أسدل مسعود بزشكيان بفوزه في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المبكرة الستار على هيمنة المحافظين على رأس هرم السلطة في البلاد، وإعادة الإصلاحيين للمشهد بعد أكثر من 19 عامًا منذ مغادرة محمد خاتمي، آخر رئيس إصلاحي للقصر الرئاسي في طهران.
وكانت وزارة الداخلية الإيرانية قد أعلنت صباح أمس السبت فوز بزشكيان على منافسه المحافظ سعيد جليلي بنحو 55% من أصوات الناخبين في الانتخابات التي شارك فيها أكثر من 30 مليون صوت، بنسبة مشاركة تصل إلى 49.8%، وهي النسبة التي اعتبرها مراقبون مرتفعة للغاية في ظل الأجواء التي تخيم على المشهد الإيراني منذ حادثة مقتل الرئيس السابق إبراهيم رئيسي ومرافقيه مايو/أيار الماضي.
تتجه الأنظار مع فوز المرشح الإصلاحي نحو انعكاسات هذا الانتصار – الذي جاء على حساب المحافظين – على المشهد الإيراني، داخليًا وخارجيًا، وما يمكن أن يُحدثه من تغيرات – طفيفة أو جذرية – في السياسات الإيرانية في الوقت الذي تقبع فيه طهران فوق فوهة بركان من الصراعات والملفات الساخنة، لعل أبرزها الملف النووي والعلاقات مع الولايات المتحدة وأخيرًا الملف الفلسطيني والحرب الدائرة الآن في غزة.
مد يد الصداقة للجميع
يسعى بزشكيان لتجنب التصعيد مع المحافظين خلال فترة رئاسته، وهو ما اتضح ابتداءً خلال حملته الانتخابية وأكده بعد الإعلان رسميًا عن فوزه، حين قال في تصريح رسمي له للتلفزيون الرسمي لإيران: “سنمد يد الصداقة للجميع، نحن جميعنا شعب هذا البلد، علينا الاستعانة بالجميع من أجل تقدم البلد”.
وفي منشور له على منصة إكس كتب يقول: “أمد يدي إليكم ولن أتخلى عنكم وأسألكم أيضًا أن تكونوا إلى جانبي”، وأضاف: “أمامنا طريق صعب ولا يمكن تجاوزه إلا بتعاطفكم وثقتكم وتعاونكم”.
كما طمأن أنصار خصمه المحافظ سعيد جليلي، بأن الجميع متساوون أمامه، وذلك في كلمة له عند ضريح الخميني أمام حشد من أنصاره والناشطين في حملته الانتخابية، وأضاف “أمامنا اختبار عظيم، اختبار اجتياز إيران الصعوبات والتحديات والأزمات وامتحان خفض المخاوف المتعددة لدى الشعب لأجل حياة أفضل”.
ركز بزشكيان أيضًا في كلمته على تماسك الجبهة الداخلية وتخفيف حدة التوتر والانقسامات، وفتح الباب أمام الجميع للتشارك والتحاور، موجهًا خطابه لمن رفضوا المشاركة في الانتخابات قائلًا إن الوقت الآن “للاستماع إليكم ورؤيتكم”، منوهًا إلى أن “اليوم هو زمن الحوار لأجل إيران والحكومة المنتخبة، والسلطات يجب أن تعلم ماذا تريدون ولماذا لم تشاركوا”، وأن “الوقت حان لإخراج الأحقاد من القلوب والتكاتف والنظر إلى مستقبل أفضل”، مشددًا على أنه سيعمل على إجراء الإصلاحات في البلاد.
يرى مراقبون أن عودة الإصلاحيين للمشهد قد تشهد تغيرات ملموسة في مسار الحريات السياسية والاجتماعية، في محاولة لعلاج الآثار السلبية المترتبة على سياسات المحافظين الرامية إلى تقييد الحريات وكبت الآراء وملاحقة أصحاب الرأي.
ويميل أنصار الرئيس الإصلاحي إلى لجوء بزشكيان لفتح صفحة جديدة بين السلطة الحاكمة والشعب الإيراني خلال الفترة القادمة، يهدف من خلالها إلى تعظيم تماسك الجبهة الداخلية التي تعرضت لضربات موجعة خلال ولاية رئيسي وما قبلها.
الانفتاح والتوازن
كعادة الإصلاحيين فإنهم أكثر انفتاحًا على الجميع مقارنة بالمحافظين، لذا يتوقع أن يعمل بزشكيان مع فريق عمله على إحداث التوازن النسبي في علاقات طهران مع المعسكرين: الشرقي والغربي على حد سواء، وتكثيف الجهود الدبلوماسية لتخفيف حدة التوتر.
كما سيحاول فتح صفحة جديدة في العلاقات مع واشنطن، ولا يستبعد الانخراط مبكرًا في مفاوضات مع الجانب الأمريكي، في محاولة لرفع العقوبات المفروضة على طهران، من أجل التمهيد لحلحلة الملف النووي والتوصل إلى أرضية مشتركة تحقق طموحات الإيرانيين وفي نفس الوقت لا تصطدم بالإدارة الأمريكية ولا المجتمع الغربي.
يضاف إلى ذلك، إعادة تقييم العلاقات مع دول أوروبا في محاولة لتعزيز الجيد منها وترميم المشوه، بما يخفف من الضغوط الاقتصادية والسياسية التي تتعرض لها طهران جراء علاقاتها الصدامية مع المجتمع الغربي الرافض لسياسة الملالي المتشددة ومخطط توسعة النفوذ الإقليمي.
بخصوص القضية الفلسطينية يتوقع ألا تتغير السياسة الإيرانية إزاء هذا الملف تحديدًا، خاصة أنه يقع ضمن الملفات الموكولة للمرشد الأعلى والجهات الأمنية السيادية، وعليه من المستبعد أن يحدث أي تعديل أو إرباك في أداء محور المقاومة وتوظيف طهران لأذرعها لخدمة أجندتها التي تعتمد في جزء كبير منها على إرباك “إسرائيل” وتفتيت قوتها من خلال أدواتها في المنطقة.
تحديات بالجملة على رأسها الصدام مع المحافظين
بداية، فإن فوز الإصلاحيين في الانتخابات المبكرة يعكس حزمة من المؤشرات على رأسها فقدان سيطرة المحافظين على الشارع الذي اكتشف دوره وتأثيره في إحداث التغيير بعد سنوات من وهم الرضوخ، وهي الورقة التي لم يُعمل حسابها في الماراثون الأخير، ولن تمر مرور الكرام خلال المرحلة المقبلة.
جزء كبير من الصدمة التي تعرض لها المحافظون كانت بسبب الفشل في التعاطي مع التحديات الداخلية، الأمنية والاقتصادية والسياسية والحقوقية، وهو الملف الذي غيبه المحافظون عن دوائر الاهتمام بسبب الانشغال بترسيخ أركان حكمهم والتعامل مع الملفات الخارجية الساخنة، ليدفعوا ثمنه اليوم غاليًا.
ويمكن القول إن فوز الإصلاحيين سيخلق أزمة جديدة في الداخل الإيراني، تعرف باسم “ثنائية الحكم” بين مؤسسة الرئاسة الإصلاحية من جانب والمرشد الأصولي المحافظ ولجانه من جانب آخر، رئيس إصلاحي تحت سيطرة المرشد، وفي ظل البون الشاسع بين الجبهتين في المواقف والرؤى فيتوقع تعاظم الجفوة بينهما، وهو ما سيكون له انعكاساته على الأداء العام داخليًا وخارجيًا.
الملف الاقتصادي قد يكون هو الآخر أحد أبرز التحديات بين الإصلاحيين والمحافظين، حيث يرى الأول ضرورة العمل على تحسين صورة الدولة وتعديل ترتيبها في مؤشرات الشفافية من خلال بعض الإجراءات مثل الانضمام لمجموعة العمل المالي الدولي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بما يقود نحو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وهو ما لا يروق للمحافظين المتورطين في شبكة علاقات مالية غير قانونية مع أذرعها في لبنان واليمن وسوريا كإحدى استراتيجيات التحايل على العقوبات المفروضة عليها، ما قد ينذر بصدام محتمل بين الطرفين.
كما أن احتمالية الصدام بين الخارجية الإصلاحية والحرس الثوري الإيراني واردة، كذلك مع البرلمان، وهو الصدام الذي غاب عن المشهد خلال حكم المحافظين، حيث يُتوقع أن يتكرر سيناريو “روحاني-ظريف”، في إشارة إلى تدخلات الحرس الثوري في تنفيذ السياسة الخارجية لإيران المنوطة بجهات الدبلوماسية، وهو ما يتسبب في إحداث فوضى وتداخل في الصلاحيات ومن ثم ارتباك في النتائج والتداعيات.
وكذلك هيمنة المؤسسات الأصولية على بعض الملفات ومنها الملف الأمني قد يقود إلى صدام مبكر مع المؤسسة الرئاسية الإصلاحية في استراتيجية التعامل مع الشارع، أمنيًا وحقوقيًا، لا سيما بعدما لقن المحافظين درسًا قاسيًا حين نزل واختار بزشكيان وأطاح بكل الضغوط الممارسة عليه.
في الأخير، فإن إيران بفوز بزشكيان تتجاوز نسبيًا سلطة المحافظين المطلقة، وتعيد التوازن إلى حد ما للمشهد الداخلي، لكنه التوازن الذي ما زال يمنح المرشد ولجانه وأذرعه الأفضلية، ما يُجبر الرئيس الإصلاحي على المرونة والتمسك بخيط رضا المحافظين لتسيير الأمور دون تعقيد أو صدام، لكن يبقى سمك وحجم هذا الخيط هو الفيصل في رسم ملامح إيران خلال المرحلة المقبلة.. فهل يترك المحافظون خصمهم الإصلاحي ينجح فيما فشلوا فيه؟