يعيش 74% من سكان العالم في بلادٍ تفرض قيودًا صارمة على الحرية الدينية، إذ يعد التنوع العرقي من أكثر القضايا الاجتماعية تعقيدًا وإثارة للفتن والعنف في الدول، وفي هذا الشأن، استطاعت ماليزيا أن تقدم نموذجًا ناجحًا من التعايش بين الطوائف الدينية والعرقية التي تعيش في ولاياتها، لكن من جهة أخرى، لا تغيب التصادمات والاختلافات عن هذا الانسجام الذي سعت الحكومة لتحقيقه وتحويله من مبدأ اجتماعي إلى قانون من قوانينها الدستورية.
وضع الدستور الماليزي بواسطة خبراء في عام 1957، ويتضمن الدستور مادتين متناقضتين هما: المادة الثالثة التي تنص على أن الإسلام هو الديانة الرسمية للاتحاد الفيدرالي ولا تطبق الشريعة الإسلامية إلا على المسلمين، ومن ناحية أخرى تقر المادة الحادية عشر بالحرية الدينية لمواطنيها وتسمح لهم بالعيش وفقًا لمعتقداتهم وتعاليم دينهم الخاص؛ كمحاولة للاستجابة للنسيج الاجتماعي، لكن رأى البعض أن هذا الاختلاط بين الأبعاد الثقافية والدينية والمبادئ العلمانية قد يضيف بعض الضبابية على القانون الماليزي ويثير الجدل في العديد من القضايا.
الصراع الديني في ماليزيا
تضم ماليزيا ثلاثة أديان لثلاثة أعراق رئيسية وهم: المسلمون الملاويون بأغلبية 53% ويليهم الصينيون البوذيون بأكثر من 25% والهنود الهندوس 15% الذين تزداد لديهم نسب الهجرة واعتناق الإسلام، وأقليات عرقية أخرى مثل الكونفوشية والتاوية والمسيحية، وتعتبر الملاوية لغة السكان الأصليين واللغة الرسمية في البلاد، وتعني “أصحاب الأرض”.
شهدت ماليزيا أحداث دامية بين الملايو المسلمين والصينيين البوذيين عقب انفصال جزيرة سنغافورة عام 1969، فجاء الدستور الماليزي بمجموعة من المواد القانونية القائمة على مبدأ احترام الأعراق والديانات الأخرى لتحقيق العدالة الاجتماعية والوصول إلى التنمية القومية، وحد من الأسباب التي تعزز التفاوت الكبير في مستويات المعيشة واختلاف المقدرة الاقتصادية بين المجموعتين، والذي نجم عن التوزيع غير العادل للثروة، وتحكم الصينيون في قطاع الاقتصاد والتجارة، بينما انحصر الملايويون في دوامات الفقر والجهل، وللتخلص من هذه الأزمة أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في العاصمة ووضعت خطة للتخلص من هذه الاختلالات وجعلت فكرة التعايش مسار رئيسي لتقدم بلادها.
نتجت الصراعات الدامية عن التوزيع غير العادل للثروة، وتحكم الصينيون في قطاع الاقتصاد والتجارة، بينما انحصر الملايويون في دوامات الفقر والجهل
وجاءت هذه الخطة على شكل سياسات تنموية أطلقت عليها تسمية “السياسة الاقتصادية الجديدة” والتي بدأت تنفيذها منذ عام 1970 حتى 1990، وقامت على مبدأ المساواة لتحقيق التنمية لجميع أفراد المجتمع دون النظر إلى عرق أو ديانة، وهذا بالتواصل مع مشروعها الجديدة لعام 2020 والتي مازالت تعمل على تحقيق رؤيتها من خلال ارتكاز سياستها الثقافية على عدة محاور واضحة، منها: جعل الثقافة الوطنية في البلاد هي الثقافة المرتبط بإقليم جنوب آسيا، واقتباس مكونات الثقافات الأخرى لإثراء الثقافة القومية وتعزيزها بالاختلافات، والتأكيد على أهمية الوحدة الوطنية والهوية المتعددة التي تتميز بها الدولة الماليزية وتشكل مصدر قوة وتقدم.
جدل بشأن التحويل من ديانة إلى أخرى
سمحت المحكمة الماليزية للشخص حين بلوغه سن الرشد حق اختيار ديانته بغض النظر عن ديانة والديه، أما الأشخاص تحت سن الرشد فلا يمكنهم تغيير ديانتهم إلا بإذن رسمي من الوالدين، لكن انتشار هذه الحالات غيرت من هذه المعايير المحددة في الكثير من المناطق.
وشكلت قضية الردة عن الإسلام في الدولة التي يشكل المسلمون الغالبية العظمى من سكانها انقسامًا كبيرًا بين المجتمع الإسلامي الذي ينادى بمعاقبة المرتد، وغير الإسلامي المطالب بتطبيق معايير الحرية الدينية، إذ يكفل الدستور الماليزي حرية العقيدة لكن لا يمكن للمسلمين أن يرتدوا رسميًا عن الإسلام وقد تحكم المحكمة الإسلامية الشرعية بالسجن على الذين يتحولون لاعتناق ديانة أخرى.
ففي الأعوام الماضية، أثارت المحكمة العليا جدلاً واسعًا في البلاد بسبب موافقتها على طلب مسلم مرتد جاء إلى المحكمة من أجل توثيق اعتناقه للمسيحية واسمه الجديد في الوثائق الرسمية، وردت المحكمة على هذه الاحتجاجات بأن اختيار الديانة حق من حقوق الإنسان، خاصةً لو كان الشخص بالغًا وناضجًا، لكن المجتمع الإسلامي اعتبر أن هذا القرار تهميش لدور المحكمة الإسلامية الشرعية في البلاد، وعلى العكس من هذه الأجواء الغاضبة، لقي هذا القرار إشادة رابطة الكنائس، وهي الطائفة التي تشكل نحو 10% من مجموع سكان ماليزيا.
وجاء هذا القرار بعد قضية لينا جوي الشهيرة التي تحولت من الإسلام إلى المسيحية، وبقيت ست سنوات تحاول تغيير الديانة من سجلاتها الرسمية وبطاقة هويتها، بعد أن رفضت المحكمة العليا تغييرها؛ الأمر الذي جذب انتباه المجتمع غير الإسلامي في ماليزيا وجعله يتساءل عن الحق الدستوري الذي ينص على الحرية الدينية، وجعلهم يخشون من تآكل مفهوم التعايش الذي بنت عليه ماليزيا نهضتها، إذ اعتبروا أن الرفض كان عبارة عن ضربة قوية للأقليات الدينية الأخرى.
المحاكم المدنية لا تستطيع التدخل في الشؤون الإسلامية، فهذه القضايا من اختصاص المحاكم الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية، وتعمل عادة على إرسال المرتدين إلى مراكز استشارية في محاولة لإقناعهم بالتخلي عن قرارهم
فسرت السلطات المسؤولة هذا الرفض بأن المحاكم المدنية لا تستطيع التدخل في الشؤون الإسلامية، فهذه القضايا من اختصاص المحاكم الإسلامية التي تطبق الشريعة الإسلامية، وتعمل عادة على إرسال المرتدين إلى مراكز استشارية في محاولة لإقناعهم بالتخلي عن قرارهم، وفي حال إصرارهم على خطوة التعديل، فإنها تعاقبهم بالسجن أو الغرامة المالية.
وفي حادثة أخرى، أغضبت غير المسلمين، هي منع المحكمة العليا للأحوال المدنية امرأة هندوسية من إحراق جثة زوجها لأن المحكمة الشرعية اعتبرت أن الرجل المتوفي مسلمًا لذلك دفنه مسؤولون مسلمون ضد رغبة أرملته.
وتشير مصادر أن القانون الماليزي يربط بين العرق والدين، إذ لا يعتبر المرء ملايويًا إلا إذا كان مسلمًا، وإذا ارتد عن الإسلام لا يعتبر ملايويًا، كما أن الملاويين يتمتعون بمزايا اجتماعية واقتصادية عديدة لذلك يمتنع البعض عن تغيير ديانته بشكل رسمي في المحاكم خوفًا من خسارة هذه المنافع.
الخلاف بشأن كلمة “الله” في المنشورات المسيحية
أشارت المحكمة العليا في ماليزيا إلى قرار ينص على منع الكنائس ووسائل الإعلام المسيحية من استخدام لفظ “الله”، لأنها رأت أن هذا المصطلح ليس جزءًا من ممارسة الإيمان المسيحي، التصريح الذي أثار مشاعر من العنف الديني لدى الطائفة المسيحية وأوقع الدولة في فخ العنصرية والتمييز الديني.
الحرية الدينية وحرية المعتقد حق من حقوق الإنسان، وتحديد التقاليد الدينية لا تقع على عاتق الدولة كما لا يمكن للدولة تنصيب نفسها السلطة الملزمة في تفسير المصادر الدينية أو تعريف العقائد الإيمانية
إذ جاء تصريح مجموعة من المراقبين التابعين للأمم المتحدة أن على الحكومة الماليزية السماح باستخدام كلمة الله على صفحات المجلة الأسبوعية الكاثوليكية باسم حرية التعبير وعدم إثارة الفتنة بين الكنيسة الكاثوليكية والحكومة الماليزية، كما أشار هاينر بيليفيلدت مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالحرية الدينيّة إلى أن “الحرية الدينية وحرية المعتقد حق من حقوق الإنسان، وتحديد التقاليد الدينية لا تقع على عاتق الدولة كما لا يمكن للدولة تنصيب نفسها السلطة الملزمة في تفسير المصادر الدينية أو تعريف العقائد الإيمانية”.
وردًا على هذه الانتقادات الأمريكية، قال رئيس وزراء ماليزيا عبد الله بدوي: “ينبغي أن توفد الولايات المتحدة مراقبين للاطلاع على الوضع بصورة مباشرة لمشاهدة الماليزيين بمذاهبهم المختلفة وهم يؤدون الصلاة جنبًا إلى جنب والتيقن من أن ماليزيا تحتفي بأعياد دياناتها المختلفة”، وهذه بالفعل الصورة التي نجحت ماليزيا في إيصالها إلى العالم الخارجي.
هذه بعض القضايا التي أوقعت ماليزيا في نيران الاختلافات بين الأديان والأعراق، ونبهتها بإن الاستقرار مسؤولية ثقيلة مشتركة بين السلطات الدينية التي يكون من دورها معالجة القضايا والمشاكل التي تواجه المجتمعات الدينية المحلية والسلطات المدنية التي تراعي الفروقات الثقافية والاجتماعية لكل طائفة، فجعلت من نفسها بيئة خصبة للتعايش الاجتماعي ونجحت في تمثيل الإسلام على إنه أداة لتوليد مشاعر التفاهم وليس الإرهاب والنزاعات.