تشكل شبكات التواصل الاجتماعي تحديًا صعبًا أمام الحكومات التي تحارب من أجل مراقبة بيانات المواطنين ومتابعة اتصالاتهم ورسائلهم، والأمر نفسه يسبب صداعًا للمستخدمين الذين لا تتناسب معهم هذه السياسة، ويطالبون بإحكام نظام التشفير في المواقع والتطبيقات الإلكترونية، كنوع من احترام خصوصيتهم الشخصية وأمنهم الإلكتروني، ومنع محاولات التجسس والتطفل على أنشطتهم.
مؤخرًا، تردد اسم تطبيق “تليغرام” في أكثر من نزاع، وهو التطبيق الذي يضم 100 مليون مستخدم حول العالم، ومن الواضح أن ميزة التشفير المعقد وصعوبة الاختراق ستتحول إلى نقمة، كما حصل سابقًا مع أجهزة بلاك بيري التي عرفت بتركيزها على سرية وأمان تقنيتها، فاعتمدت عليها معظم الشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية، لكن هذه الخاصية أقلقت دول الخليج، بسبب عدم سماح الشركة للدول بالتدخل في أنظمتها ومراقبة الأجهزة، فمنع تداول الأجهزة تمامًا في منطقة الخليح عام 2010 ، وكانت النتيجة خسارة ما يقرب من نصف مليون مستخدم في الإمارات، وأربعمئة ألف شخص في المملكة السعودية العربية.
هذه التوترات بين التكنولوجيا والسياسة، عادت مع اتباع تليغرام لنفس سياسات الخصوصية وإعلان استعداده دفع ثلاثمئة ألف دولار لأول شخص يستطيع اختراق برنامجه، كدليل على قوة خصوصية النظام، فما تفاصيل هذه الصراعات بين السلطتين؟ وهل يرفض تليغرام مطالب الدول ويخسر ملاييين المستخدمين، أم يكسب ود السياسة ورضى رجالها؟
روسيا.. اتهامات ودعاوى قضائية وغرامات
العام الماضي، أصدر جهاز الأمن الاتحادي الروسي بيانًا يقول فيه إن تليغرام يمنح الإرهابيين فرصة لتأسيس غرف محادثات سرية بدرجةٍ عالية من التشفير؛ مما يمنحهم فرصة تنفيذ هجمات إرهابية على أراضيها، وقالت إن الانتحاري الذي فجر نفسه في مترو سان بطرسبرغ شهر أبريل الماضي من نفس العام، استخدم تليغرام للتخطيط للعملية مع شركائه، وأشارت أنه التطبيق الأكثر استخدامًا بين الإرهابيين الموجودين في مدنها.
توالت التهديدات بإغلاق التطبيق من هيئة الاتصالات الروسية “روسكومنادزور”، واتهامه بانتهاك القانون الروسي، لكن إدارة التطبيق رفضت، ورد مؤسس تليغرام بافل دوروف، أن هيئة الاتصالات طلبت من شركته تسليم المفاتيح لأجهزة الأمن لفك تفشير رسائل المستخدمين وإلقاء القبض على الإرهابيين، لكنه يرفض هذا الطلب، على اعتبار أنه يخدش حق الحفاظ على سرية المراسلات، وقال إن تم حظر التطبيق، فالإرهابيون سيستخدمون البرامج الأخرى التي تمتاز بخاصية تشفير أعقد، وإذا أرادت هزيمة الإرهاب بقرار الحظر، فعليها حجب خدمة الإنترنت بالكامل.
رغم عناد إدارة التطبيق بالخضوع إلى أوامر السلطات، وربط صيت منصاته بالعمليات الإرهابية في عدة دول، تبدو الشركة مصرة على موقفها الذي قد ينتهي بحظره وخسارة نحو 9.5 مليون مستخدم روسي
دعت المحكمة العليا التطبيق للاستجابة لمتطلبات السلطة، لكن الشركة رفضت ودفعت غرامة بملبغ 14 ألف دولار، وأدرجت القضية تحت قيد الاستئناف حتى تجددت الدعوة القضائية يوم الثلاثاء وأعلنت أن على خدمة تليغرام تسليم مفاتيح التشفير إلى السلطات خلال 15 يومًا، وستعد موافقتها على هذا الطلب تعاونًا إيجابيًا مع السلطات لمحاربة الإرهاب.
Threats to block Telegram unless it gives up private data of its users won’t bear fruit. Telegram will stand for freedom and privacy.
— Pavel Durov (@durov) March 20, 2018
لكن مؤسس الشركة دوروف يعتزم استئناف الحكم إلى فصل الصيف، وفي هذا الخصوص، نشر تغريدة على موقع تويتر يقول فيها: “التهديد بوقف تليغرام لن يؤتي ثماره، وسنداوم دعمًا لحرية وخصوصية المستخدمين”، وأجاب جهاز الأمن الروسي، بأن امتلاك مفاتيح التشفير ليس انتهاكًا لسرية المواطنين، إذ لا يمكن الوصول إلى المحتوى المشفر إلا بأمر من المحكمة.
رغم عناد إدارة التطبيق بالخضوع إلى أوامر السلطات، وربط صيت منصاته بالعمليات الإرهابية في عدة دول، تبدو الشركة مصرة على موقفها الذي قد ينتهي بحظر التطبيق وخسارة نحو 9.5 مليون مستخدم روسي، كما خسرت سابقًا مستخدميه في الصين التي أقرت حظره بشكل كامل.
إيران.. قنوات تحريضية ومنسقة للاحتجاجات الداخلية
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت بشكل ملحوظ في إشعال الثورات والتأثير على سير الانتخابات وتسليط الضوء على الاختلاسات المالية والفضائح الجنسية، لذلك أصبحت تشكل تحديًا أمام الحكومات، خاصة أن انتشار المعلومات عليها يجري بصورة سريعة وأكثر شمولًا، ومن جانب آخر، ومن هذا المنطلق احتد موقف حكومة إيران من خاصية التشفير التي يلتزم بها تليغرام.
استجاب تليغرام لطلب الحكومة الإيرانية بإغلاق القنوات المحرضة على العنف والتظاهر ضدها، وهذا ما فسره لاحقًا دوروف عندما كتب تغريدة يقول فيها: “إغلاق قناة “آمد نيوز” جاء بسبب مخالفتها مبدأ “عدم الترويج للعنف”، إذ شرعت القناة في تحريض المتابعين لها على استخدام الزجاجات الحارقة ضد الشرطة”.
وأضاف أنها الحالة الثانية التي تتجاوز الحدود التي لا ينبغي تخطيها، وهذا بعد دعوة وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الإيراني محمد جواد آذري جهرمي الذي نادى بضرورة وضع حد لإثارة الفتنة والعصيان عبر التطبيق، وذلك خلال مظاهرات المعارضة التي شهدتها العاصمة طهران ومدن إيرانية أخرى، رفضًا لتردي الوضع الاقتصادي وانتشار الفساد.
هذه الدعوات بالاغلاق والحجب، وصلت إلى الدول الأوروبية مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا، التي كانت من أوائل الدول التي طالبت قبل عامين من المفوضية الأوروبية بوضع قوانين لشبكات الاتصال المشفرة وبشكل خاص تطبيق تليغرام
هذا بالإضافة إلى ما قاله وزير الداخلية عبد الرضا رحماني، بأن سوء استخدام الشبكات الاجتماعية من بعض الأفراد يلعب دورًا أساسيًا في نشر العنف والخوف بين المواطنين الإيرانيين، واستمرار تطبيق تليغرام باحتواء القنوات الإرهابية المحرضة سينتهي بتعليقه وحجبه عن المواطنين، وهذا ما نفذته الحكومة بحجة الحفاظ على سلامة وأمن المواطنين”، لكنها رفعت القيود على التطبيق بعد أيام من حذف القنوات عن 47 مليون مستخدم إيراني.
هذه الدعوات بالاغلاق والحجب، وصلت إلى الدول الأوروبية مثل إسبانيا وفرنسا وألمانيا، التي كانت من أوائل الدول التي طالبت قبل عامين من المفوضية الأوروبية بوضع قوانين لشبكات الاتصال المشفرة وبشكل خاص تطبيق تليغرام الذي يستغله “الارهابيون للتخطيط لعملياتهم الارهابية”، وأشارت إلى أن “السماح بالاطلاع على المحتوى المشفر سيساعد في مراقبة الهجمات الوحشية”.
وبدوره شدد وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازتوف، على أهمية هذه المسودة التي تلزم الشركات التكنولوجية بالتعاون مع الحكومات من أجل الإمساك بالمتطرفين، وأن الجهات التي ترفض التعاون سوف تقاضى على تعريضها الأمن القومي للخطر.
وتعد هذه المواقف الدولية الحادة بشأن شبكات التواصل، واحدة من أشكال الصراع حول الحكم، وهذا بالفعل ما أدركته الدول عندما قال أليك روس، خبير تقني ومستشار سابق لهيلاري كلينتون: “نقلت تكنولوجيات الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي السلطة من الدولة ومؤسساتها إلى الأفراد والمؤسسات الصغيرة.. إذا لم تشارك الحكومات في وسائل التواصل الاجتماعية، فإنها تتخلى عن نفوذها وسلطتها”.
والمثير للسخرية، بإن الحكومات هي أول من أنشأ نظام الهويات والسجلات الشخصية الرسمية لجمع معلومات مواطنيها لديها، والآن تتنافس مع شركات التواصل الاجتماعي لمشاركتها بهذه السلطة، ولا سيما أن البعض لا يرى بإن مطالب الحكومات بالوصول إلى البيانات أمرًا بريئًا ويشمل خططًا أبعد من الحفاظ على الاستقرار العام لدولها.