حين التمست الدراسات الغربية بذور الرأسمالية في ثقافتها – كما فعل ماكس فيبر – راحت تتمسك بأي معنى تجده في المسيحية – خاصة البروتستانتية – يتعلق بشؤون الحياة الإنسانية أو يرمز إلى تصرفات علمانية، لتؤكد أن العلمانية والرأسمالية والحداثة لم تنشأ مرة واحدة، ولم تستورد من خارج أوروبا، ولكن كانت بذورها تحت ثرى الحياة الغربية تنتظر الظرف الملائم لتخرج إلى السطح.
أما في الإسلام، فلا نحتاج إلى تكلف كثير لكي نعثر على مئات النصوص الصريحة الخاصة بممارسات الحياة الإنسانية في طابعها الحياتي اللاشعائري أو المتعلق بمعيشة الناس – بما في هذا الجانب الشهواني الخالص – مما يستوي فيه المسلم مع غيره، من الأكل والشرب والنكاح والتوارث والبيع والشراء، وإن كان الإسلام قد صاغ هذا كله ضمن منظومة محكمة يتلاقى فيه الديني والدنيوي والجسدي والروحي.
السيطرة الحديثة الكاسحة للنموذج الحضاري الغربي بفصمه العرى تمامًا بين الديني والدنيوي والروحي والجسدي، وتحليله الكلي من دون إعادة تركيبه، قد أثر على مقاييس الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية وفي شتى بقاع المعمورة
بل إن مجالات الحياة التي حكمتها الشريعة بكلياتها العامة مثل مجالَي السياسة والاقتصاد، تظهر إلى أي مدى كان هذا الدين دقيقًا في أن يولي الحياة وتطوراتها قدرًا من المرونة يتفاعل فيه العقل العلمي المسلم بخبرته مع الحياة في تطورها غير مقيد إلا بالمبادئ العامة للدين التي لا يمكن أن تكون حياة إلا بها مهما تكن صورتها وطبيعتها.
إلا أن السيطرة الحديثة الكاسحة للنموذج الحضاري الغربي بفصمه العرى تمامًا بين الديني والدنيوي والروحي والجسدي، وتحليله الكلي من دون إعادة تركيبه، قد أثر على مقاييس الناس بمختلف مستوياتهم الثقافية وفي شتى بقاع المعمورة، بما في هذا كثير من علمائنا ومثقفينا، في جو أزمة خانقة نعيشها إسلاميًا منذ أكثر من قرنين، ولعلي أرصد فيما يلي بعض آثار العلمنة غير المحسوسة أحيانًا، والظاهرة بجلاء أحيانًا أخرى.
“البركة” في المفاهيم الدينية
“البركة” مفهوم ديني يعني الزيادة والنماء، وأن تكون لشيء ما قيمة أكبر من قيمته الظاهرة، قال أبو هلال العسكري في “الفروق اللغوية”: “البركة: هي الزيادة والنماء من حيث لا يوجد بالحس ظاهرًا، فإذا عُهِد من الشيء هذا المعنى خافيًا عن الحس، قيل هذه بركة… ويوصف بها كل شيء لزمه وثبت فيه خير إلهي”.
إلا أننا نستعمل هذه اللفظة الآن بمعنى آخر، وهو القيام بالأمر بلا نظام، أو الإتيان به دون ترتيب للأسباب، ويقترب منه أحيانًا لفظ “الدروشة” الذي يعبر عن الممارسة الدينية العشوائية، وهو ما يؤكد أن فهمنا للفظ البركة نفسه فهم مغزوٌّ جره العقل المسلم الحديث وإسقطه على المفاهيم الدينية الأخرى.
والقضية ترجع إلى أن المفهوم الغربي للدين غير مفهومنا نحن له، فالدين في الطرح الغربي – كما هو معلوم – يقابل الحياة، والحياة تعني الأخذ بالأسباب المادية الظاهرة، والتأدي من المقدمات المنضبطة إلى النتائج الصحيحة الحاضرة في هذا العالم، وأما الدين فيعني في هذه الرؤية التسليم والإيمان والتصديق، والوقوف على الطرف المقابل للحياة من رجاء ما هو غيب دون ما هو مشهود وظاهر.
وهذا لا ينسجم بالطبع مع مفهومنا للإسلام الذي يتسع حتى يضم بين جنباته الحياة ونشاطاتها المتنوعة، ويضع الدنيا والآخرة ضمن إطار محكوم بسلطان الله وشريعته، ويعطي الإنسان – مع هذا – حرية فيما يأتي ويذر، مانحًا إياه منزلة خاصة في هذا العالم يتحمل معها كل فاعل بشري نتائج فعله.
مفهوم التوبة يعني في جانب منه صناعة واقع نفسي جديد للتائب عن طريق وضعه بين حالي: الخوف حتى لا يرجع إلى سالف تقصيره، والرجاء حتى لا ييأس من رحمة ربه
وبعيدًا عن الاستغراق في هذا التنظير، أعرض مثالاً لإسقاط مفهوم البركة بمعناه المغزوّ على أحد المفاهيم الدينية الخالصة، وكيف أننا نزوّر هذا المفهوم في كثير من كتاباتنا وخطبنا، وهو مفهوم “التوبة” التي لا شك أنها من المفاهيم الدينية الخالصة بالمعنى الغربي للدين، إلا أن التقديم الإسلامي لها لا يثبت فقط أن اتحاد اللفظ لا يلزم عنه الاتفاق في المعنى، ولكنه يثبت كذلك أن الاحتراس من تأثير الأنظمة الفكرية المغايرة على صياغة مفاهيمنا أمر واجب تتهدد دونه الهوية والذات نفسها.
إن التوبة تُطرَح عادة في خطابنا الديني على أنها مفهوم اعتذاري أو موقف نفسي من المعصية، ومن هنا خاطبْنا الناس بما أسال مدامعهم، ونشرنا بينهم كتب الوعظ والتذكير القاصرة عن تقديم مفهوم التوبة بمعناه الإسلامي العميق والشامل، فجنينا على المفاهيم كما جنينا على المتلقين للخطاب الديني.
وباختصار شديد، فإن مفهوم التوبة يعني في جانب منه صناعة واقع نفسي جديد للتائب عن طريق وضعه بين حالي: الخوف حتى لا يرجع إلى سالف تقصيره، والرجاء حتى لا ييأس من رحمة ربه، مع السعي – من التائب ومجتمعه – إلى صناعة واقع اجتماعي يساعد على البقاء بعيدًا عن مرمى الأسباب الداعمة للتوجه إلى المناطق المحظورة، ويدعم هذا كله فهم التائب لطبيعة النفس التي لا تعرف الفراغ، فإن لم تُشغَل بما ينفعها انشغلت بما يضرها، وإن تُركت لا تعرف قدرها وقيمتها عند الله استمرأت الدونية والتمرغ في حمأة التقصير.
إن تقديم المفاهيم الدينية باعتبارها أعمالاً عشوائية وتواكلية لا تخضع لخطة ولا نظام، من آثار العلمنة التي تعرض لها العالم الحديث – ونحن جزء منه – جراء سيطرة الحضارة الغربية بخيرها وشرها عليه، وهذا في حق الإسلام جناية على الحقيقة، وإيقاع للعالم الإسلامي في أسر مفاهيمي خطير لا ينفك عنه السلوك على شاكلته.
برجماتية إسلامية!
كثرت الأصوات الداعية إلى التمسك بالإسلام وتعاليمه، وسُمِعت هذه الأصوات في مراحل الأزمات أكثر من غيرها، وتردد صداها في كل أنحاء العالم الإسلامي، بل وبين الجاليات المسلمة المتناثرة شرقًا وغربًا، إلا أن بعض آثار العلمنة تسربت إلى كثير من هذه الأصوات المخلصة في عمومها.
إن استهداف المنافع القريبة وحدها هي من معالم العلمانية الثابتة، ومن آثارها التي خلفتها على العقل الإسلامي الحديث، وقد بدا هذا واضحًا في الخطاب الديني الذي يحدو الناس إلى العودة للإسلام لحل مشكلاتهم المعيشية وتحرير أوطانهم السليبة، والمشكلة في هذا أن العودة إلى الإسلام ليس هدفها تحرير الأوطان ولا حل مشكلات المعيشة والخروج من أزمات الحياة!
اهتمامنا بالجانب المادي في الرؤية الإسلامية التي نقدمها الآن وفي كل وقت يجب أن يأتي باعتباره جزءًا من نظرة كلية تشمل الغيب والشهادة، والروح والمادة، والدنيا والآخرة
إن الخطاب الإسلامي الرشيد يعتمد في مشروع الاستعادة الإسلامية على فكرة تحقيق الذات المسلمة أولاً، فالعودة إلى الإسلام عودة إلى الذات، وتطبيق التعاليم القرآنية والنبوية ليس لتحرير فلسطين، ولا تحقيق وحدة المسلمين، ولا ما شابه ذلك من الأهداف النبيلة، وإنما للعودة إلى الأصل الأصيل الذي يتفرع عنه كل ذلك، ألا وهو استعادة الشخصية الفردية والجماعية للمسلم.
ولو اعتقدنا أننا يجب أن نعود إلى الإسلام لحل مشكلاتنا وتحرير أوطاننا، لترتب على ذلك معنيان خطيران:
الأول: أن الإسلام دين أزمة فقط، ولن تكون لنا به حاجة إلا إذا كنا نعيش مشكلة واقعية، وهذا يصدّق القولة الفاسدة “لإخوان الصفا” قديمًا من أن الدين جاء للمرضى، وأما الفلسفة فهي للأصحاء!
الثاني: أن المجتمعات البشرية التي لا تعاني من أزمات لا تحتاج إلى الإسلام، فضلاً عن غيره من الأديان.
ويلحق بهذه الفكرة نوع العطاء الذي نبشر الناس بأن الإسلام قادر أن يقدمه للبشرية، فكثيرًا ما يركز خطابنا الديني على المنافع المادية، وأن الإسلام لا يحرم التمتع بطيبات الحياة، وأنه سيفتح بابًا واسعًا للعلم التجريبي وتطبيقاته.
ومع أن هذا حق تمامًا، إلا أن التركيز على ما يمكن أن يقدمه الإسلام ولا يملكه غيره أولى، أو تقديم رؤية كلية للمسألة لا تفصل ماديتها عن روحانيتها؛ لأن إنسان العصر قد مل خطاب المادة الجاف المجرد.
وجدير بنا أن نتذكر أن الإسلام حين استبقى بعض عادات الجاهلية، فإنه لم يفته أن يقيمها على أصوله الاعتقادية، ويحميها من الشطط والغلو، وكذلك اهتمامنا بالجانب المادي في الرؤية الإسلامية التي نقدمها الآن وفي كل وقت يجب أن يأتي باعتباره جزءًا من نظرة كلية تشمل الغيب والشهادة، والروح والمادة، والدنيا والآخرة.