من بين 55 دولة أعضاء بالاتحاد الإفريقي وقعت 50 منهم على تطبيق اتفاقية إنشاء منطقة التجارة الإفريقية الحرة، وبرتوكول حرية التنقل للأفراد والبضائع، بين دول القارة السمراء، وذلك خلال القمّة الإفريقية الاستثنائية التي عقدت بالعاصمة الرواندية كيغالي، أمس الأربعاء، وشهدت توقيع رؤساء الدول والحكومات على الاتفاقية.
تفاؤل مشوب بالحذر مع إعلان بدء التطبيق الفعلي للاتفاقية الموقعة قبل ثلاثة أعوام بمدينة شرم الشيخ المصرية، بين من يراها الفرصة الأخيرة لإنقاذ دول القارة من براثن الفقر والجوع، وآخرين يتخوفون من انعكاسات الصراعات الداخلية على فرص نجاحها، فيما طرح فريق ثالث تساؤلاً تفوح من بين ثناياه رائحة القلق: هل تسمح القوى الدولية بترجمة بنود هذه الاتفاقية على أرض الواقع؟ وبمعنى آخر: هل تقبل الدول المستعمرة قديمًا للقارة السمراء بالاستقلالية الاقتصادية؟
أمل القارة الأخير
في الـ10 من يونيو/حزيران 2015، وقعت 26 دولة إفريقية (مصر، السودان، ليبيا، جنوب إفريقيا، أنغولا، مدغشقر، سيشل، موريشيوس، مالاوي، جزر القمر، تنزانيا، بوروندي، رواندا، أوغندا، كينيا، الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا، إريتريا، جيبوتي، ليسوتو، ناميبيا، بتسوانا، موزمبيق، سوازيلاند، زمبابوي، زامبيا) على البنود الأولى لإنشاء اتفاقية منطقة التجارة الحرة الإفريقية – التي أطلق عليها (الاتفاقية الثلاثية لمنطقة التجارة الحرة تفتا TFTA )- في أثناء قمة عقدت في شرم الشيخ بمصر، بهدف تكوين أكبر تجمع اقتصادي للتجارة الحرة في إفريقيا تمتد من كيپ تاون جنوبًا إلى القاهرة شمالاً، يسهل حركة السلع في الدول الأعضاء التي تشكل أكثر من نصف الناتج القومي للقارة.
الاتفاقية اعتمدت على إدماج ثلاث كيانات اقتصادية إفريقية ضمن كيان واحد شامل يضم أكثر من ستمئة مليون شخص، وتلك الكيانات هي “مجموعة تنمية إفريقيا الجنوبية” و”مجموعة شرق إفريقيا” و”السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا” (الكومسا)، وقد تم الاتفاق على بدء التطبيق الفعلي لهذه الاتفاقية في غضون 3 سنوات.
تستطيع الاتفاقية خلق سوق إفريقية تضم أكثر من 1.2 مليار شخص، بناتج محلي إجمالي يصل إلى 2.5 تريليون دولار
وبالأمس وفي العاصمة كيغالي تم إعلان رسميًا بدء تطبيق الاتفاقية ليرتفع عدد الدول الموقعة عليها من 26 دولة في 2015 إلى 50 دولة من إجمالي 55 دولة أعضاء بالاتحاد الإفريقي، فيما امتنعت كل من نيجيريا وإريتريا وغينيا بيساو وبورندي وسيراليون، عن التوقيع.
نيجيريا وفي بيان رسمي لها الأحد الماضي، أعلنت انسحابها من الاتفاقية التي وافق عليها مجلس الوزراء النيجيري، حيث قال البيان: “لن يسافر الرئيس (محمدو بخاري) إلى كيغالي لحضور القمة؛ لأن بعض الأطراف المعنية في نيجيريا أشاروا إلى أنه لم تتم استشارتهم، ومن ثم فإن لديهم بعض المخاوف بشأن شروط الاتفاقية”، دون مزيد من التوضيح، فيما تبقى أسباب رفض الدول الأخرى الانضمام للاتفاقية غامضة حتى كتابة هذه السطور.
26 دولة وقعت على المبادئ الأولى للاتفاقية في شرم الشيخ 2015
فرصة تاريخية
معدلات التنمية التي شهدتها بعض الدول الإفريقية خلال السنوات الأخيرة وقاربت في بعض الأحيان 5% دفعت بعض المحللين إلى تصعيد مستوى تفاؤلهم حيال ما يمكن أن تلعبه هذه الاتفاقية من دعم لقطار التنمية داخل القارة، فيقول كالستوس جوما، وهو أكاديمي كيني إن ذلك التحرك “مثير للغاية” للقارة، لأن الاتفاقية عند تطبيقها سترفع التجارة البينية في القارة من 12% إلى 30%، وقال جوما إن 70% من تجارة القارة الآن تتم في أوروبا.
وأضاف “عند وجود أسواق ستتوفر إمكانية تصنيع منتجات بتكلفة أكثر فاعلية وربحية، فعلى سبيل المثال لا يمكنك استثمار 200 مليون دولار لإنشاء مصنع أدوية عندما ستبيع إنتاجه في دولة واحدة”، مضيفًا “بمجرد أن تنتبه البنوك إلى إمكانية إقراض المستثمرين الكبار، في التصنيع على سبيل المثال، فإن هذا سيؤدي إلى تحرير قطاع التمويل، ويوفر المزيد من الوصول إلى مصادر التمويل ودخول المزيد من المستثمرين إلى القارة”.
الاتفاقية اعتمدت على إدماج ثلاث كيانات اقتصادية إفريقية ضمن كيان واحد شامل يضم أكثر من ستمئة مليون شخص
وتستطيع الاتفاقية خلق سوق إفريقية تضم أكثر من 1.2 مليار شخص، بناتج محلي إجمالي يصل إلى 2.5 تريليون دولار، بحسب الاتحاد الإفريقي، كما ستلغى منطقة التجارة الإفريقية الحرة التعريفة الجمركية تدريجيًا على التجارة بين الدول الأعضاء بالاتحاد؛ مما سيجعل التجارة أسهل بالنسبة للشركات الإفريقية في القارة.
الاتفاقية من حيث أهميتها تتفوق كثيرًا على نظيراتها في الدول العربية على سبيل المثال، وهذا ما يفسر ضعف الجامعة العربية مقارنة بالتكتلات الاقتصادية الإفريقية، إذ إنها تعتبر سوقًا كبيرًا جدًا، فضلاً عن كونها مناسبة لدول المنطقة الأعضاء فيها بشتى مستوياتهم المتقاربة، ما يزيد من فرص نجاحها.
البعض طالب لإنجاح منطقة التجارة الحرة بضرورة إجراء تسهيلات لإزالة الحواجز الجمركية حتى تتمكن تلك الدول من التعامل مستقبلاً مع منظمة التجارة وتنافس على المستوى العالمي، هذا بخلاف الالتزامات الواجبة على الدول الأعضاء بأن تجود منتجاتها وتخفض أسعارها.
تحديات وعراقيل
رغم ما تمثله الاتفاقية من فرصة تاريخية لدول القارة للخروج من شرنقة الاقتصاد المتردي الذي دفع الكثير من الدول إلى تذيل قائمة العالم من حيث المستويات المعيشية وتصدرها فقرًا ومرضًا وبؤسًا، غير أن حزمة من التحديات ربما لا تخرج بنود الاتفاقية عن الورق الذي كتبت عليه دون أن ترى النور على أرض الواقع.
التحدي الأول الذي أثار قلق الخبراء الاقتصاديين يتمثل في الصراعات الداخلية في القارة التي ربما تمثل أول مسمار في نعش الاتفاقية، بحسب ما أكد عليه القيادي بحزب المؤتمر السودني الدكتور ربيع عبد العاطي، في حديثه لـ”سبوتنيك“، حين أشار إلى أن “منطقة التجارة الإفريقية الحرة خطوة في الاتجاه الصحيح، ويمكن لهذه الخطوة أن تؤتي ثمارها إذا بذل الاتحاد الإفريقي جهدًا للقضاء على النزاعات في القارة الإفريقية، وتلك من أكثر العوامل التي تعيق عملية التبادل التجاري واستغلال الموارد وحركة السكان والبضائع”.
وتابع “إذا تزامن هذا التوقيع مع جهد جاد من الاتحاد الإفريقي لفض المنازعات وإقرار السلام، فإن ذلك سيسهم في إنعاش التجارة وأن تصبح تلك المنطقة الحرة إنجازًا كبيرًا جدًا، وفي اعتقادي أن السلام يمكن أن يسود في ربوع القارة ولدينا رواندا أكبر مثال على ذلك، ولو سارت الدول الإفريقية على نفس المنوال فإنها ستكون خطوة في الاتجاة الصحيح، فقارة إفريقيا تمتلك من الثروات الطبيعية ما لا يتوفر في أي مكان آخر في العالم”.
الصراعات الداخلية والتبعية السياسية أبرز ما يعيق إنشاء منطقة تجارة حرة إفريقيًا
التحدي الأول الذي أثار قلق الخبراء الاقتصاديين يتمثل في الصراعات الداخلية في القارة التي ربما تمثل أول مسمار في نعش الاتفاقية
التحدي الثاني الذي يؤرق مضاجع المتفائلين بالاتفاقية ودورها في إنقاذ القارة من براثن الفقر والجوع والاستبدادية، يتمثل في رغبة القوى الدولية في إبقاء دول إفريقيا على ما هي عليه، دون تنمية أو تطور، وهو ما يخدم مصالحها وأهدافها التوسعية الاستعمارية.
وإن كانت اتفاقات التعاون الإفريقي سواء كانت اقتصادية أم ثقافية أم سياسية أم اجتماعية تدفع في اتجاه التبادل المعرفي الإفريقي، إلا أن معظم أسواقها تابعة لأسواق رأسمالية عالمية خارجية، وخاضعة لسيطرة قوانين العولمة ومبادئها ومواقفها، وهو ما دفع البعض للتشكيك في قدرة دول إفريقيا الحاليّة على إحياء التكتلات المستقلة القديمة مثل مجموعة الدار البيضاء ومجموعة الـ77 ومجموعة الـ15 في عدم الانحياز.
الدول التنموية في أغلبها تكون السياسة فيها المتحكم في كل المؤشرات الأخرى، فلا اقتصاد دون سياسة، ولا استقلالية اقتصادية في ظل تبعية سياسية، ومن ثم فإن بقاء أنظمة إفريقية بأكملها أسيرة القرار السياسي في واشنطن أو باريس أو لندن، يجعل من نجاح الاتفاقية أمرًا غاية في الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً ما لم تتوفر الإرادة السياسية لدى حكومات تلك الدول، لتبقى هذه الخطوة – أيًا كانت سيناريوهات تنفيذها – حجرًا يحرك المياه الراكدة في بحيرة إفريقيا الاقتصادية ودفعة مهمة نحو التكامل والتعاون الإفريقي.