حاول علم النفس منذ عقود عديدة الغوص فيما وراء الدوافع البشرية لسلوكياتهم وأفعالهم وتصرفاتهم، سواء كانت فردية محضة أو خارجية تتأثر بالمجتمع والبيئة والعوامل المادية الأخرى. وقد وضعت النظريات المتنوعة التي تختلف فيما بينها على أساساتٍ كثيرة؛ فمنها ما ارتكز فقط على الغرائز مثل نظرية سيغموند فرويد الشهيرة حول غريزتي الموت والحياة اللتين تقودان جميع سلوكيات البشر.
وهناك النظريات التي اقتصرت على الحاجات البيولوجية كالجوع والعطش والجنس والتكاثر في تحديد سلوكيات الأفراد ونشاطاتهم، وعلى الجانب المناقض تمامًا فثمة نظريات اهتمت بشكلٍ أوسع وأكثر إنسانية بالجانب الإدراكيّ والمعرفيّ فيما يتعلق بما نقوم به وما نفعله، مثل نظرية التسلسل الهرمي لأبراهام ماسلو ونظرية التحديد الذاتي.
لدى الأفراد دافع فطريّ للقيام بالأفعال يتحدد من خلال ثلاث حاجاتٍ رئيسية هي: الكفاءة والاستقلالية والارتباط مع الآخرين
تقترح نظرية التحديد الذاتي أنّ لدى الأفراد دافعًا فطريًا نحو النمو والتغيير يتحدد من خلال ثلاث حاجاتٍ نفسية يشتركون بها جميعًا ولا تقتصر على مجموعة دون غيرها، وتنطوي على الكفاءة أو القدرة على العمل بفعالية ممكنة، وحرية الاختيار الذاتي أو مسؤولية الفرد عن قراراته وسلوكياته الخاصة، والارتباط مع الآخرين وتكوين العلاقات معهم.
استيفاء أو إشباع هذه الحاجات الثلاث يؤدي بدوره إلى خلق شعور الفرد بالرضا عن ذاته حيال ما يفعله أو ما يقوم به في شتى مجالات حياته، وأي نقص في مستوى الإشباع فغالبًا ما يؤدي بالفرد للبحث عن سبل أخرى لإشباع تلك الحاجات أو قد يؤدي لخلق مشاكل صحية واضطرابات نفسية في حال تعثّرت محاولات إشباعها.
بدايةً علينا أنْ نتفق على أنّ ثمة مفهومًا أساسيًا يلعب دورًا كبيرًا في هذه النظرية، الحافز الداخلي أو القيام بالأفعال بتحفيزٍ داخليّ دون الانسياق أو الاندفاع وراء التأثيرات الخارجية للفرد كالبيئة والأسرة والمجتمع وغيرها. ففي حين أنّ الكثير منّا غالبًا ما نكون مندفعين للقيام بما نقوم به اندفاعًا وراء بعض المؤثرات والتحفيزات الخارجية، سواء كانت إيجابية مثل المال والجوائز أو إرضاء الغير، أو سلبية مثل تجنب العقاب أو كلام الناس والخجل منهم وغيرها، وهو ما يُعرف بمصطلح “الدافع الخارجي”، فإنّ نظرية التحديد الذاتي تركّز في المقام الأول على مصادر التحفيز الداخلية مثل الاستقلالية أو الحاجة إلى اكتساب المعرفة والخبرة، وهو ما يُعرف بمصطلح “الدافع الداخلي أو الذاتيّ”.
وقد طور عالما النفس إدوارد ديسي وريتشارد ريان نظرية الدافع التي تشير إلى أن الأفراد يميلون إلى أن يكونوا مدفوعين بالحاجة إلى النمو وتحقيق الكفاءة للقيام بما يقومون به من تصرفات وسلوكيات وأفعال، وتفترض النظرية أساسًا أنّ نشاطات الفرد جميعها موجهة نحو النموّ أو التقدّم، يليها رغبته في اكتساب القدرة على مواجهة التحديات واكتساب الخبرات الجديدة التي تساعده في تحسين كفاءته الذاتية وتعطيه شعورًا متماسكًا بالذات.
من المهم أن ندرك أن النمو النفسي والتقدّم الموصوف في هذه النظرية لا يحدث بشكلٍ تلقائي على الرغم من أنّنا نميل له فطريًّا، إلا أنّ الفرد سيكون دومًا بحاجة لمفاتيح عديدة تساعده في تحقيق ذلك التقدم والوصول إلى درجةٍ عالية منها؛ أهمها الدعم الاجتماعي ومستوى العلاقة مع الآخرين، الذي قد يعزز أو يحبط رضانا عن ذواتنا ونموّنا الشخصي.
وبالتالي يمكننا القول أنّ البيئات الاجتماعية، وفقًا لهذا المنظر، يمكنها أنْ تسهّل وتمكّن من نزعات النمو والتقدم الذاتي عند الأفراد، أو أنْ تعطّل هذه الدوافع وتفسدها وتنتج عنها سلوكيات وتجارب داخلية غير صحية على المستويين النفسيّ والاجتماعي على حدٍ سواء.
تفترض النظرية أساسًا أنّ نشاطات الفرد جميعها موجهة نحو النموّ أو التقدّم، يليها رغبته في اكتساب القدرة على مواجهة التحديات واكتساب الخبرات الجديدة التي تساعده في تحسين كفاءته الذاتية وتعطيه شعورًا متماسكًا بالذات.
كما أنّ توفر التعزيزات الخارجية لسلوكيات الأفراد كالمال والمكافآت قد يؤدي إلى تقويض الاستقلال الذاتي في كثيرٍ من الأحيان، إذ تصبح هي السبب الرئيسي للقيام بالعمل أو الإتيان بالسلوك، فيبدأ الفرد بالشعور بنقص قدرته على التحكم بسلوكه، ما يقلل الدوافع الداخلية مثل الشغف أو الرغبة باكتساب المعرفة والخبرة.
ولعلّ أقرب مثال قد يوضح لك تلك النقطة، هي قيامك بمهنتك لدافع الراتب الشهريّ أو المال الذي تجنيه، دون أي وجود لشغفك وحبك لما تقوم به، أو دون أيّ إمكانية لزيادة خبراتك ومستوى معرفتك. ليسَ صعبًا هنا أنْ نتخيل أنّ دافعك للعمل سيكون في أقلّ مستوياته، وأنّ صورتك الذاتية لن تكون في أفضل حالتها، لغياب الرضا والاستقلالية.
لا يقتصر الأمر على العمل والراتب، وإنما يمتد إلى كافة أفعالنا وسلوكياتنا في كافة المجالات كالمدرسة والجامعة والعائلة والعلاقات، فأنتَ لن تصل لمرحلةٍ نامية من الرضا عن الذات في حال درستَ من أجل الحصول على علامةٍ عالية فقط أو لترضيَ والديْك أو لتحقّق صورةً جيدة أمام وسط الاجتماعيّ، فهذه كلها ما هي إلا دوافع خارجية لا تكفي لتحقيق الذات والرضا عنها، وبالتالي لا تحقق النموّ الشخصي.
إذن فقد نجحت النظرية في تطبيقات عديدة في المجال العمليّ والتنموي والتربويّ. فالاهتمام بالاحتياجات الثلاثة تلك التي تنطوي عليها النظرية، تمكّن الفرد عاملًا كان أم طالبًا أم رياضيًا، من أداء المهام المطلوبة منه على أكمل وجه وتحفّزه للوصول لإنجازات أكبر وأهداف أعلى، بناءً على دوافعه الداخلية التي يطمح من خلاله لتحديد ذاته وتحقيق صورة جيدة عن نفسه بعيدًا عن العوامل الخارجية المادية والبيئية.