ترجمة وتحرير: نون بوست
هناك شيء مهيب ومخيف بشأن عيد الميلاد، فمن ناحية، هناك توقعات مرهقة للتجمعات العائلية وطقوس الهدايا التي تجعل من يرفض الاحتفال يبدو غريبًا ومنبوذًا.
بالنسبة لعائلتي، أصبح عيد الميلاد بمثابة معرض ضخم؛ حيث يتم تقييم كل أفراد الأسرة بناءً على الهدايا المقدمة على مذبح هذا العرض الاستهلاكي المبالغ فيه.
وفي السنوات الأخيرة، خاصة منذ صعود ترامب إلى السلطة في سنة 2016، تحول عيد الميلاد إلى ساحة معركة يجب على المرء فيها المناورة بحذر أو المخاطرة بأن يصبح هدفًا لرسائل اليمين المتطرف التي تنتهي عادةً بمشادات قبيحة وقطع مؤقت للعلاقات العائلية.
بعد 7 من تشرين الأول/أكتوبر، قررتُ التغيب عن تجمّع عيد الميلاد السنوي في كاليفورنيا. واكتشفت أن أحد أفراد عائلتي، وهو مصري تحول إلى الإنجيلية، قد نشر على حسابه على وسائل التواصل الاجتماعي جملة ” أنا أقف مع إسرائيل”.
أخبرني أبناء عمي لاحقًا أن محادثة حول هذا الموضوع مع هذا الفرد من العائلة انتهت بفيضانٍ من كراهية الأجانب ونظريات حول نشأة المسيح والمعركة الفاصلة في الأرض المقدسة التي ستؤدي إلى المجيء الثاني ليسوع.
كنت مستاءً، وكانت الأسابيع الأولى من الحرب شاقة للمراقبين القدامى للصراع الإسرائيلي الفلسطيني: التحيز الإعلامي الفاضح في التغطية؛ وإسكات الأصوات المؤيدة لفلسطين؛ وتصوير العرب على أنهم مؤيدين لحماس أو الإرهاب.
إن الاستنزاف العاطفي من مشاهدة الفلسطينيين يُقتلون يوميًا بلا حول ولا قوة بينما يقف العالم مكتوف اليدين، جعلني غير قادر على مواجهة المشاعر المؤيدة لإسرائيل التي تبناها الأعضاء المحافظون في عائلتي.
فقاعة بيفرلي هيلز
أخرت عودتي إلى كاليفورنيا لأربعة أشهر، لكنني قررتُ أخيرًا العودة عندما دعتني جامعة جنوب كاليفورنيا لحضور مناقشة حول الأفلام في آذار/مارس – بعد فترة وجيزة من خطاب جوناثان غلازر في الأوسكار؛ حيث أدان الفائز بجائزة الأكاديمية استغلال المحرقة لتبرير أفعال إسرائيل في غزة.
وكان جنوب كاليفورنيا واحدًا من أكثر الأماكن التي شعرت فيها بالعزلة: مجموعة من المدن الشاطئية في ضواحي منعزلة عن بعضها البعض ولا تتشارك في أي مركز، فالأحياء المحيطة بهوليوود ووسط مدينة لوس أنجلوس تنبض بالحياة والثقافة بشكل أكبر، لكن عددًا قليلًا فقط من الأسر الميسورة تقيم هناك.
يوجد في كاليفورنيا أعلى نسبة من التشرد في أمريكا، وهي حقيقة غير مرئية لمعظم الأسر من الطبقة المتوسطة العليا الذين نادرًا ما يغادرون مجمعاتهم السكنية في الضواحي، كما أن الجزء الجنوبي من الولاية متطرف للغاية في الفصل العنصري، ومن الصعب ألا تلاحظ أن الغالبية العظمى من مستخدمي وسائل النقل العامة هم من ذوي البشرة الملونة.
ليس من المستغرب إذن أن بيفرلي هيلز – الحي المفضل لفاحشي الثراء – لا يمكن الوصول إليه بمعظم وسائل النقل العام، فالمنطقة أساسًا عبارة عن مساكن لهوليوود، وهي واحة صناعية محمية من الواقع الأكبر للولاية.
ويُعد مشهد الحي المغطى بالأعلام الإسرائيلية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر دليلًا على عزلة الأثرياء ليس فقط عن واقع العالم، بل عن أمريكا الجديدة نفسها.
تمثل بيفرلي هيلز تمثل الحمائية القديمة التي التزمت بقواعد الليبرالية المعتدلة الصارمة، التي لم تُصمم لتغيير النظام السياسي والاقتصادي الراكد بل للحفاظ عليه: نظام يتظاهر بأنه أكثر تقدمية مما هو عليه في الواقع بفضل سياسات النوع الاجتماعي الليبرالية المحسوبة والقبول المتزايد للتنوع العرقي.
إنه نظام فضحه حدثان من أكبر الأحداث في الثقافة الشعبية الأمريكية هذه السنة: خطاب جوناثان غلايزر في حفل الأوسكار، والمخيمات الاحتجاجية التي عمت البلاد لدعم الفلسطينيين في غزة.
هوليوود والتضامن مع فلسطين
سال الكثير من الحبر في وصف علاقة الحب طويلة الأمد بين هوليوود وإسرائيل، وملاحقة الأصوات المؤيدة لفلسطين بشدة في تينسلتاون.
لهذا السبب كانت خطاب غلايزر صادمًا للغاية: بيان قوي من مخرج سينمائي مشهور، والذي صادف أن يكون يهوديًا، وفيلمه الحائز على جائزة “المنطقة المثيرة للاهتمام” يدور حول المحرقة.
لم يكن الصادم هو الخطاب فقط ، بل ما تلاه من رسالة أولية موقعة من مجموعة من المواهب الأمريكية اليهودية التي أدانت غلايزر، وأعربت رسالة أخرى عن التضامن مع مخرج فيلم الوحش المثير ووصفت الحملة ضده بأنها “إلهاء خطبر” عن ارتفاع عدد القتلى في غزة.
وكان من بين الموقعين على الرسالة الأخيرة 500 شخص من كبار شخصيات هوليوود من بينهم خواكين فينيكس وإليوت جولد وتود هاينز وجويل كوين والعديد من كبار المدراء التنفيذيين.
وقد وصف توني كوشنر، أحد أشهر كتّاب المسرح في أمريكا وأحد المتعاونين الدائمين مع ستيفن سبيلبرغ، خطاب غلايزر بأنه “تصريح لا يقبل الشك ولا يمكن دحضه”، حتى إنه وصف أفعال إسرائيل في غزة بـ “التطهير العرقي” في مقابلة مع صحيفة هآرتس.
لم تتوقف مظاهر دعم فلسطين عند هذا الحد، فرغم حظر أي تصريحات سياسية، إلا أن العديد من الشخصيات البارزة استغلت الأضواء في مهرجان كان لإظهار دعم فلسطين بطريقة غير مباشرة، ومن بينهم بيلا حديد وكيت بلانشيت.
وقد بذل الممثل الكوميدي المصري الأمريكي الحائز على جائزة غولدن غلوب، رامي يوسف، جهودًا مستمرة لتسليط الضوء على الوضع في غزة؛ ولا يزال جون ستيوارت هو المقدم الوحيد لبرنامج حواري أمريكي الذي انتقد بشدة سياسة بايدن تجاه فلسطين.
ولأول مرة، جازفت بعض الأصوات في هوليوود ووقفت ضد التيار وأظهرت شجاعة أخلاقية لم تضاهيها السينما الأوروبية حتى الآن، باستثناء فرنسا.
فلسطين والقواعد الشعبية
هذا التضامن مع فلسطين ملموس أيضًا في أجزاء متفرقة من كاليفورنيا: من القسم الفلسطيني البارز في مكتبة “سكاي لايت” الشهيرة في لوس فيليز، وشعارات “فلسطين حرة” التي تزين المقاهي، إلى المنشورات المؤيدة لفلسطين التي يوزعها نشطاء في منتصف العمر في قاعات الموسيقى في لوس أنجلوس.
ومع ذلك، كانت المخيمات أكبر تجسيد لمشاعر التضامن المتزايدة مع فلسطين، فلقد حضرتُ مخيمات مختلفة في جميع أنحاء كاليفورنيا.
ولم يكن معظم الطلاب الذين تحدثتُ إليهم منخرطين في القضية الفلسطينية قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ وأكثرهم لم يكن على دراية بالواقع القاسي في غزة.
وقد اتصل الكثير منهم بممثليهم في مجلس الشيوخ ورؤساء البلديات للمطالبة بوقف إطلاق النار؛ لكن تم تجاهلهم جميعًا.
لم تحدث الاعتصامات من فراغ أو جاءت دون تخطيط، بل كانت ردًا متوقعًا على صمت كل من السياسيين ورؤساء الجامعات.
قبل حدوث الاحتجاجات في نهاية شهر نيسان/أبريل، كان الطلاب ينظمون محاضرات وندوات وعروض أفلام، على مدار عدة أشهر، كان الطلاب يتبادلون توصيات الكتب ويظهرون في برامج البودكاست ويحتجون ويدافعون عن ما يعتقدون أنه قضية عادلة.
وانقضى الجزء الأكبر من السنة الدراسية، لكن هذه الاحتجاجات لم تتوقف، ولا يزال جو الاعتصامات ملموسًا كما كان قبل شهر.
لم يحدث في التاريخ الأمريكي أن احتلت قضية عربية مركز الثقافة الأمريكية كما احتلت فلسطين مركز الثقافة الأمريكية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.
يرى الطلاب من خلفيات متنوعة أن فلسطين تمثل التقاء الكثير من القضايا التي حددت ملامح القرن العشرين: التداخل بين القضايا، وما بعد الاستعمار، والعدالة الاجتماعية. وقد كانت هذه القضايا تتسرب منذ فترة طويلة إلى السينما الأمريكية المستقلة.
الانقسامات داخل العائلة
من جهة أخرى؛ كانت عائلتي متناقضة للغاية تجاه كل ما يجري، فقد أخبرني أحد أحد أفرادها أن فلسطين مسألة لا لزوم لها وأن على أمريكا ألا تتدخل فيه، وقال آخر أن الأمر “صداع كبير جدًا” وأنهم يفضلون عدم التورط فيه..
أما أسوأ ما حدث فقد كان خلال تجمع عيد الفصح؛ حيث عبر أحد أفراد العائلة، الذي ما زال يؤمن بصحة القضية الفلسطينية، عن رفضه التام للاعتصامات، محتجًا ببعض الانتهاكات لتصوير صورة عامة عنيفة للاحتجاجات.
هذا الفرد من العائلة كان يعتقد أن على المحتجين أن يديروا خدهم الآخر، ويعيشوا دور الضحية بفخر، وكانوا مستائين من منظر عدد قليل من المحتجين الذين استبدلوا العلم الأمريكي بالعلم الفلسطيني “الحقير”، وهو تعليق تراجعوا عنه لاحقًا.
وهم يعتقدون أن قطع العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية يتعارض مع أسس النظام الرأسمالي، لكن أخلاقية هذا النظام لم تكن أبدًا جزءًا من النقاش، حيث أُهملت أعمال القتل التي تجيزها الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين أمام حادثة العلم الاستفزازية.
عائلتي طيبة القلب وتخاف الله، إنهم أناس يعملون بجد ليكونوا قدوة حسنة لأطفالهم، لكنني لطالما وجدت أن سياستهم مشكوك فيها من الناحية الأخلاقية.
فالفصيل المحافظ – وكلهم من أنصار ترامب – يؤمن بأن “الاستعمار ليس كله سيئ، لأنه جلب الكهرباء للبلدان الفقيرة” وأن الهجرة مشكلة، على الرغم من أنهم هم أنفسهم مهاجرون.
أما الجانب الليبرالي فمنشغل نسبيًا بالسياسة العرقية، فهم من المؤيدين المتحمسين لحركة “حياة السود مهمة” وضد كل ما يمثله ترامب، وما أظهره رد الفعل على المخيمات هو حدود هذا النوع المعتدل والعقيم من الليبرالية.
ومثل الكثيرين من أبناء طبقة ذوي الياقات البيضاء،فقد استفادت عائلتي من الرأسمالية – الحلم الأمريكي الذي سعى إليه آباؤهم- لذا فإن هناك حدودًا ملموسة لانتقاد الولايات المتحدة بالنسبة لأقاربي.
فموضوع الإمبريالية الأمريكية مسألة محظورة، وبدلًا من ذلك فإن القناعة الراسخة باستثنائية أمريكا يصوغ إيمان عائلتي في بلد يعتبرونه الأعظم في العالم، وتمثل المخيمات تهديدًا لهذا النظام: تحديًا شرعيًا لاستقامة أمريكا الأخلاقية.و بالنسبة لطبقة يرتبط وجودها الأساسي باستدامة هذا النظام، فإن العداء تجاه هذه الحركة الطلابية المتنامية ليس أمرًا مستغربًا على الإطلاق.
اللامبالاة كنقيض للمحبة
الجانب الأكثر إحباطًا في موقف عائلتي هو أنه يتناقض بسخرية مع معتقداتهم المسيحية، فقد كان يسوع، بعد كل شيء، متمردًا تحدى النظام السياسي في زمنه، والدفاع عن المضطهدين والمظلومين هو جزء أساسي من المسيحية.
أما بالنسبة للملايين مثلي ممن لا يعتنقون أي عقيدة معينة، فلطالما كانت فلسطين قضية ذات أخلاقية بطبيعتها في المقام الأول.
إن الدعم العلني لشعب قد نُهبت أرضه لعقود، وأطفاله يُقتلون كل يوم، ويُعاملون كالحيوانات من قبل أقوى جيش في الشرق الأوسط، هو الحد الأدنى لأي شخص يؤمن بضرورة العدالة العالمية.
كتب الروائي الأمريكي الراحل باري لوبيز في مجموعته القصصية “المقاومة” سنة 2005 أن “نقيض الحب ليس الكراهية؛ إنه اللامبالاة”.
توفر الديناميات الدينية المنظمة لمعتنقيها وسيلة لتجنب القضايا الشائكة التي تتطلب الشجاعة؛ حيث إن تقديم المال للجمعيات الخيرية المجهولة الهوية لدعم أولئك الموجودين في الأراضي البعيدة يوفر رضا أخلاقيًا عن الذات رغم سطحيته.
لا يزال اللوبي المؤيد لإسرائيل – الذين تعهدوا بإنفاق الملايين للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة – قويًّا كما كان من قبل.
ولا يزال الوقوف أمام هذه القوى – سواء كانت مواهب هوليوود أو الطلاب المعتصمين – يمثل مخاطرة مهنية، فجميع النشطاء، سواء كانوا طلابًا أو نجومًا سينمائيين، لديهم ما يخسرونه إذا تحدثوا عن غزة.
لقد خذل الكثيرون الفلسطينيين: الأنظمة العربية، والحكومات الغربية، وقادة الأعمال، والمؤسسات الفنية، والهيئات الدينية، ولا تزال الشخصيات في الطبقات العليا من السلطة – في الفن والأعمال والسياسة – لا تعرف كيفية التعامل مع فلسطين، وتتخذ نفس الموقف الجبان وتتمسك بالأمل في أن تمر العاصفة.
غزة هي سنة 1968 بالنسبة لجيلنا؛ حركة تاريخية تحولية يقودها جيل متمرد يناضل من أجل سياسات أكثر عدلًا وأخلاقًا.
صانعو الأفلام مثل غلايزر يقاتلون على نفس الجبهة ولذات الهدف: زعزعة الطبقات العليا ومواجهتها بتبعاتها الأخلاقية لسلبيتها، وقد التقط فيلم “منطقة الاهتمام” – بالصدفة الغريبة – روح العصر.
لأشهر، كنت أخطط لمواجهة كبيرة مع أفراد العائلة الذين عبروا عن دعمهم لإسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكنني في النهاية تراجعت بسبب الخوف من إلحاق الضرر بعلاقتنا الهشة بالفعل، وفي الأشهر التي قضيتها في كاليفورنيا، لم أشعر أبدًا بالغربة عن عائلتي كما شعرت في تلك الفترة.
إن صمت عائلتي المدوي ولامبالاتهم جعلاني غريبًا، لكنني شعرت وكأنني في المنزل في الجامعات وفي كاليفورنيا؛ حيث توفر رؤية طوباوية لما هي عليه أمريكا الصالحة وما يمكن أن تكون عليه.
شعرتُ وكأنني في المنزل بين أصدقائي من صانعي الأفلام والفنانين العرب والإسرائيليين واليهود الذين يواصلون المخاطرة بمسيرتهم المهنية بالحديث عن غزة؛ وبين أصدقائي البوهيميين المثاليين عديمي الجذور الذين لا تختلف عائلاتهم عن عائلتي.
للمرة الأولى، شعرت وكأن أمريكا هي منزلي – ولم يكن بسبب ذلك العائلة.
المصدر: ميدل إيست آي