تُعرِف شركة البيانات البريطانية “كامبريدج أناليتيكا” نفسها بأنها الأداة الأفضل لتغيير سلوك الأشخاص والرأي العام حول القضايا السياسية والتجارية التسويقية، وذلك من خلال جمع وتحليل بيانات الجمهور المستهدف، والمثير للفضول في هذا الشأن هو المصدر الذي تعتمد عليه الشركة في جمع معلوماتها حول سلوك الناس لتوجيههم في الاتجاه الذي يرغبه رجال التجارة والسياسة، وأشهرهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي تعاون معها خلال حملته الانتخابية عام 2016.
بالرغم من أن الشركة نجحت في إبراز اسمها ودورها في 44 سباق سياسي أمريكي، لكن على ما يبدو أن صيت نجاحها لن يصمد طويلًا بعد فضيحة اختراقها لأكثر من 50 مليون حساب شخصي على موقع فيسبوك، من أجل دراسة وتحليل شخصيات الناخبين الأمريكيين وبالتالي التأثير على توجهاتهم بشكل نفسي عبر الدعاية والإعلانات.
كيف تعمل شركة “كامبريدج أناليتكا” على تغيير سلوك الجمهور المستهدف؟
يؤمن ألكسندر نيكس، مدير الشركة، بأن استغلال علم النفس في قطاع التجارة والسياسة ساعد بدرجة كبيرة على فهم سلوك الأشخاص وتخمين ما يريده الجمهور لتغيير قناعاتهم عبر قياس مدى انفتاحهم أو تعصبهم لموضوع معين، والتوجه إلى الفئة الأقل انغلاقًا لتشكيل وعي جديد لها عن طريق الرسائل المكررة والإعلانات، وهذا ما تقوم به بالفعل شركته.
فلفد تلقت “كامبريدج” دعم مالي بقيمة 15 مليون دولار من قبل روبرت ميرسر، أحد الداعمين الرئيسيين لترامب، وعملت الشركة على جمع بيانات المستخدمين ودراسة سلوكهم ورصد اهتماماتهم واختارت أكثر الفئات الممكن إقناعها وأرسلت رسائل تدعوهم فيها للتصويت، واستهدفت بشكل يومي مجموعات مختلفة من الناخبين في 17 ولاية، لذلك فإنه من المرجح أن تكون قد تلاعبت بنتائج الانتخابات الأمريكية قبل عامين، وتدخلت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
طالت هذه الجلبة إدارة موقع فيسبوك التي تواجه موجة مستمرة من ردود الفعل العنيفة والاتهامات بسبب دور منصاتها في نشر الأنباء المضللة والأخبار الوهمية والتلاعب بالدعاية السياسية وتكريسها للبروباغندا الروسية، وفشلها عدة مرات في سد الثغرات الأمنية التي تهدد خصوصية المستخدمين، فما تفاصيل هذه اللعبة التي تضع “كامبريدج أناليتيكا” و”فيسبوك” في خانة الاتهام؟
كيف ظهرت هذه المعلومات على السطح؟
أرسلت قناة “CHANNEL 4 NEWS” البريطانية مراسلًا إخباريًا متخفيًا على هيئة رجل أعمال يريد التأثير على الحملة الانتخابية المحلية، وخلال لقائه مع أليكساندر نيكس، يظهر نيكس في مقطع مصور وهو يعطي أمثلة حول قدرة الشركة على تقبيح صورة الخصوم السياسيين عبر حملات تشويه منظمة تضعهم في مواقف غير أخلاقية كالتسبب في فضائح جنسية ومالية لهم، كإرسال بعض الفتيات إلى منزل المرشح المنافس أو تصويره وهو يتلقى رشوة، وذلك بناءً على خبرة الشركة وعمل مديرها نيكس مع جواسيس سابقين من بريطانيا و”إسرائيل”، إضافة إلى امتلاكه مجموعة من الوثائق المضرة بالخصم والتي يمكنها تحديد سير الانتخابات بسهولة، على حد قوله.
يظهر الفيديو أجزاء أخرى من المحادثة التي تشير إلى أن الشركة تعمل أحيانًا تحت اسم مستعار لحمايتها من أي ورطات أو سقطات قانونية، وبأنهم ينجزون مهماتهم بقدرٍ عالٍ من الخفة والسرية كالأشباح على حد وصفهم.
تعالت الأصوات التي تستفسر عن دور فيسبوك في هذه الحملات السياسية، خاصة أن المعلومات التي تم جمعها كانت عبارة عن تفاصيل تخص هوية المستخدمين وأصدقائهم ومواقعهم
بعد نشر هذا المقطع، ادعت الشركة أنه فيلم تمثيلي لا يمد للواقع بصلة وتم كتابة النص المحكي من قبل المراسل، ونفت انخراطها في أي أعمال غير قانونية، وأكدت على أنها لا تلجأ للرشاوي أو غيرها من أجل تحقيق أي غاية كانت، وعقب هذا التصريح تعالت الأصوات التي تستفسر عن دور فيسبوك في هذه الحملات السياسية وأثيرت شكوك جديدة حول سياسة الخصوصية في فيسبوك، خاصة أن المعلومات التي تم جمعها كانت عبارة عن تفاصيل تخص هوية المستخدمين وأصدقائهم ومواقعهم، وتشمل تتبع كامل لجميع تفاعلاتهم وإعجاباتهم ومشاركاتهم على صفحات الموقع.
هل وقع فيسبوك في ورطة جديدة؟
انتشرت التطبيقات أو الاختبارات الشخصية على منصات فيسبوك كنوع من ألعاب التسلية التي تثير فضول المستخدم للتعرف على جوانب مختلفة من شخصيته، وهو نشاط سمحت فيه فيسبوك عام 2014 ومن ثم تخلصت منه، ولكن قبل أن تمنعه كان إليكساندر كوجان قد صمم إحدى هذه التطبيقات التي بفضلها استطاع توفير معلومات حول أكثر من 50 مليون مستخدم أمريكي، منهم 270 ألف وافقوا على المشاركة في هذا الاختبار لأغراض أكاديمية، وذلك وفقًا لخبير البيانات كرويستوفر ويلي، أحد العاملين السابقين في شركة “كامبريديج أناليتيك”، والذي يدعي أن كوجان باع بيانات المستخدمين إلى الشركة التي استغلتها بدورها في تشكيل دعاية سياسية عبر إيصال محتوى مساند لتولي ترامب الحكم في أمريكا.
الفيسبوك بدوره أجاب على طورته في هذا الأمر بالقول: “لم يتم سرقة كلمات سر ولا أي نوع من المعلومات الحساسة من منصاتنا”، كما أصر الموقع الأكثر انتشاراً في العام أن شركة “كامبريدج” لم تقم باختراقه ولكن “فيسبوك” سمحت للخبراء والباحثين بالحصول على البيانات التي تلزمهم في أبحاثهم العلمية، وهذا شرط يوافق عليه المستخدمين عند إنشائهم حساب في الموقع، لكن فيسبوك تمنع تداول هذه المعلومات مع أطراف أخرى وترفض تمامًا بيعها لأي جهة أو شبكة إعلانية أو خدماتية أو وسيط بيانات أو أي جهة خدماتية.
أصدرت فيسبوك بيانًا تقول فيه إنه في عام 2015 عندما علمت بانتهاك كوجان لتعليمات فيسبوك، قامت بحذف تطبيقه من الموقع وحصلت على أوراق تثبت فيها تخلص الشركة من البيانات المسلوبة، لكن قبل أيام عدة تلقى فيسبوك تقارير متضاربة تظهر فيها معلومات مغايرة لما حصلت عليه من قبل
وبعد أن أنكرت شركات البيانات السياسية حصولها أو استخدامها هذه البيانات، تراجعت عن موقفها واعترفت بانتهاكها للموقع ولامت كوجان على كسر قواعد فيسبوك، وأدعت أنها حذفت المعلومات فور علمها بالمشكلة التي حدثت قبل سنتين؛ الأمر الذي ينفيه ويلي، أحد العاملين السابقين في الشركة.
وردًا على هذا أصدرت فيسبوك بيانًا تقول فيه أن في عام 2015 عندما علمت بانتهاك كوجان لتعليماتها، قامت بحذف تطبيقه من الموقع وحصلت على أوراق تثبت فيها تخلص الشركة من البيانات المسلوبة، لكن قبل أيام عدة تلقى فيسبوك تقارير متضاربة تظهر فيها معلومات مغايرة لما حصلت عليه قبل عامين، لذلك تحركت للتحقق مجددًا من صحة هذه الادعاءات، وقالت بإن “كامبريديج أناليتيك” وافقت على إجراء مراجعة بواسطة شركة “ستراوز فريدبرج” للتدقيق الجنائي الرقمي، وستمنحها الدخول كاملًا إلى خوادمها وأنظمتها لتحديد ما إذا كانت شركة البيانات لا تزال تملك معلومات حول هذه الحسابات الشخصية التي قالت إنه تم حذفها، وأوضحت أنه في حال ثبت وجود هذه البيانات فهذا يعتبر انتهاك خطير لسياسات موقع التواصل الاجتماعي وضربة قوية لثقته.
لكن جاء رد شركة “كامبردج” واضحًا، إذ صرحت “إن الشركة تستقبل وتستعمل البيانات بطريقة قانونية وشرعية، ونلتزم في حماية البيانات وفقًا لتعليمات وسياسات اللوائح الأمريكية والدولية والأوروبية”.
زوكربيرغ مطالب بالخروج عن صمته والمثول أمام مجلس العموم للبحث في قضية الإساءة في استخدام بيانات المستخدمين وانتهاك خصوصيتهم
ونتيجة لهذه الفضيحة، من المرجح أن تكون العواقب وخيمة بالنسبة إلى الثقة العامة في التزام فيسبوك بالخصوصية وحماية البيانات، ولا سيما أنها سمحت للمعلنين والمطورين بالوصول إلى هذه المعلومات، على اعتبار أن تداولهم لهذه المعلومات لن يمر إلى أطراف ثالثة، وبالرغم من زعمها بانها شديدة التحكم في المعلومات التي يتم مشاركتها مع مطوري التطبيقات والجهات الإعلانية، إلا أن مصادر من فيسبوك اعترفت لشبكة السي إن إن بأنه من المستحيل مراقبة ما يفعله المطورون والمعلنون بالبيانات الموجودة بين أيديهم.
فوفقًا لـeMarketer، فإن أعداد المستخدمين الأمريكيين لموقع فيسبوك انخفض لأول مرة في الربع الأخير من السنة، وخسر نحو 2.8 مليون مستخدم، ومن المتوقع أن يخسر اثنين آخرين بعد هذه الفضيحة التي طالبت زوكربيرغ بالخروج عن صمته والمثول أمام مجلس العموم للبحث في قضية الإساءة في استخدام بيانات المستخدمين وانتهاك خصوصيتهم.