يبدو أن رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي، أصبح يجيد المناورة واللعب على حبلين في آن واحد، لسنا في حاجة إلى ضرب أمثال جديدة أو الاستشهاد بالماضي، فقد تجلى ذلك هذه الأيام من خلال مناسبة إحياء الذكرى الـ62 لاستقلال تونس في 20 من مارس 1956.
خطاب مطمئن من سياسي مراوغ
ضمّن رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي خطابه عن دولة الاستقلال والجمهورية الثانية، تلك الجمهورية التي قال إنه لن يقوم بأي مبادرة لتغيير دستورها، وهو الدستور الذي بفضله وصل سدة الحكم رغم ما تضمنه من نقائص، لكن في المقابل أبدى تمسكه بإعادة النظر في القانون الانتخابي وفي حق فريق من المختصين صلب لجنة وثيقة قرطاج للنظر فيه ومناقشته.
كما قال الباجي إن ترشحه للرئاسة سابقًا جاء استجابة للروح الوطنية بعد أن بلغ من الكبر عتيًا، وإنه يعرف جيدًا أن فترته تنتهي بعد عشرين شهرًا، كما نوه قائد السبسي، بالعصر الديمقراطي الذي تعيشه تونس حيث إنه منتخب شعبيًا، وكذلك مجلس النوّاب.
وهنا نتذكر سنة 2013 زمن اعتصام الرحيل المتزامن مع الانقلاب في مصر، حيث ساند الباجي الاعتصام وطالب بحل المجلس التأسيسي الذي وضع دستور الجمهورية الثانية! ليعود الباجي ويستدرك قائلاً: لا بد أن نعترف أننا ليس لدينا ثقافة ديمقراطيّة!
طمأن الباجي متابعيه بالمواعيد الانتخابية، ناصحًا بأنه لا بد من المحافظة عليها بعد أن أُجلت أكثر من مرة
ليعرج بعد ذلك على نقطة مهمة أثارت ثناء قطاع واسع من التونسيين المتخوفين من مصير البلاد الذي قد يتردى إلى الاستبدادية من جديد، فأكد للجميع أنه ضد الإقصاء ولم يعد للإقصاء دور في مستقبل والتوافق والحوار مع الجميع هو الحل.
ذلك التوافق الذي كان أساس تفاهمات وثيقة قرطاج التي قال إنه رعاها ولم يتدخل فيها قيد أنملة، وإنها كانت ترجمة لبحث القواعد المشتركة، ثم وجه لومًا للذين غادروها واصفًا إياهم بالمخطئين.
ثم طمأن الباجي متابعيه بالمواعيد الانتخابية، ناصحًا بأنه لا بد من المحافظة عليها بعد أن أُجلت أكثر من مرة.
إذًا، لم يفوت رئيس الجمهورية المحسوب على دولة الاستقلال والجمهورية الأولى، المناسبة لتحية كل من ساهم في بناء أسس الدولة الحديثة عبر توقيع بروتوكول الاستقلال في مارس 1956 الذي اعترفت به فرنسا بعد مفاوضات مرحلة الاستقلال الداخلي في غرّة يونيو 1955.
وقال الباجي إن الوثيقة الموقعة موجودة لدى المصالح المختصة في الغرض، في رسالة موجهة لجمهور المشككين في الاستقلال.
يرى مؤرخون، أن تاريخ البلاد بات بحاجة ملحة إلى مشروع وطني للاهتمام به، بعيدًا عما شابه من هالات قدسية تمجيدية أو مزايدات سوداوية غاية في التشفي
سهام “الحقيقة” تربك المحتفلين
يتزامن كلام الرئيس هذا مع دعوات متجددة لضرورة إعادة كتابة تاريخ تونس لضمان استقلال سيادي، بعد أن كشفت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين وثائق تاريخية تثبت استفادة فرنسا من الثروات الباطنية للبلاد بنسبة تفوق الـ90%! وهنا لا بد من التنويه بموقف بن سدرين فيكفيها نجاحًا أنها لم تأخذ الهيئة كما جاءتها بل حركت المياه الراكدة وشغلت الناس بموضوع يهم ماضي ومستقبل البلاد وهو تاريخ يُدرس في المعاهد والجامعات.
ورغم تأكيد مؤرخين أن تلك الوثائق ليست بالسبق بل متاحة في الأرشيف الوطني ومعهد الحركة الوطنية والمختصون يعلمون بها، فلماذا ظلت معلومات خفية وغير معلومة أو منشورة على الملأ؟! لولا أن طالتها سهام الحقيقة.
ويرى مؤرخون، أن تاريخ البلاد بات بحاجة ملحة إلى مشروع وطني للاهتمام به، بعيدًا عما شابه من هالات قدسية تمجيدية أو مزايدات سوداوية غاية في التشفي، في آن تفرق ولا تجمع، تاريخ يقر بتضحيات تراكمت على مدى 75 عامًا، سطرت فيها الفئات والجهات والأفراد والجماعات على تباين مستوياتها الاجتماعية والتعليمية ملاحم لا تنسى، على حساب تركيز الدور التاريخي للزعاماتية، وانحرافاتها الاستبدادية أمام بطولات الأجيال وقادة النضال المسلح والجهاد، في مرحلة التحرير أو مرحلة بناء الدولة الوليدة.
ليس أقل تلك المقدرات، مراجعة كل الاتفاقيات المبرمة مع الاستعمار البغيض، حتى يكون الاستقلال تامًا غير منقوص
العدالة التاريخية والاجتماعية
ومع إحياء عيد الاستقلال لا يمكن تغييب الثورة التي جاءت تصحيحًا لمسار التاريخ وانعراجاته المخطئة، وترسيخًا لإرادة الانعتاق من ربقة المستعبد سواء كان في الداخل أم الخارج، فهما سيان.
وربما كان استعمار الداخل أشد وطأة، فظلم ذوي القربى أشد مضاضة، كما تقول الحكمة، ما لم تتحقق العدالة الاجتماعية التي لا تقل شأنًا عن العدالة التاريخية في حق العباد والبلاد ومقدراتها.
وليس أقل تلك المقدرات، مراجعة كل الاتفاقيات المبرمة مع الاستعمار البغيض، حتى يكون الاستقلال تامًا غير منقوص، لا إضفاء لشرعية على تعبية.
فلا استقرار ولا تنمية ولا ديمقراطية من دون عدالة اجتماعية وتلك العدالة ظلت غائبة في مرحلة تونس التأسيسية أو ما يطلق عليها بالجمهورية الأولى لتركز التنمية على السواحل وأغفلت الدواخل، وبالتالي لا بد من توخي سياسة جديدة أقرها الدستور تحت مسمى التمييز الإيجابي، ويمكن اعتبار هذا التمشي ضمن سياسة المرحلية التي تبناها بورقيبة، فلنبدأ مرحلة جديدة مع الجمهورية الثانية، هي مرحلة الاستقلال السيادي التام.