ترجمة حفصة جودة
يسألني: “هل ما زلت تعيش في غزة”، فأجيبه: “وأين ينبغي أن أعيش؟”، هذه المحادثة تجري في كل مرة أتحدث فيها مع صديقي الفلسطيني الذي يعيش في فرنسا، الحياة في غزة أصبحت صعبة للغاية وتزداد سوءًا حتى نعتقد أن الوضع أصبح غير محتمل، ثم تزداد سوءًا أكثر.
وفقًا للبنك الدولي، وصلت نسبة البطالة في غزة إلى 58% عام 2016، ونحو 80% من أهل القطاع الذين يبلغ عددهم مليوني يعيشون على المساعدات، كانت الأمم المتحدة قد حذرت من انهيار وشيك للقطاع، ورغم اتفاقية المصالحة التي تمت في الخريف، فإن التوتر بين حركتي حماس وفتح ما زال مستمرًا، وفي هذا الشهر يبدو أنه كان هناك محاولة اغتيال لرئيس الوزارء الفلسطيني في أثناء سفره إلى غزة، وألقى قادة حركة فتح باللوم على حركة حماس في هذه الحادثة.
يقول صديقي: “يجب أن تكون راغبًا في الرحيل”، عندما تفقد السيطرة على كثير من الأشياء الأساسية تشعر كأنك ترغب في الاستسلام وأن تودع بلدك وماضيك وتنسى فلسطين، لكن المشكلة هنا أن فلسطين لن تدعك ترحل.
حتى ألمع الطلبة وأذكاهم أصبحوا عاطلين عن العمل
درس أخي الأصغر إبراهيم الأدب الإنجليزي فكان يتمنى أن يصبح معلمًا، والآن مرت 9 سنوات منذ تخرجه ولم يجد وظيفة في التعليم، لذا عمل مؤخرًا في إصلاح أجهزة التلفاز بعد أن حاول العمل في الصحافة والترجمة والصرافة في محلات البقالة، يقضي أخي معظم اليوم في إصلاح أطباق الأقمار الصناعية للزبائن في مخيم جباليا حيث نشأت أنا وهو وأشقاؤنا الثمانية الآخرون وحيث تعيش معظم عائلتنا الآن، يقول أخي: “إنه أفضل من لا شيء”، وهذا ما يقوله جميع الناس هنا.
أما أنا فأدّرس العلوم السياسة في جامعة الأزهر، وفي محاضرتي التمهيدية غالبًا ما يكون هناك 200 طالب، عندما أسألهم ماذا يريدون بعد التخرج، يجيبون: لا شيء، وعندما أقابل طلابي السابقين بعد سنوات من التخرج وأسألهم عن أحوالهم وإلى أين وصلوا يأتيني الجواب “لا شيء”، حتى ألمع الطلبة وأذكاهم أصبحوا عاطلين عن العمل.
أحد طلابي الحاليّين ذكي للغاية، وفي أي مكان آخر غير هنا كان ليصبح في وظيفة أكاديمية مرموقة، ولكي يفعل ذلك ينبغي عليه أن يقدم الأبحاث ويراسل الجامعات في الخارج، وبعد ذلك لن يتمكن من الرحيل أيضًا، فيقول: “سوف أتعفن هنا في غزة”، كان هذا الطالب قد حاول الرحيل من قبل بشكل قانوني عبر معبر رفح ليدخل إلى مصر لكن المعبر كان مغلقًا معظم الوقت، وفي العام الماضي عندما فتحوه لمدة 30 يومًا لم يكن اسمه في القائمة القصيرة التي سمحوا لها بالدخول (في شهر فبراير سمحوا لنحو 600 شخص بالعبور لكن معظمهم من المرضى).
مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة
أما المخرج الآخر فهو عبر معبر إيرز “بيت حانون” ومنه إلى “إسرائيل” ثم إلى الأردن، لكن هذا الطريق أصعب من رفح فهو بحاجة لعدة تصاريح، فحتى وقت قريب ينبغي أن تحصل على موافقة حكومة حماس أولاً ثم موافقة “إسرائيل” ثم الأردن، لكن طالبي لم يتمكن حتى من الحصول على التصريح الأول من حكومة حماس، ويسألني مازحًا: “هل أغادرها في قارب؟” يقوم الجيش الإسرائيلي بدوريات في المياه قبالة شاطئ غزة بالقرب من اليابسة كثيرا، ويعلم طالبي أن لا أمامه سوى الانتظار ومثل البقية سوف يتأقلم مع قدره هنا.
ما يساعدنا على تحمل الحياة هنا مشهد غروب الشمس عند شاطئ غزة، لكن العام الماضي كان أول عام في حياتي بأكملها – حيث أبلغ من العمر 45 عامًا – لا أسبح فيه، ما زالت الأمواج جميلة من بعيد ومشهد الصيادين في الصباح الباكر ما زال رائعًا، لكن النزول في المياه الآن يعني السباحة في بحر خام من القاذورات، فشبكة الصرف الصحي في غزة لا تعمل بشكل صحيح نتيجة لعقود من الحصار الإسرائيلي لغزة، فتدمرت البنية التحتية ولم يعد لدينا كهرباء كافية، يعد التلوث خطرًا صحيًا كبيرًا فيما يقارب 73% من ساحل غزة، ويخبرني جاري وصديقي أبو أسيل الذي يملك مقهى على الكورنيش أن عدد الزبائن يتناقص يوميًا.
يبدو ما أقوله وكأنه قصة قديمة، لكن الوضع لم يتحسن منذ فترة طويلة ولم يعد بالإمكان أن نفعل شيء سوى انتظار الأسوأ، كانت جدتي لأبي – عائشة – قد طُردت من يافا في النكبة عام 1948، ومنذ ذلك الحين عاشت 4 أجيال من عائلتنا كلاجئين في مخيم جباليا، وهذه القيود المفروضة على غزة تؤثر على جميع الأجيال التي عاشت هنا حتى الموتى.
إننا ننتمي لها وليس لأي مكان آخر، إننا ننتمي لفلسطين
كانت صديقتي الشاعرة دنيا إسماعيل تزور أقاربها في مصر عندما أصيب زوجها الناشط المشهور بسام الأقرع بأزمة قلبية حادة، لم تتمكن دنيا من العودة إلى غزة سريعًا حيث كان المعبر مغلقًا في هذا الاتجاه أيضًا، وكان عليها أن تودع زوجها بعد وفاته من خلال شاشة هاتف يحمله أحد أبنائه.
أتذكر بسام منذ نشأتنا معًا؛ حيث كان أفضل لاعب كرة في مخيمنا وكنا نعتبره مارادونا أو ميسي، كان بسام بطلنا وكان وقت اللعب حدثًا عظيمًا، كنا نلعب في ساحة ترابية خلف السوق، لكن السوق تجاوزها الآن وأصبحت جزءًا منه وكذلك بساتين البرتقال المجاورة.
في إحدى الأيام كنت أقود السيارة في حي الرمال في الجزء الغربي من المدينة مع أبنائي الخمسة، فجأة صرخت يافا – 5 سنوات؛ وسميتها تيمنًا باسم مدينة جدتي عائشة -: “أبي أبي.. بيتزا بيتزا”، كانت تشير إلى إحدى المحلات على الجانب الآخر من الطريق، لم تكن جائعة لكنها رأت صورة البيتزا على الواجهة فتذكرت أحد أفلام الكارتون التي تحبها، كنت سعيدًا بها وهي تربط بين الكلمة والصورة، وتذكرت في أثناء حرب غزة 2014 عندما كانت يافا تبلغ من العمر 18 شهرًا فقط وكانت تحاول أن تتحدث بكلمات جديدة، وفي إحدى الليالي جلست في فراشها وأشارت إلى السماء المظلمة وقالت: “قمر”.
يختلف الأطفال كثيرًا عن البالغين، إنهم يستطيعون الوصول إلى المرح في كل شيء، كانت جدتي عائشة لتبتسم عندما تشاهد حفيدتها الرائعة يافا التي رغم تحليق الطائرات فوقها واصطفاف السفن الحربية في الأفق أمامها ورغم الخلافات السياسية المستمرة بين القادة؛ صرخت عبر النافذة بسبب شريحة من البيتزا تذكرها بأحد أفلام الكارتون.
هذا الأمل الذي تملكه يافا هو ما يجعلني أبقى في غزة، إننا ننتمي لها وليس لأي مكان آخر، إننا ننتمي لفلسطين.
المصدر: نيويورك تايمز