“الثقافة الزمنية” وأثرها على تحولات المجمتع والدين في الدولة العثمانية

شكّل الوقت دائمًا قيمة اجتماعية تختلف من مجتمعٍ لآخر ومن حضارةٍ لأخرى ما يمكن الإشارة إليه بمصطلح “الثقافة الزمنية” أو “الزمن الاجتماعيّ”، فلا يمكن النظر إليه بوصفه عجلة تسير للأمام وحسب، بل هو تفاعل اجتماعيّ يُبنى ويتكوّن ويتطوّر بناءً على عدة معايير تحكمها المجتمعات والحضارات.
وقد اهتمّ المسلمون منذ بداية الدولة الإسلامية بتحديد الوقت الذي يشكّل قيمة أساسية في الشعائر الدينية مثل الصلاة التي تؤدى على مدار خمسة أوقات مختلفة في اليوم، والصوم الذي يستدعي تحديد بداية النهار ونهايته للقيام به، ولهذه الأسباب، أي لارتباط الوقت بالقيمة الدينية، عكفوا على استعمال الاسطرلاب والساعات في أروقة ومآذن الجوامع والمساجد الكبيرة، التي اختصت بشكلٍ مركزيّ بتحديد الأوقات في العصور القديمة.
احتلت أبراج الساعات جزءًا كبيرًا من مشهد الحياة اليومية في الدولة العثمانية، فمن ناحية فقد شغلت قيمةً جمالية زيّنت المدن وخدمت قوتها الحضارية، ومن ناحية أخرى فقد ساعدت عامة الناس الذين وجدوا صعوبة في اقتناء الساعات الخاصة في معرفة الوقت والبقاء على اطلاع عليه، خاصة لمعرفة أوقات الصلاة.
فيما ازداد عدد أبراج الساعة مع بدايات القرن التاسع عشر، حيث قام السلطان عبد الحميد الثاني بحث رجال الدولة على بناء برج ساعة في كل مدينة، لا سيما وأنها باتت تشكّل رمزًا لقوة الدولة وسلطتها وليست فقط وسيلةً لتحديد مواعيد الصلاة والشعائر الدينية. وبالتالي تم بناء ما مجموعه 144 برجًا للساعات على الأراضي العثمانية المختلفة، ما يزال 52 برجًا فقط يقف داخل تركيا وعدد قليل آخر يتوزع على الدول التي خضعت للحكم العثماني.
طوّر العثمانيون منذ السنوات الأولى لقيام الدولة نظامًا زمنيًّا حمل اسم ” alla turca” أي النظام التركي المكون من جزئين؛ الجزء الأول من غروب الشمس إلى شروقها والجزء الثاني من شروق الشمس إلى غروبها
وعلاوةً على ذلك، فقد كان الارتباط الجوهريّ بين الوقت والموت والجنة سببًا أساسيًا للثقافة الدينينة عند العثمانيين، وكان سائدًا ليس فقط في التقاويم وإنما أيضًا في التقاليد الصوفية والشعر العثماني القديم الذي تأثر بدوره بشدة بالصوفية. ففي الفكر الصوفي، فإنّ تحول الأفلاك والأجرام السماوية ومرور السنوات والفصول والأيام كلها تتخلل مرور الزمن الدنيوي الذي غالبًا ما يُنظر إليه على أنه قوة مدمرة تفسد كل شيء، والوصول إلى مرحلة الاتحاد مع الله يعني الخروج من هذه الدورات والانتقال إلى الوقت الإلهي المطلق ” an-ı daim“، وهو الوقت الأبدي.
مبدئيًا، فقد طوّر العثمانيون منذ السنوات الأولى لقيام الدولة نظامًا زمنيًّا حمل اسم ” alla turca” أي النظام التركي، وعلى ما يبدو فإنّ المصطلح مشتقّ من اللغة الإيطالية. في هذا النظام تغيب الشمس في تمام الساعة 0 وتشرق في الساعة 12، إذ يبدأ حساب الساعات بعد غروب الشمس، والساعات هنا مختلفة الأطوال بحسب الموسم السنويّ، فالساعة الواحدة ليلًا أطول من الساعة الواحدة نهارًا في فصل الشتاء، ويكون الأمر على العكس من ذلك خلال الصيف.
إذن فيتكوّن اليوم في ذلك النظام من جزئين، الجزء الأول من غروب الشمس إلى شروقها والجزء الثاني من شروق الشمس إلى غروبها، بحيث تكون ساعات الليل متساوية في الطول وساعات النهار متساوية في الطول فيما بينها، لكن كما ذكرنا أعلاه، يختلف طول ساعات الليل عن النهار تبعًا للموسم.
عملت الصلاة بمثابة الساعة العامة في الدولة، واستُخدمت أسماء الصلاوات للدلالة على الوقت من اليوم.
وكان العثمانيون قد أنشؤوا مراصد قياس الوقت “muvakkithane” لضمان حفظ الوقت وإجراء تعديلات دقيقة على الساعات كلّ يوم على يدّ الأشخاص العاملين في تلك المراصد، تبعًا للمنطقة الجغرافية، والتي كانت تتواجد في ساحات معظم الجوامع والمساجد، لضبط أوقات الصلاة إذ كانت الحياة اليومية والزمنية تدور حولها بشكلٍ أساسيّ.
أما المرصد الشهير الذي تأسس في اسطنبول في عهد مراد الثالث، فكان لسنواتٍ طويلة هو المرصد الرئيسيّ للدولة، إذ كان أيضًا مخصصًا لتدريس الرياضات والفلك للعاملين فيه نظرًا لأهمية هذين العلميْن في تحديد الوقت والزمان. وقد بقيَ المرصد قائمًا بعمله ويؤدي مهامه حتى عام 1924، أي بعد إعلان الجمهورية التركية الحديثة واستبداله بما يُعرف حتى وقتنا هذا “مكتب رئيس الساعات” أو ” bashmuvakkitlik“.
ففي الواقع، عملت الصلاة بمثابة الساعة العامة في الدولة، واستُخدمت أسماء الصلاوات للدلالة على الوقت من اليوم، فمثلًا عُرفت الكثير من المعاملات حتى القرن التاسع عشر باسم ” yatsı nöbeti“، والتي تعني حرفيًا المناوبة المغربية نسبةً إلى صلاة المغرب، ولا يزال الأتراك حتى يومنا هذا يستخدمون مصطلح ” ikindi” والذي يعني بالأصل “صلاة العشاء”، للدلالة على الوقت من اليوم الذي تؤدى فيه تلك الصلاة، في سياقٍ لادينيّ بحت، أو ربما يمكن أن نقول أنّ الكلمة تحولت من سياقها الديني إلى اللغوي والاجتماعي فقط لا غير.
أصبح الزمن كمفهومٍ ينتمى إلى ثنائيات متعددة غير قابلة للانفصال عن المجتمع في أواخر الدولة العثمانية، فبات في الوقت الواحد دينيًّا وعلمانيًا، حداثيًا وما قبل حداثيّ، متحركًا للأمام ودوريًا.
لطالما تم تفسير تحول الثقافة الزمنية عند العثمانيين في القرن التاسع عشر على أنه نتيجة لسياساتِ تحديثٍ غربية أو أوروبية انتهجها السلاطين ورجال الدولة في ذلك الوقت تأثرًا بالحضارة الأوروبية بشكلٍ واضحٍ وجليّ، ففي كتابه “الوقت والمجتمع في أواخر الدولة العثمانية”، يحاول أفنير ويشنيتزر تتبع البُعد الزمني للحياة الاجتماعية والدينية والفردية في الدولة.
في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر، استحوذت الساعات المائية والشمسية على أهمية واستخدامٍ كبيرين، وقد تمّ استخدام الساعة المائية في جامع بايزيد في إسطنبول كجهاز رسميّ لضبط الوقت بدءًا من عام 1506. أما في منتصف القرن السادس عشر، فقد بدأت تلك الساعات الغياب عن المشهد شيئًا فشيئًا إلى أنْ حلّت مكانها الساعات الميكانيكية الحديثة، والتي تمّ استقدام معظمها من أوروبا.
بدأ البُعد الدينيّ للزمن ينسلّ شيئًا فشيئًا من المشهد التركيّ العثمانيّ، تمامًا كما هيمنت القوانين الغربية العلمانية على قوانين الشريعة الإسلامية في الإمبراطورية.
ففي تلك الفترة الانتقالية من تاريخ الدولة، وبحسب ويشنيتزر، أصبح الزمن كمفهومٍ ينتمي إلى ثنائيات متعددة غير قابلة للانفصال عن المجتمع، فبات في الوقت الواحد دينيًّا وعلمانيًا، حداثيًا وما قبل حداثيّ، متحركًا للأمام ودوريًا. يستدلّ الكاتب على هذا بأنه كان من الممكن للأرستقراطيّ العثماني المسلم أن يستخدم كلًا من نظامي تحديد الوقت؛ النظام التركيّ ” alla turca” والنظام الغربيّ المعروف ” alla franca“، ليستطيع من خلالهما تنظيم أوقاته، فيمكنه أداء صلواته وفقًا للنظام الأول، وحضور المسارح والحفلات الموسيقية الأجنبية ومعرفة أوقاتها وفقًا للنظام الثاني.
ويمكن تلخيص ما أراد ويشنيتزر الوصول له في كتابه، بأنّ تحول الثقافة الزمانية هذا قد أدى، ولو بشكلٍ غير مباشرٍ ومستقيم، إلى هيمنة الحديث والعلمانيّ على ما هو تقليديّ وسماويّ في المجتمعات العثمانية، فقد بدأ البُعد الدينيّ للزمن ينسلّ شيئًا فشيئًا من المشهد التركيّ العثمانيّ، تمامًا كما هيمنت القوانين الغربية العلمانية على قوانين الشريعة الإسلامية في الإمبراطورية.