رغم محاولات نظام الأسد المكثفة للترويج بأن سوريا كوجهة سياحية آمنة ومستقرة، عبر استغلال جولات لـ”يوتيوبرية” أجانب وشركات سياحية، تظل الحقيقة مختلفة تمامًا، وهي التي تؤكدها تقارير حقوق الإنسان بعدم وجود منطقة آمنة في سوريا، إلى جانب اضطهاد نظام الأسد للمدنيين القاطنين في مناطقه.
خلال السنوات الماضية كرّس نظام الأسد اهتمامه بقطاع السياحة، عبر إطلاق مشاريع استثمارية واستقطاب مشاهير التواصل الاجتماعي، كما أن المتابع لعمل حكومة الأسد يرى أن وزير السياحة محمد رامي مرتيني يعتبر من أنشط الوزراء، من خلال جولاته على المنشآت السياحية وتصريحاته ودعواته المتكررة لزيارة سوريا.
لكن ما ينشره إعلام نظام الأسد ومدونون أجانب عبر قنواتهم في يوتيوب، بعودة الحياة الطبيعية وأن سوريا تعيش حالة أمان، يخالف ما يجري على الأرض كون صنّاع المحتوى يرافقهم مرشدون (دليل سياحي) تابعون للنظام لترويج ونشر الرواية التي يريدها، الأمر الذي يبرز التناقض الكبير بين الدعاية الرسمية والواقع المأساوي في البلاد.
خطوات النظام
منذ استعادة النظام السوري سيطرته على مناطق واسعة من البلاد، أطلق حملة ترويجية مكثّفة لجذب السياح، واعتمد استراتيجية تقوم على عدد من الخطوات، الأولى تقديم تسهيلات تشمل تخفيضات ضريبية وتسهيلات إدارية للمستثمرين، ودعم المشاريع السياحية الجديدة.
وأثار الاهتمام بقطاع السياحة على حساب القطاعات الأخرى استنكار خبراء اقتصاد، حيث قالت صحيفة “البعث” التابعة للنظام عام 2022 إن “متابعين وخبراء الاقتصاد استنكروا الضخ والتوسع في المشاريع السياحية في وقت تغلق فيه منشآت هامة، ويتعطل عمل أخرى بانتظار المحروقات والطاقة لتشغيلها”.
ونقلت الصحيفة عن الخبير الاقتصادي عامر شهدا، أن التركيز يجب أن يكون “لإيجاد حلول للوضع الاقتصادي والاجتماعي، أما السياحة فهي مجرد تفصيل. فرغم أهمية القطاع وتحقيقه موارد وفرص عمل، وانعكاساته الاقتصادية، لكن يوجد أولويات ومقومات لنجاح ملتقى السياحة، أهمها استقرار المواطن من خلال معالجة مشكلاته الاقتصادية”.
وأضاف أن “الاستقرار الاجتماعي يشجّع السياحة، أما تأمين مكان لإقامة أجنبي بغياب سكن للمهجر عن منزله، فهذا ضرب من الخيال ومجرد بروباغاندا”.
وكجزء من استراتيجيته الترويجية، قام النظام السوري بنشر تسجيلات فيديو عن السياحة في سوريا، سلطت الضوء على المواقع الأثرية والتاريخية والطبيعية التي تتمتع بها البلاد، محاولة منه لإبراز الجانب الإيجابي والجذاب لسوريا.
وفي إحدى الخطوات اللافتة التي قام بها النظام في حملته الترويجية هي استقدام مجموعة من المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، العرب والأجانب، حيث تمّت دعوتهم لزيارة سوريا، كما اعتمد على شركات سياحية تحت قبضته الأمنية للترويج للسياحة واستقطاب الأجانب والعرب السياح.
وأكد معاون وزير السياحة غياث الفراح في إحدى المقابلات عام 2023، أن “هؤلاء (اليوتوبرية) بحدّ ذاتهم أكبر ترويج للقطاع السياحي”.
في مقابلة مع السائح بنجامين أجراها معه الرحال سيمون ويلسون، قال إنه تلقى دعوة من شخص يُدعى أيوب عبر صفحته على انستغرام، يسأله عن رأيه في زيارة سوريا بغرض السياحة، حيث قال له: “هل ترغب في القيام بجولة في سوريا؟ أعتقد أنك ستستمتع بها”، أي أن سوريا لم تكن خيارًا لبنجامين لزيارتها، بل كانت اقتراحًا من طرف النظام السوري الذي جهّزه بكل لوازم الزيارة.
استراتيجية منظَّمة
ويلاحظ المتابع للتسجيلات التي نشرها هؤلاء المدونون على قنواتهم الخاصة، توجّههم نحو نفس المناطق والمسارات السياحية، حيث يبدأون بزيارة الأسواق الشعبية، وعرض حياة الناس اليومية وتصوير الأجواء الآمنة، مما يعطي انطباعًا بأن الحياة تسير بشكل طبيعي ولا يوجد ما يدعو إلى القلق، مع تكرار “تعالوا لقضاء عطلة الصيف القادمة في سوريا”.
بعد ذلك، ينتقل اليوتيوبرز إلى المناطق الأثرية والمناطق ذات الأغلبية المسيحية، حيث يقومون بتصوير المعالم التاريخية والدينية، مسلطين الضوء على الإرث الثقافي والتاريخي الغني لسوريا، كل ذلك وسط الترويج لدعاية النظام السوري التي تزعم أن الإرهاب هو من استهدف هذه المناطق.
المدون الإسباني جوان توريس كان أحد المدونين الذين زاروا سوريا، وهو صاحب موقع Against The Compass ينظم فيه رحلات سياحية إلى عدد من الدول بمبالغ كبيرة مقارنة بمتوسط المعيشة في سوريا، حيث بلغت أسعار بعض الرحلات 2390 يورو لمدة 13 يومًا فقط، خارج الدفعات التي تتضمن التأشيرة أو الموافقات الأمنية.
يذكر الموقع أن الحصول على التأشيرة أمر بسيط جدًّا، لكن هو أمر لا يمكنك القيام به بمفردك، لأن وزارة السياحة تفرض على جميع المسافرين الذين يرغبون بالحصول على التأشيرة السياحية في سوريا، حجز جولة سياحية مع إحدى الشركات السياحية.
وحسب الموقع، فإن “الشركات السياحية لن تصدر تأشيرة سياحية لسوريا لكن تصريحًا أمنيًا فقط، والذي ستحتاج إبرازه عند نقطة الجمارك، حيث يعتبره بمثابة دعوة للزيارة”.
يوضح الشاب في الموقع كل العقبات التي يجب على السائح معرفتها أثناء زيارته لسوريا، لكن رغم ترويجه لأمان سوريا إلا أنه يفضّل للقادمين الطريق البري عن الطريق الجوي، لأن مطار دمشق يخرج عن الخدمة (بسبب القصف الإسرائيلي المتكرر)، مشيرًا إلى أن احتمال إلغاء الرحلات الجوية مرتفع، من دون ذكر أي أسباب لإلغائها.
ويضيف: “بعد حصولك على ورقة التصريح الأمني يمكنك الحصول على التأشيرة السياحية من نقطة الحدود”، مشيرًا إلى أن “المشكلة هي عدم السماح لوكالات السفر بإصدار تصريح أمني إلا إذا قمت بحجز جولة معهم”.
وقال توريس لصحيفة “الغارديان” عام 2022، إنه “تمكن من السفر إلى سوريا بمفرده في المرة الأولى التي زارها في عام 2018، رغم أن الحكومة طلبت لاحقًا من السياح السفر مع مرشد”، مضيفًا: “لن أقول أي شيء سيّئ عن الحكومة، بالطبع، لأنني أخاطر بالاعتقال”.
وشارك توريس بعض الصور من الرحلات السياحية التي نظمها عبر موقعه إلى سوريا، ومنها صور لشبّان يعتلون دبابة حربية تعود للجيش السوري في مدينة تدمر على أنها أحد المعالم السياحية.
خلال عام 2023 زار سوريا أشخاص من جنسيات مختلفة بهدف السياحة، يزعم بعضهم أنها “سوريا التي لن تظهرها لك وسائل الإعلام”، كما يروج اليوتيوبر البريطاني بنجامين ريتش على قناته “Bald and Bankrupt”، حيث قال الشاب ومرشده أثناء مرورهما بالقرب من مدينة إدلب إنها منطقة يسيطر عليها “متطرفون إسلاميون”، دون ذكر أنها منطقة يعيش فيها ما يقارب 5 ملايين سوري.
كما زار اليوتيوبر التركي ميرت أوزتورك سوريا في أبريل/ نيسان 2024، وذكر في الفيديو أن سوريا مصنَّفة ضمن أخطر 10 بلدان في العالم، ومع ذلك زار أكثر من 5 مدن سورية واستمر بتشجيع السياحة إليها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشركات السياحية التي تنظّم الرحلات تطلب من القادمين عدم مغادرة المجموعة التي ينتمون إليها، حتى لا يتسبّبوا في مشاكل للسياح الآخرين. على هذه الخلفية تم اعتقال سائح ألماني لمدة أسبوع، بسبب انحرافه عن الفريق لتصوير أحد الأبنية المدمرة في ضواحي دمشق.
إحصائيات مبالغة
في محاولة لإظهار التعافي والازدهار في قطاع السياحة، قام النظام السوري بنشر إحصائيات تشير إلى ارتفاع عدد السياح الوافدين إلى مناطقه خلال الأشهر الماضية، وحسب هذه الإحصائيات الرسمية فإن عدد الزوار ارتفع بشكل ملحوظ.
ويستخدم النظام هذه الإحصائيات كأداة رئيسية في حملته الإعلامية لترويج صورة سوريا كوجهة سياحية آمنة ومستقرة، لكن العديد من المراقبين والمحللين يشكّكون في مصداقية هذه الإحصائيات، معتبرين أن الأرقام التي يقدمها النظام مبالغ فيها ولا تعكس الواقع الحقيقي على الأرض.
وحسب بيانات وزارة السياحة في حكومة الأسد من مطلع العام الجاري وبداية الشهر الحالي، بلغ عدد القادمين إلى سوريا أكثر من مليون شخص، بزيادة قدرها 5% عن الفترة نفسها من العام الماضي، منهم 894 ألفًا من العرب و108 آلاف من الأجانب.
وكشفت الإحصائيات أن عدد القادمين العراقيين كان لافتًا، حيث وصل 205 آلاف شخص بزيادة مقدارها 55% عن الفترة نفسها من عام 2023، بالإضافة إلى الجنسية اللبنانية تليها الأردنية والبحرينية، في حين “تصدّر القدوم من ألمانيا القدوم الأجنبي، يليه السويد والولايات المتحدة وروسيا، وبأرقام متقاربة إيران وباكستان وهولندا والهند وتركيا وكندا”.
في عام 2020 شكّك تقرير لصحيفة “ديلي بيست” عن إحصائيات نظام الأسد وأرقام السياح، حيث نقلت عن أحد منظمي الرحلات السياحية في دمشق قوله إن “أرقام الحكومة مبالغ فيها على الأرجح، حيث تحسب أي شخص يعبر الحدود، لأي سبب، على أنه سائح”.
ولا تقتصر السياحة في سوريا على الاستجمام أو زيارة الأماكن التاريخية فحسب، فقد نشطت السياحة دينية، خاصة من الطائفة الشيعية القادمة من العراق وإيران لزيارة مقام السيدة زينب والسيدة رقية سنويًا.
ويهدف النظام من خلال تحسين صورة سوريا كوجهة سياحية لاستقطاب الزوار والمستثمرين من مختلف أنحاء العالم لرفع الإيرادات السياحية، في ظل حاجة النظام الماسّة إلى رفد خزينته بالأموال، في محاولة لتعزيز الاقتصاد المتدهور.
وكان القطاع السياحي قبل عام 2011 من أكبر مصادر العملة الأجنبية للنظام، حيث قُدّرت وارداته في عام 2010 بنحو 8.21 مليار دولار، بما يعادل 13.7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وحسب مقابلة أجراها موقع “بيننا” مع سائحة إسبانية زارت سوريا عام 2022، قالت فيها: “نُظِّمت الرحلة من خلال مكتب للخدمات السياحية. لم يقبل المكتب الدفع إلا بالدولار (دفعت ماريا ما قيمته 1700 دولار)، واشترطوا عليّ الدفع نقدًا بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على نظام الأسد منذ اندلاع الأحداث في سوريا”.
سوريا ليست آمنة
في ظل الترويج المكثف الذي يقوم به النظام السوري لصورة البلاد كوجهة سياحية آمنة، تصاعدت دعوات بعض الدول في الاتحاد الأوروبي لترحيل اللاجئين السوريين إلى وطنهم، بناءً على الادّعاءات بتحسن الأوضاع الأمنية.
وأكّد مسؤول السياسية الخارجية في الاتحاد جوزيب بوريل، خلال مؤتمر بروكسل في مايو/ أيار الماضي، أن ظروف عودة اللاجئين الطوعية والآمنة إلى وطنهم ليس مهيَّأة، كما انتقدت منظمة هيومن رايتس ووتش ترويج عدد من دول الاتحاد لفكرة وجود مناطق آمنة في سوريا.
وقالت المنظمة في بيان لها إن “حكومة الرئيس بشار الأسد في سوريا هي من يمارس الاضطهاد، صحيح أنها لا تتمتع بسيطرة فعلية على كامل البلاد، لكن لا توجد منطقة آمنة في أي مكان في سوريا، سواء كانت خاضعة لسيطرة الحكومة أم لا”.
كما حصلت مدينة دمشق على أسوأ مرتبة للعيش في سوريا لعام 2024، بحسب مؤشر صادر عن مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية، الذي استند إلى 5 فئات هي الرعاية الصحية والثقافة والبيئة والاستقرار والبنية التحتية والتعليم.
واعتبر مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “سوريا من أخطر دول العالم، ولا نشجّع أي أحد على زيارتها بقصد السياحة”.
وقال عبد الغني: “بعض الفيديوهات التي ينشرها أشخاص، أعتقد أن قسمًا منهم مدفوع من قبل النظام السوري أو جهات معينة ليقوموا بالترويج للسياحة، وبعضهم تمّ استدعاؤهم من قبل جهات موالية للنظام كروسيا، وظهر بعض الأشخاص المحسوبين على روسيا وقاموا بنشر فيديوهات لتشجيع الناس على العودة إلى سوريا بوصفها آمنة”.
ووفقًا لإحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، ففي النصف الأول من عام 2024 تمّ تسجيل ما لا يقلّ عن 1236 حالة احتجاز تعسفي، منها 217 حالة في شهر يونيو/ حزيران فقط، وما لا يقلّ عن 126 حالة منها على خلفية الإعادة القسرية.
كما تم توثيق مقتل 429 مدنيًا تحت التعذيب في المعتقلات في النصف الأول من العام 2024، منهم 10 ضحايا في شهر يونيو/ حزيران.
يضيف عبد الغني أن الانتهاكات التي يتعرض لها العائد إلى سوريا هي الانتهاكات نفسها التي يتعرض لها المقيم، طالما أن الانتهاكات بحقّ المقيمين موجودة فستكون ممارسة بشكل أكبر على العائدين.
السوريون ليسوا الوحيدين المعرّضين للاختفاء القسري، فقد اختفى شابان أردنيان قصدا سوريا للسياحة في العالم الفائت في ظروف مجهولة عقب تجاوزهما الحدود السورية، ولم يتم الإفراج عنهما أو معرفة أي معلومات عنهما حتى الآن.
كما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن وفاة الطبيب الأمريكي مجد كم الماز في معتقلات النظام، بعد اعتقاله عقب عودته لزيارة سوريا.
دخل الطبيب مجد إلى الغوطة الشرقية بهدف إنشاء مركز للدعم النفسي عن طريق أحد المنسقين، لكن لم يعلم الطبيب أن هذا المنسق يتعامل بشكل سرّي مع الأمن السياسي التابع للنظام السوري، فاُعتقل الطبيب عن طريق كمين في منطقة برزة عام 2017.
ورغم جهود النظام السوري المكثفة للترويج لسوريا كوجهة سياحية آمنة، إلا أن تقارير حقوق الإنسان تؤكد استمرار الانتهاكات والاضطهاد، مما يعكس تناقضًا كبيرًا بين الدعاية والواقع الفعلي على الأرض.