ثورة الزنج من أعنف الثورات التي شهدها عصر الخلافة العباسية، والتي كانت ما بين عامي (255ـ 270هـ).. فما قصة ثورة الزنج؟ ومن هو قائدها؟ وماذا فعل الزنج العبيد في مدينة البصرة؟
منذ أن قام الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالخروج على الخليفة الأموي يزيد بن معاوية سنة 60هـ، أصبح هذا الخروج سُنّة في بيت الطالبيين، فمن حين لآخر يظهر رجل من أهل البيت سواء من الفرع الحسينيّ أو الحسنيّ يدعو للحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقود الناس للخروج على السلطة الحاكمة، حتى أصبح لا يخلو جيل من الأجيال من هذا البيت إلا خرج منه رجل أو رجلان على الخلفاء، وكان هؤلاء الثوار يستغلون حب الناس لآل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك عونًا وعضدًا لهم في ثورتهم، ولربما أساسهم الوحيد الذي يعتمدون عليه في جذب الأعوان والتفاف الناس.
وذلك الأمر أدى لظهور بعض الشخصيات من هذا البيت لم تكن ذات صلاح ولا تُقى ولا ورع، خرجت ولم يكن من خروجها إلا الدنيا والمصالح, وأيضًا أدى ذلك الأمر لظهور بعض الكاذبين الأدعياء ألصقوا أنفسهم زورًا بآل البيت ليجذبوا الناس حولهم، ومن ثَمّ يحققون أغراضهم الخبيثة التي عادةً ما تكون الطعن في الدين والنيل من متاع الدنيا. وهذا الخروج والثورة لواحد من هؤلاء “الأدعياء” الكَذَبَة الذين قادوا أعنف الثورات التي خرجت في أمة الإسلام، والتي امتدت طوال خمسة عشر سنة متصلة.
أخطر شيء على الأمم هو الفقر والجهل
في سنة 255هـ ظهر رجل بظاهر البصرة زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولم يكن صادقًا بل كان أجيرًا واسمه علي بن محمد بن عبد الرحيم، وأصله من قرية من قرى منطقة الريّ. أخذ هذا الرجل في دعوة الزنج العبيد الذين كانوا يكسحون السباخ بالبصرة، وكلّمهم عن الحرية والعدل والمساواة وتوزيع الأموال بين الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالتف عليه جماعة من الزنج وجهلة الناس، وعَبَر بهم دجلة ولم يكن عددهم كبيرًا إنما كانوا لا يزالون قلة، ففكّر في كيفية توسيع قاعدته.
وهنا فلنأخذ العبرة، أخطر شيء علي الأمم هو الفقر والجهل، فأمم بدون وعي كبنيان بلا أعمدة راسخة، مع أول هزة يقع البنيان على الجميع، فلتكن معركتنا الحقيقية لنهضة أمتنا توعية الأجيال، وتربيتهم على العقيدة الوسطية، بما قاله الله ورسوله، حتى لا يكونوا أداة لكل صاحب مصلحة سياسية، أو كل متشدد أو متطرف، فلنبنى أمة واعية، لا تقدس رجال الدين بل تقدس الدين، ولا تقدس العادات والتقاليد بل تقدس الحلال والحرام.
انتقل هذا الكاذب الخبيث إلى بغداد ليدعو الشيعة بها لثورته، وقال لأصحابه: “إنني أحفظ سورًا من القرآن في ساعة واحدة جرى بها لساني من غير أن يحفظها لي أحد”. وزعم لهم أنه يعلم ما في ضمائرهم، وأن الله يُطلعه على ذلك، فراج أمره في بغداد على الأغبياء والجهلة، فكثر جمعُه، فعاد بهم إلى أرض البصرة وأخذ في الاصطدام مع “والي” المدينة، وانتصر عليه عدة مرات، وهُزم هو عدة مرات، ولكنه كان قويّ العزيمة ثابت الرأي، وحتى يستميل الناس إليه لم يكن يتعرض لأموال الناس، ولا يؤذي أحدًا، وإنما يأخذ مال السلطان، فقَوِي شأنه واستفحل أمره.
إذا لم تكن قوي وعادل في الحق، ستضعف أمام الباطل وأهله
شعر الخليفة العباسي المعتمد بخطورة هذا الرجل وتنامي قوته، فأرسل إليه عدة جيوش لمحاربته وانتصر عليه، ثم انتقل هذا الخبيث بثورته إلى فارس ليدعو الناس هناك مستغلاًّ جهل أهل هذه البلاد وميلهم الطبيعي لآل البيت واستعداد الناس هناك لقبول مثل هذه الأفكار، ومكث علي هناك فترة حتى جاءته الأخبار بأنّ أهل البصرة قد اتسعت أملاكهم وكثرت أموالهم ومؤنهم، فقرّر الهجوم على البصرة.
إذا لم تكن قوي وعادل في الحق، ستضعف أمام الباطل وأهله، لأن الناس ترضى بما يرضى هواها، وتحب كل حزما وعدلا فاعتبروا، وكونوا قوة في الحق ونصرته. يقول الرواة، “لقد كان مع هذا الخبيث شيطان من الجن يأتيه بالأخبار ويخاطبه بما وقع، فقام هذا اللعين في أتباعه وقال لهم محرضًا على الهجوم على البصرة، إذ كان يقول: “دعوت الله على أهل البصرة فخوطبت إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت، فأوّلت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، ورفعت البصرة لي بين السماء والأرض ورأيت أهلها يُقتلون، ورأيت الملائكة تقاتل معي وتثبت جيوشي”. وجاء كما نقل له من الأخبار، فانكسفت الشمس ليلة 14 شوال سنة 257هـ بالبصرة، فحميت نفوس أتباعه الجهلة الزنج، وظنوا أنهم على الحق.
إذا ساندت الظالم والحمقى، ولم تنصر الحق، فستكون أنت الضحية بدون مقابل ولا ذكر
إن شيطان أهل الباطل في عصرنا هو الإعلام بدون ضمير، الإعلام المزيف الذى يقلب كل حقيقة إلي باطل، وكل باطل إلي حقيقة، كأنه دجال هذا العصر، ما دام الناس لا يقرأون ولا يعتبرون، ولا يملكون الوعي، فيظل غباءهم وجهلهم، أقوى سلاح في صالح كل من يريد أن ينشر الفساد بيننا، ويحكمنا بهواه وليس بعدل الله.
هجم هذا الخبيث ومن تبعه من الجُهّال على مدينة البصرة يوم 14 شوال سنة 257هـ، فدمروا المدينة تدميرًا كاملاً، وأحرقوا جامعها وقتل من فيها من الرجال والعلماء والأعيان، وهرب والي المدينة ومن معه وتركوا أهل المدينة لمصيرهم المحتوم، ونادى أحد أمراء هذا الخبيث الدعيّ في أهل المدينة: “من أراد الأمان فليحضر”. فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة، فغدر بهم المجرم وأمر بقتلهم جميعًا، وكانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض: “كيلوا”، وهي الإشارة بينهم إلى القتل، فيحملون عليهم بالسيوف فلا يُسمع إلا قول “أشهد أن لا إله إلا الله” من أولئك المقتولين، وصراخ وضحك الزنج عند ضربهم للناس بالسيوف!
إذا ساندت الظالم والحمقى، ولم تنصر الحق، فستكون أنت الضحية بدون مقابل ولا ذكر، فموت في سبيل الحق يخلد ذكراك في وجه كل من هو ظالم، فإن لم تحظى بالعيش عزيزاً فسوف تحظى بحسن الآخرة.
وتقول المصادر والمراجع: “ظل أتباع الدعيّ يفعلون ذلك بالبصرة عدة أيام، وحرقوا الزروع والكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت كل شيء من الإنسان والحيوان والزروع والبيوت، وقُتل في هذه الواقعة عشرات آلاف من المسلمين، والعجيب أنه لم يُقتل أحد من العلوية الذين جاءوا إليه وسألوه عن نسبه فانتسب لهم زورًا بآل البيت كأنه لم يقتل أحدًا ولم يفعل شيئًا! وكانت هذه الواقعة إيذانًا باندلاع الثورة الشاملة للزنج وظهور قوتهم بشكل علنيّ وقويّ ضد الخلافة العباسية، واستمرت هذه الثورة قُرابة الـ15 سنة.
أدت هذه الفتنة كذلك إلى نشر الأمراض والأوبئة بسبب ما عاناه الناس من فقر وجوع
الجدير بالذكر أن بعض المعاصرين ألّف رواية تتحدث عن ثورة الزنج، وأنها كانت ثورة ضد الظلم والطغيان، وأنهم كانوا طُلاّب حق وعدل وأشباه هذا الكلام الفارغ! والجدير بالذكر أن مؤلف الرواية شيوعي غربي اسمه ألفريد فرج، فلا عجب إذن!
وأدت هذه الفتنة كذلك إلى نشر الأمراض والأوبئة بسبب ما عاناه الناس من فقر وجوع، حتى أكلوا الجيف، وأدت إلى أن يأسر الزنوج آلاف الحرائر. وتقول بعض المصادر والمراجع التاريخية أنه قتل من المسلمين عدد كبير، أقل تقدير له هو مليون ونصف المليون مسلم، خلال 15 سنة، كما اعتبرت هذه الحركة الفاسدة من الأسباب التي ساعدت على تفكك الدولة الإسلامية خلال العصر العباسي الثاني.
في النهاية، فشلت ثورة الزنج في أن تكون ثورة اجتماعية، بسبب الجرائم الوحشية التي ارتكبوها من اغتصاب واسترقاق النساء الكريمات وسلب ونهب وقتل مئات الآلاف والاعتداء على الأطفال والشيوخ وتدمير للمدن والنيل من صرح الحضارة الإنسانية، وإن كانت الثورة قد لفتت انتباه المجتمع الإسلامي إلى حقوق “العبيد” وقد أثبت قتالهم مدى خبرتهم واخلاصهم واستبسالهم، وفي نفس الوقت عبّروا عن حقدهم على المجتمع.