لماذا يرفض البعض فكرة الوظيفة التقليدية؟

a9d7070f6779bd23cd9b9806fd7ea4f3

“المشكلة في العمل، ولا أقصد العمل المستقل، هو أنه عليك أن تنهض يوميًا لتقوم بشيء لا ترغبه، بالإضافة إلى تلقيك للكثير من الأوامر.. وأنت تدري أنك تستطيع أن تفعل أفضل من ذلك، لكن في الحقيقة أنت لست أكثر من عبد، ولست أفضل من الفأر الذي يركض على العجلة، وقد تعتقد لوهلة أن الفأر يحب الركض وأن هذا اختياره، ولكن لا تنسى أنه لا زال يركض في قفص، ولن يكون سوى مجرد فأر ما لم يخرج من هذا القفص”، هذا ما قاله الكاتب البريطاني، روبرت بلاك، عن منظومة العمل.

ازدهرت الثورة الصناعية في القرن العشرين، وازدادت الحاجة إلى الأيدي العاملة، فتوجه الكثيرون إلى العمل، وتأسست النقابات العمالية والمنظمات والحركات التي تدافع عن حقوق الطبقة العاملة، كما ظهرت الضرائب المالية التي تستقطع مبلغ معين من الراتب الوظيفي، وغيرها من الالتزامات الأخرى التي جعلت العامل يركض في حلقة مفرغة من المصروفات والديون؛ محاولًا أن يفك قيوده من هذه الضغوط المادية عبر العمل لساعاتٍ أطول.

يعلم كل من يملك وظيفة أن يومه لن يخلو من الاجتماعات والمهمات التي عليه إنجازه في وقت محدد، والصراعات الروتينية التي قد تنتهي في نهاية دوامه، لكن تأثيرها سيبقى معه مطلقًا، فلقد وجدت الدراسات أن هناك علاقة بين ضغوط العمل ومتطلبات الوظيفة، وبين المشاكل الصحية التي يشكو منها العاملين، وهذا ما يجعل البعض يتمرد على السياسات الوظيفية التي تولد المزيد من الاضطرابات النفسية لديه.

إن كانت البطالة بهذه الخطورة، لماذا يتمرد البعض الآخر على الوظيفة التقليدية؟

في الجهة الأخرى، توقعت منظمة العمل الدولية العام الماضي، أن يصل عدد العاطلين عن العمل إلى 201 مليون شخص، بالجانب إلى 2 مليون إضافيين في عام 2018، وأوضحت أن نصفهم يبحثون عن عمل لأشهر طويلة دون جدوى، وبينت أن عددًا كبيرًا من العاملين لم تتحسن أوضاعهم الاقتصادية وما زالوا يعانون من الفقر، وحذرت من عواقب البطالة التي قد تبتلع اقتصادات الدول، فإن كانت البطالة بهذه الخطورة، لماذا يتمرد البعض الآخر على الوظيفة التقليدية؟ ولماذا ينخرط البعض في هذا النظام العالمي بالرغم من تناقضه مع قناعاته؟

اللوم يقع على الرأسمالية

بعد الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ العديد من الناشطين في المنظمات المدنية والاجتماعية ينتقدون الرأسمالية الصناعية المتنامية، إذ سميت هذه التطورات الاقتصادية بـ”عبودية الأجور أو المال”، وذلك بناءً على المفهوم الطبقي الذي يفرضه هذا الكيان الاقتصادي والذي يقسم الفئات الاجتماعية إلى مجموعة محدودة من أصحاب الأملاك ومجموعة أخرى من المحرومين من وسائل الاستقلال المادي الذاتي، فبتالي يرغمهم على طاعة المجموعة الأولى، وبمعنى أكثر حداثة يمنحهم فرصة العمل لديهم ضمن شروط وصلاحيات معينة.

يرى البعض الآخر أنه لا وجود للعبودية في هذا النظام الاقتصادي، والسبب أن العامل يتلقى مالًا مقابل مقدار وجودة العمل الذي يقدمه، وكلما زادت مهارته وبراعته ومساهمته في مجال ما، كلما ازدادت فرص ثرائه

تقول الأصوات المعارضة لفكرة الوظيفة، إن السلم الهرمي في أماكن العمل والتي يفرضها صاحب العمل هي شكل من أشكال العبودية، التي تجبر العامل على العمل وفق متطلبات كل وظيفة ومراقبة كلامه وأفعاله ونشاطاته على منصات التواصل الاجتماعي على مدار الساعة حتى يبني شخصية مهنية متناسبة مع متطلبات سوق العمل الحالي ومتوافقة مع توقعات صاحب العمل، والاستجابة لهذه المطالب يستهلك نشاط الشخص ويلغي اهتماماته الأخرى إلى أن تهيمن الوظيفة على باقي جوانب حياته الشخصية وتقلص حريته تدريجيًا مع زيادة هذه القيود.

وهذا ما حاربته الماركسية التي رأت أن طبيعة الإنسان وقدراته تتعارض مع سياسات الأنظمة المادية التي تلغي بصمة الإنسان وتخلق منه نسخًا مكررة تعمل من أجل مصالح الآخرين، كما آمنت بإن الإنسان يختلف عن الكائنات الأخرى بقدرته على الإبداع والابتكار والإنتاج ولولا هذه الميزة لأصبح الإنسان أشبه بالحيوان الذي لا يرى أبعد من حاجاته الغريزية.

كما يعد ربط المكانة الاجتماعية بالمنصب الوظيفي، شكل جديد من العبودية التي تضع الموظف في سباقٍ لا نهاية له؛ محاولًا تحسين وضعه المادي من أجل أن يحصل على اهتمام واحترام المجتمع الذي يضع المبادئ الأخلاقية والقناعات الشخصية في المرتبة الثانية بعد المال والثروة.

إذا أراد شخص أن يقدم بعض التنازلات أو الخدمات من أجل عائلته، هل يصبح مستعبدًا عاطفيًا؟؛ فالأمر ليس بهذا الشر الذي يبدو عليه، فهي أشبه بعلاقة تبادلية

ومن ناحية أخرى، يرى البعض أن لا وجود للعبودية في هذا النظام الاقتصادي، والسبب أن العامل يتلقى مالًا مقابل مقدار وجودة العمل الذي يقدمه، وكلما زادت مهارته وبراعته ومساهمته في مجال ما، كلما ازدادت فرص ثرائه، وذلك ما ينطبق على رجال العالم الأثرياء مثل بيل غيتس وغيره الذين أحسنوا استخدام مؤهلاتهم وازدادوا ثراء ونجاحًا.

ويرفض آخرون هذه الفكرة من أساسها، ويرون أنها تعاريف معقدة، فإذا أراد شخص أن يقدم بعض التنازلات أو الخدمات من أجل عائلته، هل يصبح مستعبد عاطفيًا؟؛ فالأمر ليس بهذا الشر الذي يبدو عليه، فهي أشبه بعلاقة تبادلية، لا سيما أنه من شبه المستحيل أن ينزوي الشخص بعيدًا عن هذه المنظومة إلا إذا رغب في العمل الحر أو المستقل.

ختامًا، كتب عباس محمود العقاد عام 1907 مقالاً باسم “عبودية القرن الواحد وعشرين” وروى قصة استقالته من وظيفته الحكومية لأنه لم يتقبل الظروف التي يعمل به الموظف من طاعة الأوامر وتقبل السخرية، وعدم قدرته على التحرك أبعد من حدود التعليمات الوظيفية، خاصة أن هذه الوظيفة كانت الباب المستقبلي الوحيد له، لكنه عبر في النهاية عن سعادته وعدم ندمه من التحرر من الوظيفة، لكن يقال بأنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، فهل استطاع فعلًا بأن يتمتع بحريته من عبودية العمل؟