دخلت حرب غزة شهرها العاشر وسط استمرار الاعتداءات الإسرائيلية التي لم تتوقف على معظم مناطق القطاع، خلفت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي أكثر من 125 ألف شهيد وجريح وما يزيد على 10 آلاف في عداد المفقودين، فيما دُمر ثلثا القطاع تدميرًا شبه كليًا وأجبر قرابة مليوني فلسطيني على النزوح، فيما يقبع عشرات الآلاف من الأطفال والنساء وكبار السن على قوائم الموت البطيء جراء حرب التجويع التي يشنها الكيان المحتل.
وأمام هذه الصورة القاتمة هناك صورة أخرى ناصعة البياض، وإن كانت باهظة الكلفة، تسطرها المقاومة بصمودها النضالي، وقدرتها على الثبات طيلة 276 يومًا منذ بداية الحرب، وإجهاضها مع الغزيين كل مؤامرات ومخططات الاحتلال التي يحيكها بمساعدة الحليف الأمريكي وتواطؤ بعص القوى الإقليمية لتفريغ القطاع من السكان وتحويله إلى بيئة طاردة للحياة، بما يمهد الطريق نحو حلم الهيمنة الكاملة عليه والقضاء على المقاومة بشكل كلي.
أكثر المتشائمين المتابعين للمشهد منذ بداية الحرب لم يكن يتوقع أن تستمر كل هذه الفترة، وهي الأطول في تاريخ المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية، كما أن أكثر المتفائلين لم يكن يتخيل أن تصمد المقاومة المحاصرة بهذا الشكل على مدار ما يقرب من 10 أشهر أمام جيش الاحتلال المدعوم من أعتى جيوش واستخبارات العالم.
رسائل أبو عبيدة.. المقاومة ثابتة
إن كان ظهور الناطق العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، أبو عبيدة، حدثًا عاديًا منذ بداية الحرب، فإن ظهوره بعد 276 يومًا من الحرب أمر يحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات، هذا بخلاف مضمون ما جاء على لسانه الذي حمل رسائل عدة للكيان الإسرائيلي وللداخل الفلسطيني وللمجتمع الدولي.
– عن وضعية المقاومة ميدانيًا، أكد أبو عبيدة أنها ثابتة وراسخة وقادرة على الصمود، قائلًا: “ما زلنا نقاتل في غزة دون دعم خارجي وما زال شعبنا صامدًا بلا غذاء ولا دواء”، موضحًا أن “مجاهدينا يقاتلون منذ 9 أشهر ويكسرون جيش العدو المدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا”.
وتابع “كل كتائبنا الـ24 مع كل فصائل المقاومة قاتلت العدو وكسرته بمختلف أرجاء القطاع”، مؤكدًا أن العدو تلقى ولا يزال يتلقى الضربات الموجعة في كل مكان يتوغّل فيه داخل قطاع غزة.
– وعما يزعمه المحتل من القضاء على معظم عناصر المقاومة، قال الناطق باسم القسام: “كتائب القسام تمكنت خلال الحرب من تجنيد الآلاف من المقاتلين الجدد، وهناك آلاف من المقاتلين مستعدون لمواجهة العدو متى لزم” وأوضح أن “قدرة مجاهدينا على القتال والمواجهة باتت أقوى أمام جرائم الاحتلال وإبادته”، حيث تم تعزيز القدرات الدفاعية في كل مكان بقطاع غزة.
– أما عن معركة رفح فقال: “معركة رفح وما يسطره مجاهدونا في الشجاعية وغيرهما دليل على قوة مقاومتنا وفشل العدو وهزيمته”، مشيرًا إلى أنه “لا مكان في غزة لقوات تتحصن في البيوت كاللصوص ولا لضباط يختبئون وراء المدرعات”.
وعما يدور في الضفة قال إن التصاعد المستمر للمقاومة في جنين ونابلس وكل محافظات الضفة والقدس المحتلة “هو رد وخيار شعبنا في مواجهة الإبادة الممنهجة والتهويد والاستيطان الذي تنفذه حكومة العدوان والإجرام” وتابع:” أكبر رسالة لهذا العدو المتغطرس ولوزراء حكومته النازية، أن كابوس تحرك الضفة والقدس والخلايا الثائرة من الأرض المحتلة عام 48 قادم لا محالة”.
– ردًا على مزاعم الانتصار الإسرائيلي الذي يروجه نتنياهو وجنرالاته، وجه أبو عبيدة رسالة للداخل الإسرائيلي وعائلات الأسرى قال لهم فيها: “بات معلومًا لديكم ولكل العالم أن النصر المطلق الذي يتحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هو انتصاره الشخصي في إقصاء خصومه وبقائه في السلطة في مقابل التضحية بأبنائكم”، وأضاف: “وبالتالي فإن مصير أبنائكم يا جمهور العدو أصبح لعبة في يدي رئيس حكومتكم ووزراء حكومته”، معتبرًا أن كل ما يفعله نتنياهو “هو محاولة للهروب من الحقيقة والإخفاق الذي سيلاحقه بقية حياته”، مشيرًا إلى أن “ما كشف عنه مؤخرًا في أوساط العدو من وثائق استخبارية عن الفشل المدوي في السابع من أكتوبر هو أمر هين بالمقارنة مع ما سنكشف عنه في الوقت المناسب”.
ونجحت المقاومة منذ اليوم الأول للحرب وعلى مدار أكثر من 9 أشهر في تكبيد الاحتلال العديد من الخسائر، في ظل المرونة التي تتعاطى بها مع تطورات المشهد الميداني والتنقل بين التكتيكات القتالية ما بين المواجهات المباشرة، الصفرية وعن بعد، والعمليات النوعية بشتى أنواعها، التي استطاعت من خلالها إسقاط عشرات القتلى من جنود وضباط جيش الاحتلال ومئات المدرعات العسكرية، فضلًا عن حالة الرعب التي تهيمن على الداخل الإسرائيلي وإبقاء مئات العائلات تحت الأرض في الخنادق والمخابئ حيث صافرات الإنذار التي تدوي في مدن الغلاف وفي الداخل الإسرائيلي.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى زيادة العمليات القتالية النوعية للمقاومة في الأيام الأخيرة عما كانت عليه في السابق، كما أفادت القناة “12” الإسرائيلية بارتفاع نسبة دوي صفارات الإنذار في مناطق جنوب نهاريا شمال “إسرائيل” إلى 500%، المؤشرات التي تعكس مدى قوة وصمود المقاومة وقدرتها على وضع السيناريوهات المختلفة للحرب.
نتنياهو المأزوم
تسببت المقاومة من خلال تصديها لجيش الاحتلال وإفشال أهدافه التي أعلن عنها بداية الحرب في تأزيم موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووضعه في زاوية ضيقة، مدافعًا عن نفسه على طول الخط، في ظل عشرات الاتهامات والانتقادات التي يتعرض لها طيلة أيام وأشهر المعركة.
وزادت الحرب من إحراج نتنياهو سياسيًا وشعبيًا، تلك الحرب التي تحمل بنهايتها نهاية مستقبل رئيس الحكومة السياسي، بل واحتمالية الزج به في السجن بسبب قضايا الفساد المتهم فيها، التي أضيف لها قضايا الفشل في حسم تلك المعركة التي راح ضحيتها مئات الإسرائيليين وكلفت البلاد كلفة باهظة، بخلاف تشويه صورة الكيان المحتل عالميًا بعد عقود من التجميل والترميم.
ويقينًا بنهايته التي باتت أقرب من أي وقت مضى، يحاول نتنياهو إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، وتوسعة جبهاتها شمالا وجنوبًا، وعرقلة جميع الجهود الدبلوماسية المبذولة للتوصل إلى اتفاق مع حماس ووضع حد لتلك المواجهات المستمرة بعدما باتت الحرب بلا هدف أو رؤية واضحة، وهو ما أدى في النهاية إلى تصاعد الهجوم ضد نتنياهو من داخل النخبة السياسية والعسكرية الإسرائيلية
يقول الجنرال المتقاعد إسحاق بريك في تعليقه على إدارة نتنياهو للمعركة: “إذا رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الصفقة مرة أخرى فسيكون الأمر كقنبلة ذرية أسقطت علينا”، مضيفًا: “إذا رفض الصفقة سنفقد المختطفين إلى الأبد وسنكون على شفا حرب إقليمية”، منوهًا إلى أن استمرار القتال لن يسهم إطلاقًا في تحقيق النصر، بل ستكون هزيمة “إسرائيل” أكثر إيلامًا، حسبما نقلت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية.
كما أكد عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس حزب “إسرائيل بيتنا” أفيغدور ليبرمان، أن بلاده لم تتعلم من درس 7 أكتوبر/تشرين الأول وأنها لا تزال عالقة في 6 أكتوبر/تشرين الأول، مشددًا على ضرورة استخدام كل الإمكانيات المتاحة بعدما استنفدت “إسرائيل” قوتها الردعية إلى الصفر على حد قوله.
وكان قادة الأجهزة الأمنية قد عبروا عن صدمتهم من بيان نتنياهو الأخير بشأن صفقة التبادل، الذي قال فيه إن أي صفقة يجب أن تسمح لـ”إسرائيل” باستمرار القتال، في حين تساءل زعيم المعارضة يائير لبيد عن فائدة مثل هذه “البيانات الاستفزازية” في هذه المرحلة من التفاوض، كما نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مصدرين مطلعين داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
عزلة “إسرائيل” تتسع
لم تتعرض دولة الاحتلال لعزلة دولية كتلك التي تتعرض لها منذ بداية الحرب الحاليّة، وهي العزلة التي تعني في المقابل زيادة الدعم الدولي لفلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني، حيث أعلنت أيرلندا والنرويج وإسبانيا اعترافهم الرسمي بدولة فلسطين المستقلة، لتنضم إلى ثماني الاتحاد الأوروبي السابق الذين اعترفوا بفلسطين وهم: بلغاريا وبولندا وتشيكيا ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وإدارة جنوب قبرص الرومية والسويد.
كما فتر دعم حلفاء “إسرائيل” في ظل تصاعد الانتقادات الشعبية الضاغطة عليهم بسبب جرائم الحرب التي ترتكبها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين، فيما جاءت التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها قارة أوروبا لتزيد الوضع تأزمًا، حيث تعهد زعيم اليسار الفرنسي، جان لوك ميلونشون، بالاعتراف بدولة فلسطين، وذلك بعدما أظهرت النتائج الأولية تقدم اليسار في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، التي جرت أمس الأحد 7 يوليو/تموز، فيما أكد رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ستارمر، الحاجة إلى وقف “واضح وعاجل” لإطلاق النار في غزة، وزيادة المساعدات المقدمة لقطاع غزة.
كما شهد المزاج الشعبي العالمي، لا سيما الغربي، تحولا جذريًا في مسار القضية الفلسطينية، من الدعم المطلق للكيان المحتل وتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني، إلى أحد الأصوات الداعمة بقوة لتلك الحقوق والمنددة بسياسات الاحتلال، حيث شكل هذا المزاج أداة ضغط قوية على الأنظمة والحكومات الداعمة لـ”إسرائيل” لإعادة النظر في سياساتها الخارجية تجاهها.
شرخ الجبهة الداخلية
قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي كانت الجبهة الداخلية أحد أبرز محاور القوة الإسرائيلية، وواحدة من الجدران الصلبة التي يستند إليها الكيان لتعظيم قوته وتجييش إمكانياته في مواجهة التحديات التي يواجهها، عسكرية كانت أو سياسية أو اقتصادية، لكن سرعان ما تفتت هذا الضلع بفضل المقاومة وصمود الغزيين.
وتعرضت الجبهة الداخلية الإسرائيلية لعشرات الضربات منذ بداية الحرب، أسفرت في النهاية عن تفتيتها وتهميشها وتقسيمها، حتى باتت أوهن من أن يُعتمد عليها، وعلى العكس من ذلك تحولت إلى خنجر في ظهر السلطة بشقيها، السياسي والعسكري.
وعلى مدار الأشهر الـ9 الأخيرة لم تخلُ شوارع وميادين تل أبيب وبقية مدن الاحتلال من التظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي تطالب بإقالة الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، منددة بإدارة الحرب والفشل الذي مُني به الكيان أمام المقاومة، التي نجحت في فضح الأسطورة الوهمية لقوة جيش الاحتلال وجهاز استخباراته بعدما سقط في أول اختبار حقيقي على أرض الواقع.
وبلغ الاستقطاب السياسي والديني لدى الشارع الإسرائيلي مداه الذي تجاوز الخطوط الحمراء، وسط دعوات لمزيد من التصعيد والإضراب والعصيان المدني، فيما تزايدت المخاوف من إصابة الداخل الإسرائيلي بحالة من الشلل التام وما لها من تداعيات كارثية على مستقبل “إسرائيل” وحاضرها.
وفي ظل حالة الفوضى تلك والفشل في تحقيق الأهداف المنشودة، لم يجد نتنياهو ويمينه المتطرف وجنرالاته، سوى الحرب العشوائية، حيث التخبط بلا رؤية أو هداف، الاستئساد على النساء والأطفال والمدنيين والحجر والشجر، في محاولة لتعظيم أرقام الضحايا لتوظيفها للترويج لانتصار وهمي يحفظ به ماء وجهه.
وفي الأخير لا ينكر أحد أن الكلفة باهظة، وأن الثمن غال، لكن القضية الفلسطينيين تستحق تضحياتهم، خاصة أنهم يحاربون وحدهم في ميدان الوغى نيابة عن أمة بأكملها، وسط خذلان فاضح وصمت مخزي، وفي ضوء إمكانياتهم المحدودة وحصارهم المطبق الذي شارك فيه الخصوم والأشقاء، إلا أنهم قدموا أداءً بطوليًا رائعًا يسطر بماء من ذهب في سجلات التاريخ.