كثير من الجوانب الحياتية للإنسان وسلوكياته وتصرفاته وعواطفه لا يمكن فهمها وتفسيرها دون الرجوع أساسًا إلى علم النفس التطوري، الذي يُعنى بدراسة الإنسان الأول وأثر تطوره وتطوّر جيناته على الإنسان الحديث، وبكلمات أخرى، يمكننا القول أنّ الكثير من سلوكياتنا حاليًا هي نتاج التطور الناشئ عبر ملايين السنين.
بدايةً، لا بدّ أن نعرف المعنى الكامن وراء التطور أو كلمة “تطوّرنا”؛ والتي تعني العملية البيولوجية الناشئة عن الانتخاب أو الانتقاء الطبيعي لصفات محددة في الكائن كي تكون أكثر ميلًا للبقاء أو الاستمرار في النوع نظرًا لمناسبتها لظروف البيئة المحيطة، في حين تندثر صفات أخرى لا تساعده على تحسين تكيّفاته مع البيئة والصمود في وجه الصراعات مع الأنواع الأخرى من حوله.
وبكلماتٍ أخرى؛ فقد كانت الكائنات تميل للحفاظ على الصفات البيولوجية التي توفّر لها فرصًا أفضل وأقوى للتكيف وتمرير جيناتها على التزاوج للأجيال اللاحقة، وفي الوقت نفسه أهملت تلك التي تفيدها ولا تساعدها على التكيف والاستمرار، ومن هنا يسعى علم النفس التطوري للحصول على تفسيرات وفرضيات للكثير من الظواهر والجوانب في النفس الإنسانية، والتي يعجز كل من البيولوجيا وعلم النفس الوصول لها كلٌّ على حدة.
الغيرة بين الجنسين.. العاطفة أم الجنس؟
يحاول علم النفس التطوري التنبؤ بعدد من الاختلافات بين الجنسين في اختيار الشريك والاحتفاظ به أو إنهاء العلاقة والتعامل مع مختلف تفاصيلها وحيثياتها بما فيها الغيرة التي تُعتبر ردَ فعلٍ طبيعيّ مرتبط بالخوف والغضب النابعين من رغبة الفرد في حماية علاقته وعواطفه وحبه والمحافظة عليها وإطالة أمدها، ويعتقد علماء النفس التطوري أن الإشارات التي تسبب الغيرة ترجح بشكل مختلف ما بين الرجال والنساء.
تسبب الخيانة الجنسية غيرة الرجل أكثر من المرأة، في حين تتأثر المرأة سلبًا أكثر بالخيانة العاطفية
فبالنسبة للرجل، فإنّ الخيانة الجنسية ستؤدي إلى عدم يقينه في أبوة أبنائه نظرًا لغيابه الدائم عن عائلته لطبيعة حياة الصيد والترحال. أما بالنسبة للمرأة، فإنّ خيانة شريكها الجنسيّ لها لا تعرض يقينها بطفلها للتساؤل وضمان وجوده، فالطفل لها بغض النظر عن والده. لكنّ الخيانة العاطفية هي الأهمّ عندها، فإذا أصبح شريكها مهتمً بامرأة أخرى، فإن ذلك سيؤدي إلى فقدان وقته واهتمامه وطاقته وموارده وحمايته والتزامه بأطفاله، وهذه الخسارة تشكّل ضرورةً لنموّ مشاعر الغيرة العاطفية بقدرٍ أكبر من غيرتها الجنسية.
وبكلماتٍ أخرى؛ فإنّ النساء أكثر عرضة للتفاعل سلبيًا عندما يتم حرمانهن أو أطفالهن من الدعم العاطفي؛ أما الرجال من ناحية أخرى فغضبهم وتفاعلهم السلبيّ سيكون أكبر في حال كانوا يشكّون في خيانة زوجاتهم لهم جنسيًا وليس عاطفيًا، نظرًا لاحتمالية أنْ لا يكون الطفل له، وبالتالي انخفاض احتمالية تمريره لجيناته عبر شريكه الجنسيّ. ونتيجة لهذه الغيرة، يشترك الرجال جميعم، بفعل التطور الحاصل، في سلوكيات تضمن لهم احتكار شريكاتهم جنسيًا، في حين تنصبّ غيرة النساء أكثر على الخيانة العاطفية لأنهن يعتمدن بشكل كبير على تواجد الشريك واهتمامه بهنّ.
نحبّ الحياة لنستمرّ بها.. لماذ نحب الورود والأزهار؟
قد تكون الأسباب التي تجعلنا، ولا سيّما النساء، نحب الورود والزهور كثيرة، تتفاوت في بساطتها وتعقيدها بشكلٍ مختلف، على الرغم من اتفاقنا جميعًا أنها جميلة وأننا نميل لحبّ الأشياء الجميلة أيًّا كانت، إلا أنّ هذا السبب البسيط قد لا يفي بغرض محاولة التفسير والإجابة عن السؤال.
ترتبط إحدى النظريات الممتعة والمثيرة للاهتمام بفرضية “البيوفيليا” أو ” Biophilia“، المصطلح الذي استُخدم للمرة الأولى عام 1973 على يد المحلل النفسي الألماني إريك فروم قاصدًا به “الشعور بالعاطفة والحب تجاه الحياة وكل ما هو حيّ”، ثم شاع استخدامه من قبل عالم الأحياء الأمريكي إدوار ويلسون والذي ألّف كتابًا يحمل الاسم نفسه عام 1984 معرّفًا إياه بأنه “الميل الطبيعي تجاه كلّ ما هو حيّ”، ويمكن إرجاع المصطلح إلى الأفكار التي طرحها أرسطو بشأن حب الحياة أيضًا.
كان أسلافنا القدماء يعتبرون الورود والأزهار بمثابة إشارة مرئية للمكان الذي تصلح فيه الحياة، نظرًا لاحتمالية توافر الفواكه أو الخضار حولها أو في الأماكن القريبة منها، أو يمكن القول من وجهة نظرٍ أخرى أنّ معظم الفواكه والثمار تبدأ كزهورٍ قبل أن تنضج.
وبكلماتٍ أخرى، فإنّ البشر بطبيعتهم التطورية ميّالون لكلّ ما هو حيّ، وهذا يفّسر الكثير حيال ما نشعر بهِ تجاه النباتات والورود أو حتى الحيوانات الأليفة واحترامنا وتقديرنا لسحر وجمال الطبيعة. وإذا أسقطنا هذا المصطلح على نظريات علم النفس التطوري فإنّ حبّنا الحقيقي للحياة يساعدنا على الاستمرار بالحياة بشكلٍ أفضل، وبالأحرى فإنّ أسلافنا كانوا أكثر عرضةً للبقاء على قيد الحياة في حال كانوا أكثر قدرة على حبّها والتمتع بها وبالأشياء الجميلة فيها، بما فيها الورود وروائحها وأشكالها، التي تؤدي إلى عواطف إيجابية مفيدة في البقاء على قيد الحياة.
إضافةً لذلك، فقد اقترح علماء النفس التطوريون أنّ أسلافنا القدماء كانوا يعتبرون الورود والأزهار بمثابة إشارة مرئية للمكان الذي تصلح فيه الحياة، نظرًا لاحتمالية توافر الفواكه أو الخضار حولها أو في الأماكن القريبة منها، أو يمكن القول من وجهة نظرٍ أخرى أنّ معظم الفواكه والثمار تبدأ كزهورٍ قبل أن تنضج. وبالتالي، قد يكون حبّنا للورود نابعًا من أنها قبل ملايين السنين كانت إحدى الدلائل والإشارات الحيوية على وجود الحياة وبالتالي إمكانية البقاء والتكاثر وتمرير الجينات.
في حين كان الصيد محسوبًا على الذكور وحكرًا عليهم، كانت الإناث تهتمّ بجمع الثمار والحصاد، وبالتالي فإن الزهور كانت لهنّ بمثابة إشارة جميلة على قدوم الثمار في الأماكن الآمنة، الأمر الذي يعني احتمالًا أعلى للنجاة
لماذا الأنثى هي الأكثر حبًا للورود من الرجل إذن؟ وفقًا لتاريخ الإنسان الأول، فإنه في حين كان الصيد محسوبًا على الذكور وحكرًا عليهم، كانت الإناث تهتمّ بجمع الثمار والحصاد، وبالتالي فإن الزهور كانت لهنّ بمثابة إشارة جميلة على قدوم الثمار في الأماكن الآمنة، الأمر الذي يعني احتمالًا أعلى للنجاة والبقاء لهنّ ولنسلهنّ. تخيّل لو أن الأمر ذاته بالنسبة للرجل أو الذكر أيضًا، حتمًا سيصبح وجبةً دسمة لأحد الحيوانات المفترسة في اللحظة التي يقرّر فيها إحناء رقبته لشمّ زهرة في أماكن الصيد على سبيل المثال.
يمكن أنْ تنطبق هذه الفرضية أيضًا على الكثير من السلوكيات البشرية الحالية، منها أنّ ميلَ الرجال لأحمر الشفاه أو للفتاة التي تضع أحمر شفاه عائد لنظرية “الصيد وجمع الثمار” ذاتها، فالأنثى التي انصبغ فمها بلون الثمار، كالتوت مثلًا، بعد أكلها لها، هي الأوفر حظًا على البقاء وحماية نفسها ونسلها، نظرًا لأنها الأكثر قدرةً على تحصيل وتوفير الطعام لها ولمجموعتها.
جيناتنا الأنانية.. لماذا نموت؟
وضع علم النفس التطوري بعضًا من الإجابات المثيرة والمتتعة لهذا السؤال، على الرغم من أنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق موحّد في المجتمع العلميّ حول إجابة معينة، فالأصل التطوري للشيخوخة ما يزال مشكلة أساسية لم تحلّ في علم الأحياء والتطور، لكن هنالك نظريات تنافسية قوية قد تكون مقنعة إلى أبعد الحدود.
طبيعيًّا، كان من النادر أن ينجو أيّ كائن بشريّ لفترة طويلة بشكلٍ استثنائي، حتى لو لم يكن عمره متقدمًا بالسن، فالمنافسة على المصادر الحيوية شديدة، وكلّ كان يسعى للسيطرة والبقاء على حساب الآخر. فكر في الأمر أكثر، كان هناك طرق لا حصر لها للموت، هجوم عدائيّ من حيوان مفترس أو إصابة صغيرة أو عدوى في وقتٍ غير المناسب أو عدم كفاية الموارد، جميعها مخاطر بإمكانها أن تؤدي للموت قبل التقدم في السنّ.
لا ترغب الجينات بالاستثمار في كائنٍ أو شخصٍ ميّت، ولذلك فتميل أكثر للتخلص ممن يكبرون بالسنّ، أو يصابون بمرضٍ أو إصابة، في سبيل إفساح المجال لمنْ هم أكثر حظًا بالبقاء، أي الأطفال والشباب والأصحّاء.
انظر للأمر من منظور جيناتك التي لا تعرف عنك شيئًا تحديدًا وإنما تخضع لإحصائيات البقاء وتُحكم سلوكياتها بناءً على اتجاهٍ يتسم بالأنانية قبل كلّ شيء، فالبقاء والتكاثر وتمرير الجينات هي الغايات الأكثر أهمية. ولأنّ الجينات لا ترغب بالاستثمار في كائنٍ أو شخصٍ ميّت، فستكون ميّالةً أكثر للتخلص ممن يكبرون بالسنّ، أو يصابون بمرضٍ أو إصابة، في سبيل إفساح المجال لمنْ هم أكثر حظًا بالبقاء، أي الأطفال والشباب والأصحّاء.
أذكر في إحدى دروس علم النفس التطوري حين سألنا المعلّم ذلك السؤال، تخيّل أنّك في قارب معرّض للهلاك مع طفليْك، أحدهما مصاب بمرضٍ خطير والآخر سليم، وعليك التضحية بأحدهم لينجو الآخر. قد تحبّذ هنا أن تختار التضحية بالمريض غالبًا، أليس كذلك؟ ففرصة الآخر بالنجاة أكبر.
على كلّ حال، وبعيدًا عن ذلك السؤال الخياليّ الذي قد لا يمتّ للواقع بصلة، ونظرًا لأنّ الآباء والأبناء يستخدمون نفس الموارد، فإن وفاة أحد الوالدين أو واحدٍ من نسلهما، تخلق بيئيًا فرصةً أكبر لمن تبقى من النسل في البقاء والنجاة. ولذلك، فالوفاة هي نبوءة تطورية تحقق نفسها بطرق متعددة، وهنا يمكننا القول أنّ التطور ليس ولم يكن صديقنا، وإنما صديق جيناتنا الأنانية في نهاية الأمر.