يتناقض مع موقف طهران، وما زالت المنافسة بين حوزة النجف والنظام الإيراني على قلوب وعقول المسلمين الشيعة مستمرة منذ أكثر من 20 سنة وحتى الآن، وغالبًا ما ظهرت هذه المنافسة في العراق؛ حيث حاولت إيران زيادة وجودها في النجف من خلال رعاية طلاب الحوزة العلمية، والاستثمار في مشاريع البناء في مدن الأضرحة وبناء شبكة من الجماعات المسلحة ذات الولاء السياسي والديني لخامنئي، لكن طهران لم تستطع تجاوز السيستاني، الذي أكسبه نهجه الهادئ في السياسة في العراق المعجبين ودفع الإيرانيين إلى التشكيك في نظامهم السياسي.
إن اختلاف نظرة السيستاني إلى ولاية الفقيه وخصومته مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعود في جزء منه إلى تفسير النظرية القانونية الإسلامية، ولكنه أيضًا نتيجة لنطاق وممارسات مؤسسة المرشد الأعلى في إيران، فالسيستاني لا يصر فقط على أن سياق العراق غير مناسب لحكومة إسلامية، بل إنه لا يريد أن تتعدى الحكومة الإسلامية الإيرانية على العراق أو أن تحاول تشجيع نظام مماثل على التطور، بل إن السيستاني وصف نفسه بأنه ضمانة ضد ظهور نظام ثيوقراطي على النمط الإيراني في العراق، وقال في سنة 2004: “طالما أنا على قيد الحياة، لن تتكرر التجربة الإيرانية في العراق”.
وفي حين أن السيستاني حريص على عدم انتقاد النظام الإيراني علنًا أو التعليق على الشؤون السياسية الإيرانية (على الرغم من أنه مواطن إيراني)، إلا أن رجال الدين في حوزة النجف واضحون للغاية في عدم تأييدهم للنموذج الإيراني، وهذا يسبب لطهران مشكلة خاصة لسببين رئيسيين: الأول هو أن هناك مرجعًا أكبر من خامنئي له أتباع أكثر ونفوذ دولي أكبر، ويمكنه الحد من سلطة خامنئي خارج إيران، والثاني هو أن السيستاني يستطيع التأثير على آراء المواطنين الإيرانيين، الذين يستطيعون الآن أن يروا بوضوح نموذجًا بديلًا لدور المرشد لأعلى في المجتمع الإسلامي، فهو مرشد وليس حاكمًا، ويبدو أنه أكثر نجاحًا وقبولًا لدى الشعب، وهذه النقطة الثانية هي أحد الأسباب التي تجعل للسيستاني الكثير من الأتباع داخل إيران، وتجعل من مدرسة النجف النموذج الأكثر جاذبية للكثير من المسلمين الشيعة في إيران وغيرها.
هذه الخصومة هي السبب وراء سعي إيران للتأثير على النجف ورؤية إمكانيات لتوسيع موقعها هناك بعد وفاة السيستاني، فقد احتفظ خامنئي بمكتب في النجف منذ سنة 2004، وأشرف ممثله الحالي في العراق، مجتبى الحسيني، على حملة لتجنيد المزيد من الطلاب في المدارس الموالية لإيران، ومنح رواتب أكبر بكثير للطلاب من حوزة النجف، وقبل بضع سنوات، حاولت إيران تعيين محمود الهاشمي الشاهرودي، الرئيس السابق للسلطة القضائية الإيرانية وأحد المقربين من خامنئي، مرجعًا في النجف معترفًا بسلطة خامنئي.
ومنذ سنة 2003، دعمت إيران العديد من الزعماء الدينيين والجماعات والحركات الدينية في العراق، الذين حاولوا بدورهم تقويض سلطة ونفوذ السيستاني، ويمتد هذا الدعم إلى الجماعات السياسية التي تتطلع إلى طهران بدلًا من النجف للحصول على التوجيه الديني والسياسي؛ حيث يفعل بعضهم ذلك ردًا على ما يرونه معاملة سلبية من السيستاني.
وفي الآونة الأخيرة؛ طلب كاظم الحائري، وهو مرجع عراقي مقيم في قم، من الشيعة الخضوع لسلطة خامنئي، هذه التحركات وغيرها الكثير هي محاولات تكتيكية لإعادة تأكيد سلطة المرشد الأعلى الإيراني في العراق وبلدان أخرى، كجزء من صلاحيات الولي الفقيه.
مع ذلك، حرص المسؤولون الإيرانيون أيضًا على الظهور علنًا باحترام تجاه السيستاني، بما في ذلك خامنئي نفسه (في عدة مناسبات)، ورؤساء الوزراء والوزراء، وكبار المسؤولين. ويشير إظهار الاحترام هذا إلى إدراكهم بأن سلطة ومكانة السيستاني تكاد تكون من المستحيل تحديها.
وفي أحد الأمثلة؛ اضطرت إيران لقبول أن نوري المالكي لن يكون قادرًا على البقاء كرئيس للوزراء عندما أجبره السيستاني على الخروج في سنة 2014. أما الفترة الإستراتيجية الأكثر أهمية لإيران فستكون بعد وفاة السيستاني، وفي تلك النقطة قد تكون طهران قادرة على زيادة نفوذها وربما تشكيل ظهور المرجع القادم.
غير أن السيستاني اتخذ بالفعل خطوات للحد من هذه المحاولات. أولاً، قام بزيادة أعداد الطلاب والمعلمين في حوزة النجف ورفع من مكانة الصفوف في المدارس هناك عن طريق الاستثمار في المرافق والرواتب وما إلى ذلك. ثانيًا، التحكم بالأضرحة والزيادة الضخمة في أنشطتها ومالياتها وقدراتها يجعل العراق أكثر من عاصمة طبيعية للشيعة في العالم. ثالثًا، قانون الوقف الشيعي العراقي يشير بشكل صريح إلى المرجع الأعلى في النجف، مما يلغي الإمكانية لفرض سلطة دينية من إيران. وقد ذكر القانون أن الأضرحة تقع تحت سيطرة النجف، مما يجعل من المستحيل على المرجع في إيران التحكم فيها، وبذلك يحد من دورهم المحتمل في العراق.
وعلى الرغم من كل هذا التنافس والاختلاف حول نطاق السلطة الدينية، لا يزال من السهل المبالغة في التنافس بين السيستاني وخامنئي، أو بين النجف وطهران. فهناك العديد من نقاط الاتفاق في الشؤون الدينية والسياسية وغيرها.
“ولاية الأمة”
إن العلاقة بين المراجع في العراق وإيران واسعة، وتشبك الشبكات بشكل كبير وتعتمد في الغالب على التعاون. على سبيل المثال؛ انظر إلى الزيارة الأخيرة لرئيس الحوزات في إيران إلى السيستاني. وقد أثنت إيران علنًا على قيادة السيستاني في العراق، مدركة أنه بدونه لكانت قوة الشيعة — وامتداداً لإمكانية النفوذ الإيراني — أضعف بكثير.
وبقدر ما يمكن أن يكون هناك تنافس؛ فإن النجف في وضع قوي. فقد صمد نموذج المدينة المقدسة للسلطة الدينية وقيادتها لأكثر من 1000 سنة من الاختبارات. ومن المرجح أن النجف ستواصل ازدهارها في السنوات القادمة. وفي المقابل؛ فإن نموذج الحكومة الإسلامية في إيران قد ربط سلطة المرجع بمصائر الدولة السياسية، وبالتالي من المرجح أن يواجه تحديات شديدة في المستقبل.
ويجب إجراء تمييز مهم بين ما يعتقد السيستاني أنه قابل للتطبيق ومناسب لسياق وظروف العراق بعد سنة 2003، ونظريته العامة حول الحوكمة. وهذا التمييز يعكس منهجية الفقهاء الشيعة: الذين يمارسون الكثير من الحرية الفكرية في تعليماتهم وأبحاثهم لكنهم أكثر تقييدًا في ممارساتهم.
يجب فهم آراء السيستاني حول العراق في سياق الظروف الحالية بدلاً من التعبير عن وجهة نظر أزلية أو عالمية. لدى السيستاني، كفقيه، أيديولوجية سياسية متجذرة في القانون الإسلامي، لكنها تصف نظرية عامة للحكم في مجتمع إسلامي بالكامل وليست قابلة للتطبيق في ظروف العراق الحالية. وعندما سئل عما إذا كانت الحكومة الإسلامية في العراق يجب أن تكون مبنية على ولاية الفقيه، كان رد السيستاني إنها ليست عملية، ولم يقل إنه لا يؤمن بها.
ولم يكشف السيستاني أبدًا عن أيديولوجيته السياسية، ومن الصعب استنتاجها من تعاليمه؛ حيث هناك معلومات محدودة حول آرائه. ومع ذلك؛ فإن آراءه السياسية حول العراق بعد سنة 2003 أوضح، وعلى الرغم من أنه لم يعبر صراحةً عن نهجه أو يقدم له تعريفًا؛ فمن الممكن تفسيره بشكل موجز استنادًا إلى تصريحاته العامة. ووفقًا لممثل السيستاني في بيروت؛ فإن “موقف السيستاني من السلطة يُفهم بشكل أفضل من خلال ممارساته، بدلاً من نظرياته القانونية.” ويرى بعض الفقهاء دور المرجعية في الشؤون السياسية يشبه دور الطبيب، التدخل في أوقات الأزمة، أو التصرف كأب روحي عندما يكون ضروريًا.
وخلال سنتي 2003 و2004، صرح السيستاني عدة مرات بأن شكل الحكم في العراق يجب أن يحدده الشعب العراقي. وهذه هي جوهر وجهة نظره: أن إرادة الشعب وسيادته هما مصدر الشرعية للنظام السياسي. ويؤمن السيستاني بأن دوره هو دعم الشعب في توضيح إرادتهم والمساعدة في خلق الظروف لتعبيرهم عنها.
ويُعد هذا الركن من سيادة الشعب في نظرية السيستاني السياسية للعراق هو ما أطلق عليه عدة كُتّاب “ولاية الأمة” (“سلطة الشعب” على النقيض من ولاية الفقيه) أو بدقة أكبر “إرادة الأمة”. وتؤكد هذه النظرة على حق وسلطة الشعب في اختيار نظام الحكم الذي يرونه مناسبًا لظروفهم، فعندما يتخذ الناس خياراتهم فإنه يضفي الشرعية على الدولة، ويجب الالتزام بنتائج تلك الخيارات. وبالنظر إلى تاريخ الاستبداد في العراق، كان من المنطقي أن الناس سيختارون نظامًا ديمقراطيًا. ونظرًا لأن الغالبية مسلمين؛ فمن الطبيعي أنهم يريدون دولة تحترم القيم والمبادئ الإسلامية. وهذا هو سبب دفع السيستاني لكتابة دستور بواسطة العراقيين المختارين من خلال الانتخابات، فقد كان واثقًا من النتيجة.
عندما سئل في آب/ أغسطس 2003 عن النظام السياسي الذي يراه ملائمًا للعراق، أجاب السيستاني: “نظام يتبنى مبدأ الشورى، والتعددية، واحترام حقوق جميع المواطنين”. والشورى المُشار إليها هنا وسيلة لاكتشاف إرادة الأغلبية، وهي جزء رئيسي من الديمقراطية التمثيلية. ويؤمن السيستاني بأن الانتخابات والديمقراطية البرلمانية من الطرق الأكثر ملاءمةً لحكم العراق.
تظهر تصريحات السيستاني ومواقفه العديدة في الفترة من سنة 2005 حتى سنة 2020 أنه يريد برلمانًا نشطًا يتم اختيار نوابه من خلال الانتخابات ويُنتج حكومة شاملة ولكن قويّة قادرة على فرض سيادة القانون. وقد حذّر مرارًا من الميل الاستبدادي ودعا البرلمان لأداء مسؤولياته من خلال سن التشريعات الصحيحة ومحاسبة السلطة التنفيذية، كما نصح العراقيين عدة مرات باختيار الممثلين الأنسب في البرلمان بناءً على قدراتهم ونزاهتهم. وينبع نهج السيستاني من ما وصفه عالم الاجتماع السياسي لاري دايموند بأنه “إيمان صادق بالشرعية السياسية للعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكومين”.
إيمان السيستاني بإرادة الأمة يعطي الناس الحرية في اتخاذ خياراتهم الخاصة، وكذلك تحمّل المسؤولية عن تلك الخيارات. تُبنى إرادة الشعب على الدستورية والتعبير الحرّ عن إرادة الأغلبية من خلال الانتخابات. وبمجرد أن يتّفق الناس على دستور ويختاروا برلمانًا يشرّع ويكوّن حكومة، يجب على الناس اتباع العملية أو تغييرها كما يرونه مناسبًا ضمن تلك الحدود. ولهذا السبب يرى السيستاني أن دوره ليس التدخل وإنما إرشاد الناس لاتخاذ خيارات مناسبة — أو، إذا اتخذوا قرارات سيئة، يجب عليهم تصحيح النتائج بأنفسهم. وتكون نظرة السيستاني هذه واضحة في تصريحاته عندما يُساند حق التظاهر ويدعو النخبة السياسية للاستماع إلى مطالب الشعب.
من المثير للاهتمام أن السيستاني لم يستخدم أبدًا مصطلحات “الديمقراطية” و”العلمانية” أو “الدولة المدنية” نظرًا لأنها لا تتوافق مع لغة الفقه الشيعي وتعاليمه على الرغم من أن الديمقراطية والحقوق المدنية مذكورة بوضوح في الدستور الذي أيّده السيستاني. كما ذُكر في أقسام سابقة، فإن السيستاني مع المساواة للعراقيين والحقوق المدنية وحماية وإدماج الأقليات العرقية والدينية.
ويعكس الدستور العراقي هذه الأفكار، لكنها ليست ممارسة فعالة، لهذا السبب وجّه السيستاني انتقاداته إلى النخبة السياسية. مع ذلك، لا تعني آراء السيستاني في هذه الأمور أنه ليبرالي ويدعم الحريات القصوى التي لا تتوافق مع القيم الإسلامية. ويمكن قول إن السيستاني يقترح سياسة مختلفة لا تتعلق بالديمقراطية الليبرالية والعلمانية، ولا الديمقراطية ما بعد الليبرالية وما بعد العلمانية – لكن لا يوجد دليل كاف للتكهن أكثر من ذلك.
أما بالنسبة لدور الإسلام، لا يدعو السيستاني إلى إرساء نظام سياسي إسلامي بل حكومة تحترم المبادئ والقيم الإسلامية، أي حكومة لا تنتهك الشريعة الإسلامية. وطالما لا يوجد انتهاك للإسلام فإن المرجع يحتاج فقط للإرشاد والنصح. ويمكن اعتبار هذا الموقف أيضًا من أشكال حق النقض على العملية السياسية، حيث يتدخل المرجع فقط إذا تم انتهاك القواعد الإسلامية.
ويعتمد هذا الشرط على واقع العراق، وهو بلد ذو أغلبية مسلمة، ولا يُعرف ما سيكون رأي السيستاني لو لم يكن العراق كذلك. قاوم السيستاني في عدة مواقف زيادة الأسلمة أو إدخال قوانين وممارسات الشريعة. فعلى سبيل المثال، تم حل المحاكم الشرعية التي أنشأها الصدريون في النجف في سنة 2004 من قِبل السيستاني بعد استعادته السيطرة على ضريح الإمام علي، وانتقد قانون الأحوال الشخصية الجعفري المقترح في سنتي 2014 و2017 باعتبار أنه “ينتهك حقوق جميع مكونات الشعب العراقي” لأنه سيعامل العراقيين الشيعة بشكل مختلف عن بقية العراقيين ويتعارض مع عدة قوانين واتفاقيات. كما عارض السيستاني هذا القانون بالرغم من أنه كان أكثر توافقًا مع الفقه الشيعي من قانون الأحوال الشخصية الحالي.
خلاصة القول، إن “إرادة الأمة” بالنسبة للسيستاني جزء من رؤية العراق كدولة مدنية ملزمة بدستور وقوانين تدعم الديمقراطية البرلمانية التمثيلية، ولكنها دولة تحترم أيضًا المبادئ والقيم الإسلامية، كما اختارها الشعب نفسه. وهي تروج لمبادئ وقيم ديمقراطية شريطة ألا تتعارض مع القيم الإسلامية ولا تدعو للعلمانية — أو للحكومة الإسلامية أو الثيوقراطية. ويرى السيستاني أن الشعب هو من يحدد خياراته بحرية، وهو ملزم بها، وليس للمرجعية أن تسلب منه أي سلطة أو يتولى أي مسؤولية عن خياراته، أو أن يؤدي دورًا في الدولة.
تأثير السيستاني
كما أوضحت في كتابي، فإن تأثير السيستاني على العراق لم يحظ بالتقدير الكافي، وجهوده لمنع انهيار العراق تمامًا تستحق المزيد من الاعتراف، ناهيك عن أن عدة فصول مهمة في تاريخ العراق تحمل بصمات السيستاني، مثل معارضته للخطة الأمريكية لفرض حكومة ودستور على العراق، ودفعه نحو إجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن ليتمكن العراقيون من تحديد مستقبلهم بأنفسهم، ورفضه للعقوبات الانتقامية مع تصاعد الحرب الطائفية في سنة 2006، وفتواه لدعوة المتطوعين للقتال ضد تنظيم الدولة في 2014، ودعواته لإزالة رؤساء الوزراء الذين فقدوا ثقة الشعب بسبب ضعفهم وفساد حكوماتهم.
لقد أنشأ السيستاني نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه المرجع. وتشمل الميزات الستة الرئيسية لهذا النموذج: 1) تجنب المشاركة الرسمية في السياسة، 2) ضمان أن يكون لسيادة الشعب العراقي أهمية قصوى وأن يتم التعبير عن رغباته بحرية، 3) تقديم التوجيه للسياسيين دون التحالف مع أي منهم، 4) الحفاظ على قوة وهيبة المرجعية من خلال السيطرة على العتبات والحوزات العلمية وعدم التدخل في كل قضية عامة، 5) أن يكون قائدًا لجميع العراقيين ويحفظ جميع مصالحهم بغض النظر عن الدين أو العرق، و6) عدم التدخل في السياسة إلا عندما تكون “بنية المجتمع” مهددة أو لمعالجة أخطر القضايا التي تواجهها الدولة.
بالنسبة للمجتمعات الإسلامية الشيعية، يعتبر السيستاني مصدر فخر. فهو يجدد إيمانهم بالقيادة الدينية ويظهر أنه من الممكن الاحتفاظ بالهويات الدينية والعرقية والقومية وغيرها في العالم الحديث في وقت واحد. وفي العراق، سمح دفاعه عن الديمقراطية الدستورية والتدخلات السياسية الحيوية بإنشاء دولة، رغم دفعه باتجاه إصلاحات تقدمية. وبالنسبة للعراقيين، قدّم السيستاني القيادة الأخلاقية خلال الأوقات الصعبة، وعلى حد تعبير الكاتب حسن عباس فقد “ساعد العراق على التغلب على صدمة عهد صدام حسين ومن ثم النجاة من وحشية الجهاديين بعد سنة 2003 ورعب حكم تنظيم الدولة”. ما يمكن تسميته بالنموذج السيستاني يوضّح كيف ينبغي للمرجع أن ينفّذ التزاماته في دولة قوميّة متنوعة وبطريقة تعزز احترام الحريات والمساواة والحقوق والسيادة.
كل من التقى بالسيستاني شخصيًا وتحدث معه، انبهر بعلمِه وبصيرته وحكمته وأعجِب بحسن أخلاقه والحفاوة والترحيب. لقد تحمّل الكثير لحماية نزاهته، لهذا السبب يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه “مبجّل وصادق وقوي”، وذلك على حد تعبير صحيفة “نيويورك تايمز”. ويعتقد أولئك الذين قيّموا دوره أنه لعب دورًا محوريًا في منع العراق من الانغماس التام في الفوضى الشاملة أو الحرب الأهلية. ودفعت تدخلاته في العراق معلقين بارزين إلى المطالبة بحصوله على جائزة نوبل للسلام.
وعلى الرغم من أن السيستاني يحاول جاهدا الحد من نفوذ الولايات المتحدة وإيران في العراق، إلا أنهما سعيدتان بوجوده هناك بفضل الاستقرار الذي يوفّره، لذلك تشعران بالقلق بشأن ما سيحدث بعد رحيله. عندما خضع السيستاني لعملية جراحية في كانون الثاني/ يناير 2020، أرسل كل من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف رسائل يتمنّون له فيها الشفاء.
انتقادات
ركزت الانتقادات الكبرى الموجهة للسيستاني منذ سنة 2003 على ثلاثة مواضيع، وهي دوره في السياسة في العراق، وهيمنته على المرجعية، وميله نحو العزلة. فيما يتعلق بدوره في السياسة، يعتقد بعض السياسيين العراقيين السنة والأكراد والعلمانيين أنه استخدم نفوذه بشكل غير عادل لتأمين التفوق الإسلامي الشيعي في الأوقات الحاسمة.
انتقدوا بشكل مختلف دعم السيستاني للائتلاف العراقي الموحد في سنة 2005، ومساندته للعديد من رؤساء الوزراء، والفتوى التي صدرت سنة 2014 التي أدت إلى إنشاء قوات الحشد الشعبي شبه العسكرية التي ترعاها الدولة، ودعمه العام لتعزيز الإسلام المحافظ في الدولة بما في ذلك عبر الدستور والتشريعات. ويرى الإصلاحيون والناشطون المدنيون أيضًا أن السيستاني هو حامي النظام السياسي الحالي وأنه كان ينبغي عليه بذل المزيد لدعم جهود الإصلاح، لا سيما ردًا على الاحتجاجات واسعة النطاق التي بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
يزعم منتقدو دور السيستاني السياسي أيضًا أنه ساعد في إنشاء النظام السياسي الحالي في العراق، إلا أنه لم يتمكن من إجباره على التكيّف. ومن هذا المنظور، فإنه يتحمّل بعض المسؤولية عن الوضع غير المستقر في البلاد. وفي النجف، بينما يحظى السيستاني باحترام ودعم على نطاق واسع، يتساءل بعض رجال الدين سرًا عما إذا كان منخرطًا أكثر من اللازم في السياسة، بينما يطرح آخرون سؤالاً معاكسًا حول ما إذا كان منخرطًا أو حاسمًا بما فيه الكفاية.
وحتى بعض كبار السياسيين الشيعة الذين استفادوا من دور السيستاني يعتقدون أنه يجب عليه إعادة التركيز على القضايا الدينية. وقد أخبرني اثنان من هؤلاء السياسيين، الذين شغلوا مناصب حكومية رئيسية لعدة سنوات، أن ما اعتبروه تكتيكات شعبوية للسيستاني، التي تم التعبير عنها من خلال خطب صلاة الجمعة، كانت تدخلاً غير مناسب في الشؤون السياسية.
أما النوع الثاني من الانتقادات، فيما يتعلق بهيمنة السيستاني على المرجعية، فيركّز بشكل خاص على سيطرته على الأضرحة. وقد أدت هذه السيطرة إلى تهميش المرجعية الأخرى، وجعلت السيستاني أقوى مرجع في عصره وربما على الإطلاق. وهذه القوة، إلى جانب حصة الأسد من الأتباع في العالم الشيعي، غير مسبوقة.
وسيادة السيستاني كمرجع قد وضعته لبعض الوقت على مستوى أعلى من أي شخصية سابقة من المرجع الأعلى بين أقرانه. ويعتبر البعض أن هذا قد خلق خللاً في التوازن في المرجعية وركز الكثير من السلطة في يد السيستاني وفي يد شبكته. عندما ناقشت موضوع الدعاة الشيعة المتطرفين مع أحد مراجع النجف سنة 2013، أخبرني أنه لا يمكنه فعل الكثير لأن كل شيء مشروط بفعل السيستاني، وأصبح الاعتماد عليه في كل قضية تقريبا هو القاعدة.
ويكمن الخوف في أن يؤدي تركيز السلطة والموارد إلى زعزعة استقرار المرجعية كمؤسسة، ما سيجعل عملية الانتقال أكثر صعوبة بعد وفاة السيستاني، حيث تتنافس العديد من المرجعيات على منصبه. وهناك أيضا قلق من أن سلطة السيستاني قد قلّصت مساحة النقد والمعارضة والآراء المختلفة والتقييم الموضوعي لأداء المرجعية.
يركز النوع الثالث من الانتقادات الموجهة للسيستاني على حقيقة أنه لم يكن شخصية عامة ولم يقدم نوع القيادة الدينية التي تقف أمام الجمهور كما فعل أسلافه. وكان التوقع العام هو أن يؤم السيستاني الصلوات شخصيا، ويعلّم فصولاً كبيرة من الطلاب، ويزور المجتمعات، ويلقي الخُطب في المناسبات المهمة، ويكون الوصول إليه أكثر سهولة بالنسبة للمسلمين الشيعة. وبدلاً من ذلك، قام السيستاني بتفويض هذه المهام، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه لا يحبذ الظهور والتحدث علنا، وكذلك حتى تبدو المرجعية أكثر مؤسسية.
ربما كان نهجه المنعزل مبررًا خلال نظام صدام، لكن بعض النقاد يشعرون أن الموقف الأكثر انفتاحا للمرجعيات العظيمة الأخرى هو ما نحتاجه في الوقت الحاضر. فغياب السيستاني العام عن الحياة الاجتماعية للحوزة، مثل المناسبات الدينية المهمة، والأحداث المهمة مثل جنازات المراجع ورجال الدين البارزين، يمكن أن يعطي الانطباع بأنه لا يهتم كثيرًا بهذه الأنواع من العلاقات. ولا يبذل السيستاني أي جهد لمعالجة هذه الانتقادات. لكن اللافت أن ابنه محمد رضا كان أكثر نشاطا اجتماعيا في السنوات القليلة الماضية.
قد لا يكون لهذا الانتقاد تأثير كبير على إرث السيستاني، لكن من المهم معرفة مثل هذه الآراء لإعطاء سياق مرجعيته وملاحظة أنه ليس كل العراقيين من أتباع السيستاني المتحمسين أو يؤيدون أفعاله. إذن، عندما يرحل السيستاني، هل سيكون هناك انتقال سلس أم أن الوضع سيكون أكثر تعقيدا؟
إن مكانة السيستاني عظيمة لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تصور بديل له. ومن الممكن أن تحاول الدولة الإيرانية انتزاع القيادة من النجف وتقديم خامنئي أو خليفته كزعيم للمسلمين الشيعة على مستوى العالم، بما في ذلك المسلمين الشيعة في العراق. ويكافح العراق حاليًا لمنع تأثير توتر العلاقات بين إيران والولايات المتحدة على حدوده.
ولم تتمكن بغداد من عزل العراق عن الحرب في غزة، وفشلت في منع الميليشيات من شن هجمات ضد القوات الأمريكية المتمركزة في العراق. وفي الوقت نفسه، من الواضح أن إيران تحاول تعزيز نفوذها الديني في العراق وإقناع العراقيين الشيعة بأن طهران وحدها القادرة على توفير القيادة الصحيحة في مثل هذه الأوقات المضطربة. وفي الوقت الحالي، يقف السيستاني في طريقهم، لكن طهران ستستمر في المحاولة.
مسألة ما إذا كان بإمكان المرجعية أن تنتقل إلى مدينة قم لا تزال موضع نقاش – فهي ستبقى في النجف، على الرغم من أنه بعد وفاة السيستاني، قد يكون هناك عدد أكبر من المرجعيات العليا في إيران مقارنة بالنجف. لقد كانت النجف تاريخيا مقرا للسلطة الدينية الشيعية لغالبية التاريخ، حتى عندما يتعلق الأمر بالشؤون في إيران، مثل الثورة الدستورية في العقد الأول من القرن العشرين. كما أن حوزة قم تفضل بشكل عام السلطة الدينية في النجف على ولاية الفقيه في الدولة الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك، حتى لو لم تظهر مرجعية عليا في النجف، فإن السلطة الدينية على شيعة العراق لا يمكن أن تنبع من إيران، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشؤون السياسية وإدارة الأضرحة والحوزة العلمية.
من ناحية أخرى، يبلغ خامنئي نفسه 85 سنة، ويشاع باستمرار أنه يعاني من مشاكل صحية. وربما يظل السيستاني على قيد الحياة بعد وفاة خامنئي، الأمر الذي سيجعل من الصعب على النظام الإيراني ممارسة نفوذ على النجف بعد وفاة السيستاني في نهاية المطاف. علاوة على ذلك، قد يمتد تأثير السيستاني الفريد إلى الجيل القادم من القيادة الدينية. ونهجه المتمثل في تركيز رجال الدين على واجباتهم الدينية بدلاً من أن يصبحوا أسيادا سياسيين، وزهده الشخصي في وقت انتشر فيه الفساد والاستبداد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، سوف يحظى باحترام دائم.
وكما يظهر كتاب “رجل الله في العراق”، من غير المرجح أن يتم استبدال السيستاني بشكل مناسب على الإطلاق. لكن إرثه، الذي وصفته بـ “النموذج السيستاني”، هو دليل مهم للغاية لأي مرجع مستقبلي في النجف، ويضمن أن يكون لخلفائه طريق واضح يمكن من خلاله تتبع دور الدين في السياسة. وفي حين أنه قد لا يناسب إيران أن تكون النسخة العراقية من الإسلام الشيعي أكثر بروزا من أي وقت مضى، تظل الحقيقة أن السيستاني ومن يأتي بعده، على الأرجح، سيحتفظون بالنجف كعاصمة للشيعة إلى جانب فلسفة السيستاني – بدلاً من التحول إلى طهران ونموذجها للحكم الديني المباشر.
المصدر: نيولاينز