وقعت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي في الفترة بين عامي 1882 و1954، أكثر من سبعين عامًا تقريبًا كانت كفيلة بتحويل مصر من بلد ذي لسان عربي لبلد يتحدث لغة أجنبية تمامًا أو لغة عربية ممزوجة بلكنة أوروبية كما حدث في بعض البلدان المجاورة، لكن بعض العوامل ساعدت المصري على حفظ لسانه ومصطلحاته ولغة بلده ودينه من الاندثار، أحدها كانت “الكتاتيب”.
البداية
دخلت الكتاتيب العالم الإسلامي في فترة الحكم الأموي، فكان الغرض منها تحفيظ صغار المسلمين القرآن الكريم وتعليمهم القراءة والكتابة ومتون الشعر وأنظمته وقواعد النحو واللغة بالإضافة للحديث الشريف.
باعتبار مصر جزء من الدولة الإسلامية الكبرى كانت الكتاتيب أمرًا بديهي الوجود غير أنه غير جديد، إذ إن الكاتيب وجدت في مصر منذ العصر الفرعوني وكانت ملحقة بالمعابد، ووجدت أيضًا في العصر القبطي ثم استمرت بعد دخول الإسلام لمصر لتُصبغ بالصيغة الإسلامية وتتغير موضوعات دروسها نظرًا لتحول سواد المصريين للإسلام.
استمر عمل الكتاتيب في مصر لفترة طويلة، وأخرجت الكثير من أعلام المجتمع في القرني التاسع عشر والعشرين، وفي الكثير من المجالات، فنيًا لدينا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم والفنان محمد عبد الوهاب اللذين برعت أصواتهما في المقامات والنغمات في الترتيل وبعدها في الغناء
أخذت الكتاتيب شكل الحلقات، والمعلم بها اسمه مؤدِب، يجلس ومعه الأطفال حوله أو أمامه ثم يبدأ في الترتيل ويبدأون في التكرار وراءه، كان الكتاب إما حجرة ملحقة بالمسجد أو جزء من ساحة أو ملحقة بسبيل كما هو الحال في سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا، وسبيل وكتاب السيدة نفيسة البيضاء.
المقابل الذي كان يأخذه المؤدب لقاء تعليمه الأطفال لم يكن عاليًا في أكثر الأحوال، كانت قروشًا محددة أو حصة محددة من محصول والد الطفل أو ثمرات من زراعته وربما دجاجة أو بعض البيض.
الكتاتيب وصناعة الرموز في مصر
استمر عمل الكتاتيب في مصر لفترة طويلة، وأخرجت الكثير من أعلام المجتمع في القرني التاسع عشر والعشرين، وفي الكثير من المجالات، فنيًا لدينا كوكب الشرق السيدة أم كلثوم والفنان محمد عبد الوهاب اللذين برعت أصواتهما في المقامات والنغمات في الترتيل وبعدها في الغناء.
أدبيًا وفكريًا تخرج في الكتاتيب كل من رفاعة الطهطاوي وأحمد شوقي وإبراهيم ناجي وعميد الأدب العربي طه حسين وأحمد شفيق كامل وعبد الرحمن الأبنودي الذي حكى عن الفترة التي قضاها في كتاب قريته ويمكنكم المشاهدة من هنا:
وكان للحركة الشعبية نصيبها أيضًا من تلاميذ الكتاتيب، ففصاحة سعد زغلول لم تأت من فراغ؛ فقد تتلمذ أيضًا على أيدي مؤدبي الكتاتيب كذلك الحال مع محمد فريد المناضل المصري الشهير.
وعلى جانب آخر فإن للكتاتيب فضلاً عظيمًا في تقديم أفضل الأصوات في القرآن الكريم وأكثرها جودة كالشيخ عبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل وأبو العينين شعيشع ومحمد رفعت وغيرهم ممن ساهموا في نشر القراءات السليمة والصحيحة للقرآن الكريم على المستوى الإقليمي والعالمي.
ساهمت الكتاتيب إذًا في صناعة العديد من رموز المجتمع المصري الثقافية والأدبية تحديدًا، واستمرت لعقود عدة وما زالت محتفظة برونقها وقيمتها حتى الآن.
قديمًا وحديثًا
الكتاتيب ومنذ عصور الإسلام الأولية كانت تحظى بالشريف هي ومؤدبيها حتى من الأمراء ورجال الدولة، فقد بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس – رحمه الله – يستحضره؛ ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فأبى عليه، وقال: إن العلم يُؤتى، لا يأتي، فبعث إليه ثانيًا، فقال: أبعثهُما إليك يسمعان مع أصحابك، فقال مالك: بشريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهي بهما المجلس، فحضراه بهذا الشرط.
من المهم حاليًّا لمصر إن كانت ترغب في العودة لوضعها القوي في مجالات الفكر والأدب والفن أن تُعيد النظر في الشكل الذي تدير به العملية التعليمية ودعم الكتاتيب الحاليّة وافتتاح أخرى جديدة تساهم في صقل لغة النشء ودعمها
في السينما المصرية العديد من الأعمال التي تعرضت لظاهرة لكتاتيب، لكن الكثير منها لم يتناولها بالشكل المنصف الذي يعرض أهميتها وجلال شأنها، بل على العكس دائمًا ما يصور شيخ الكتاب أو المؤدِب بأنه الرجل كبير السن حاد الطبع سليط اللسان متعطش دائمًا للمنفعة من أولياء الأمور أيًا كان حجمها، لكن الكثيرين روي عنهم عكس ذلك، فالشيخ أبو عبد الله التاودي نُقل عنه أنه “كان يعلِّم الصبيان، فيأخذ الأجر من أولاد الأغنياء، فيردُّه على أولاد الفقراء”.
عن وضع الكتاتيب الحاليّ وتراجع دورها يقول الشيخ المعصراوي – شيخ عموم القراء في مصر -: “دور الكتاتيب في السنوات الأخيرة تراجع كثيرًا بسبب تقصير الأزهر ووزارة الأوقاف في الاهتمام بها، وأضاف بقوله: حقيقة عدد الأسر الراغبة في تحفيظ أولادها القرآن قل بكثير مقارنة بالسنوات الماضية”.
وأحد أهم أسباب ضعف وجود الكتاتيب تقليص الميزانية المخصصة لها من الدولة مقابل زيادة الميزانيات المخصصة لصالح الحضانات.
إذًا من المهم حاليًّا لمصر إن كانت ترغب في العودة لوضعها القوي في مجالات الفكر والأدب والفن أن تُعيد النظر في الشكل الذي تدير به العملية التعليمية ودعم الكتاتيب الحاليّة وافتتاح أخرى جديدة تساهم في صقل لغة النشء ودعمها.