رغم أن التصريحات التركية حول إعادة تطبيع العلاقات مع نظام الأسد ليست جديدة وتعود إلى سنوات سابقة، لكن ارتفاع وتيرتها بشكل ملحوظ في الأسبوعين الأخيرين، أثار تساؤلات حول سبب استعجال أنقرة لهذا التطبيع في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
التغيّر في موقف تركيا، التي تعتبر من داعمي المعارضة السورية سياسيًا وعسكريًا، لم يأتِ منفصلًا عن السياق، وإنما جاء نتيجة أحداث متسارعة داخليًا وخارجيًا، وبعد سلسلة من المواجهات السياسية بين تركيا والعديد من الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري.
وعلى مدى السنوات الماضية شكلت ملفات اللاجئين والاقتصاد والأمن ومكافحة المنظمات التي تصنفها أنقرة إرهابية، عوامل مهمة في دفع أنقرة لتبني مقاربة جديدة في التعامل مع النظام السوري.
هذه التصريحات المتسارعة جاءت بعد أنباء عن لقاء جمع وفود من الطرفين في قاعدة حميميم العسكرية الخاضعة لسيطرة الروس في الساحل السوري، كما تأتي في ظل ترتيب لعقد لقاء على المستوى الأمني بين البلدين سيعقد في العاصمة العراقية دون حضور طرف ثالث، حسب ما أفادت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام.
موجة التصريحات التركية جاءت بعد إعلان رئيس النظام، بشار الأسد، عن “انفتاح بلاده على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته”، وذلك خلال لقائه المبعوث الخاص للرئيس الروسي، ألكسندر لافرنتييف، في 26 من يونيو/حزيران الماضي.
ولم يتأخر الرد التركي على هذا “الانفتاح” السوري، حين صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد يومين، بأنه لا يوجد أي سبب لعدم إقامة علاقات بين تركيا وسوريا، قائلًا: “كما حافظنا على علاقاتنا مع سوريا حية للغاية في الماضي، وكما تعلمون، فقد عقدنا لقاءات (في الماضي) مع السيد (بشار) الأسد، وحتى لقاءات عائلية، ويستحيل أن نقول إن ذلك لن يحدث في المستقبل، بل يمكن أن يحدث مرة أخرى”.
وعقب ذلك تكررت دعوات أردوغان للأسد بتحسين العلاقات بين البلدين الجارين، كما صرح في 7 من الشهر الحالي، أنه قد يدعو الأسد لزيارة تركيا في أي وقت، مضيفًا “وصلنا الآن إلى مرحلة، بحيث إنه بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، سوف نبادر بالاستجابة بشكل مناسب”.
وعلى هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن، الأسبوع الماضي، قال أردوغان “دعوت السيد الأسد قبل أسبوعين إما للمجيء إلى بلدنا أو لعقد هذا الاجتماع في بلد ثالث”، مضيفًا: “كلفت وزير خارجيتنا بهذا الشأن، وهو بدوره سيتواصل مع نظرائه للتغلب على هذه القطيعة والمضي قدمًا في بدء عملية جديدة”.
وبعد صمت على دعوات أردوغان المتكررة، صرح الأسد، أمس الاثنين، “إذا كان اللقاء أو العناق أو العتاب أو تبويس (تقبيل) اللحى يحقق مصلحة البلد سأقوم به” مضيفًا: “نحن إيجابيون تجاه أي مبادرة، لكن هذا لا يعني أن نذهب من دون قواعد”.
وأكد الأسد أن “هناك لقاء يرتب على المستوى الأمني من بعض الوسطاء.. نحن نسعى إلى عمل يحقق نتائج، نحن لسنا ضد أي إجراء لقاء أو غير لقاء المهم أن نصل لنتائج إيجابية تحقق مصلحة سوريا ومصلحة تركيا بنفس الوقت”.
ما وراء التصريحات؟
يرى كثير من المتابعين للشأن التركي أن هناك عوامل داخلية وخارجية دفعت تركيا باتجاه التقارب مع نظام الأسد بعد سنوات من القطيعة السياسية، وتتمثل العوامل الداخلية في نتائج الانتخابات البلدية التركية، حيث حققت المعارضة فوزًا واضحًا في العديد من الولايات التي كانت تصوت تاريخيًا لحزب العدالة والتنمية الذي يسعى من خلال هذا التقارب إلى سحب ورقة التقارب مع النظام السوري من يد المعارضة.
أما الدافع الخارجي، فهو سعي الحكومة التركية لحلحلة ملف اللاجئين وقطع الطريق على استثمار أحزاب المعارضة فيه، بالإضافة إلى التخفيف من الضغوط السياسية والاجتماعية التي يسببها هذا الملف.
إلى جانب العوامل السياسية والانتخابية، يلعب العامل الاقتصادي دورًا بارزًا في التقارب بين الطرفين، حيث تسعى أنقرة لفتح الطرق السورية أمام حركة النقل التركية باتجاه الأردن ودول الخليج العربية، في ظل ارتفاع نسبة البطالة والتضخم في البلاد.
كما يشكل سعي تركيا لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد جزءًا من استراتيجية لمواجهة الخطوات التي تقوم بها قوات “قسد” في شمال شرقي سوريا، والتي تهدف إلى شرعنة وجودها عبر تنظيم انتخابات بلدية وكتابة عقد اجتماعي جديد، وهو ما تراه تركيا تهديدًا لأمنها القومي.
ويرى الخبير العسكري والاستراتيجي العميد أسعد الزعبي أن التصريحات التركية المتكررة لا يجب أخذها على محمل الجد بشكل عام، إذ تريد تركيا من خلالها إحراج النظام السوري وإعطاء صورة للعالم، وخاصة للدول الحليفة له، بأن النظام هو الطرف الرافض لكل المبادرات السياسية والخطوات التي تهدف إلى ضبط الأمن والحدود بين البلدين.
ويضيف الزعبي لـ”نون بوست” أن تركيا تعرف مسبقًا أن قرار النظام ليس بيده، إلا أن العوامل الدولية والإقليمية ومنها الانتخابات الأمريكية والوضع المتوتر في المنطقة نتيجة حرب غزة وتداعياتها تلعب دورًا مهمًا في اتخاذ تركيا لهذه الخطوات، التي تدرك جيدًا أن موافقة النظام على هذا التقارب أو عدم موافقته مرتبط بقرار روسي وإيراني.
معوقات التطبيع
وفي ظل وجود الكثير من العقبات والمعوقات بين البلدين، يرى المراقبون لمسار التقارب بين تركيا والنظام السوري أن الطريق أمام الوصول إلى تطبيع سياسي طويل جدًا، وبالتالي فإن التنسيق الأمني المستمر منذ عدة سنوات هو الخيار الممكن في الوقت الحالي.
وشهدت السنوات الماضية عددًا من اللقاءات التي جمعت رؤساء استخبارات تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري، فضلًا عن لقاء وزير الدفاع التركي بنظيره في حكومة الأسد بموسكو في ديسمبر/كانون الأول عام 2022، حيث اتفقا على تشكيل لجان مشتركة من مسؤولي الدفاع والمخابرات.
وتعتبر مسألة انسحاب القوات التركية من الشمال السوري أبرز المعوقات، حيث يعتبرها النظام حجر الأساس لأي تقارب مع أنقرة، التي تؤكد دائمًا على أن وجودها في تلك المناطق مرتبط بتحقيق حل سياسي وفق القرار الدولي 2254، الذي يضمن العودة الآمنة لملايين اللاجئين، والوصول إلى تسوية سياسية.
وكانت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام أكدت في وقت سابق وجود اتصالات مستمرة بين دمشق وموسكو وعواصم عربية من أجل أن “يخرج أي لقاء مع تركيا بتعهد واضح وصريح وعلني بالانسحاب الكامل من سوريا، وفق أجندة محددة زمنيًا”.
واعتبرت الصحيفة أن ما سبق “ليست شروطًا مسبقة”، وقالت إنها “قاعدة أساسية يمكن البناء عليها للبحث في المتبقي من الملفات”، على رأسها “دعم المجموعات الإرهابية والمقصود بها وتعريفها”.
وفي سياق ذلك، يرى مدير وحدة التحليل السياسي بمركز حرمون للدراسات، سمير العبد الله، أن أهم المعوقات لتقدم المفاوضات بين أنقرة ودمشق هو الموقف الأمريكي الذي قد يُفشل هذا المسار كاملًا، خاصة إذا أعلنت أمريكا عدم انسحابها من مناطق شرق الفرات، وأنها ضد التطبيع مع الأسد.
أما العائق الآخر فهو تعقَّد المسألة السورية وكثرة الفاعلين بها، فمن غير المتوقع أن تسمح إيران للوساطة الروسية بالتقدم على حساب مصالحها، لذلك قد تلجأ إلى تخريبها، حسب العبد الله، الذي اعتبر أن إيران حاليًا تشعر بالرضا عن انتشار قواتها في سوريا، لكنها لن تسمح بزيادة النفوذ التركي أكثر لأنه قد يشكل خطرًا على وجودها.
الهدف هو “قسد”
على مدى السنوات الماضية تصاعدت التهديدات التركية بشن عملية عسكرية ضد المناطق الخاضعة لسيطرة “قسد”، وارتفعت وتيرة هذه التهديدات بعد عزم “الإدارة الذاتية” إجراء انتخابات بلدية في مناطق سيطرتها.
التهديد التركي جاء على لسان الرئيس أردوغان في تصريحات خلال حضوره مناورات “إفس 2024” العسكرية في ولاية إزمير، غربي تركيا قال فيها: “نتابع عن كثب التحركات العدائية من منظمة متطرفة ضد وحدة أراضي بلادنا، والأراضي السورية، بذريعة الانتخابات، وتركيا لن تسمح لمنظمة انفصالية بإقامة (دولة إرهابية) على حدودها الجنوبية”.
وخلال الشهر الماضي، صدرت دعوة تركية هي الأولى من نوعها للتعاون مع النظام السوري لشن عملية عسكرية مشتركة ضد الوحدات الكردية، حين اقترح زعيم حزب “الحركة القومية”، دولت بهتشلي، التنسيق عسكريًا بين تركيا والنظام السوري ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، من أجل “اجتثاث جذور التنظيم الإرهابي”.
ويعتبر مراد أصلان، الخبير الإستراتيجي والمحلل السياسي في مركز “سيتا” للأبحاث أن مسألة الأمن تمثل الدافع الرئيسي وراء سعي تركيا لتطبيع العلاقات مع سوريا، وأن الاتفاق مع نظام الأسد سيسهم في “عزل الجماعات الإرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة الإسلامية، ما يقلل من نقاط الدعم المتاحة لها، خاصة عند اعتماد الخيارات العسكرية”.
من جانبه يرى العميد أسعد الزعبي أن هدف أنقرة من إشراك النظام السوري في عملية عسكرية محتملة ضد “قسد” هو “تأمين غطاء سياسي أو شرعي لهذه العملية، من خلال انتزاع موافقة من النظام على هكذا عملية ضمن خطوات التطبيع بين البلدين.
ويضيف الزعبي أنه في هذه الحالة يصبح وجود القوات التركية وتحركها ضمن الأراضي السورية وجودًا شرعيًا، كما هو حال الوجود الإيراني والروسي، إلا أن كل ذلك لا يمكن أن يحدث دون رضا أمريكي.
ويؤكد الباحث سمير العبد الله أن نظام الأسد أو غيره من الدول لن يتجرأ على القيام بعملية عسكرية في مناطق “قسد” دون وجود رضا أمريكي، خاصة أن أمريكا مقبلة على انتخابات ومن غير المتوقع أن تتخذ الإدارة الأمريكية الحالية قرارًا كهذا في هذه الفترة.
يذكر أن الموقف الأمريكي يبدو متحفزًا بشكل عام تجاه التطبيع التركي مع النظام السوري، وهذا ما أوضحته الخارجية الأمريكية الثلاثاء 3 يوليو/تموز بالقول تعليقًا على تصريحات الرئيس أردوغان الأخيرة، إن بلادها أبلغت حليفتها تركيا بموقفها من إقامة محادثات مع النظام السوري، مع وجوب التركيز على ضرورة اتخاذ خطوات لتحسين وضع حقوق الإنسان والوضع الأمني لجميع السوريين.