تعيش منطقة الشرق الأوسط منذ بزوغ الدولة الحديثة حالة من التبعية المطلقة للغرب وعانت شعوبها من ديكتاتوريات متعاقبة أذاقت دولها وشعوبها التخلف والذل والرجعية، وقد سعت الحركات الاسلامية الحديثة منذ نشأتها – بعد سقوط الخلافة الإسلامية – للتأصيل لمفهوم الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامى وتحملت فى طريق الوصول لتحقيق هذه الغاية الكثير من العقبات وقدمت الاف الشهداء والمعتقلين، ومرت حركات الإسلام السياسى بالكثير من المحطات والمسارات الفكرية التى غيرت بعضها من أفكارها وممارساتها وإن أجمع فى النهاية معظم هذه الحركات على الالتزام بالنهج الديمقراطى فى ممارسة العمل السياسى والالتزام بالنهج السلمى فى التغيير.
وبعد أن منعت تلك الديكتاتوريات خلال مايقرب من القرن أى ممارسة ديمقراطية حقيقية تسمح باندماج حقيقى لقوى الاسلام السياسى، جاءت ثورات الربيع العربى والتى كانت قوى الاسلام السياسى فى القلب منها لتثبت أن القمع لاينهى الأفكار والمعتقدات وأن دعم الديكتاتوريات لاينجح دائما، وان الشعوب العربية تتطلع لحياة جديدة عمادها العدل والحق والمساواة.
وجاءت إفرازات المسار الديمقراطى الذى انتهجته دول الربيع العربى(مصر-تونس- ليبيا) لتؤكد أن قوى الإسلام السياسى بالرغم من قمع الأنظمة المتتاليه لها إلا أنها إستطاعت أن تؤسس شبكة إجتماعية وخدمية قوية والتى إستطاعت أن تفوز من خلالها بالانتخابات النزيهة التى اجريت فى تلك الدول فعلى سبيل المثال اكتسح الاسلاميون بمصر ثلاثة انتخابات واستفتاءين للدستور، وقس على ذلك الانتخابات الطلابية والنقابية.
ولكن بعد مرور ثلاثة أعوام على الربيع العربى مازالت مرحلة الاستقرار غائبة والتنمية مفتقده وتمر قوى الاسلام السياسى والمشروع الاسلامى النهضوى بمحك خطير فى ظل محاولات الإفشال سواء من الداخل أو الخارج.
ومع الانقلاب العسكرى فى مصر والذى دعمته قوى خليجية وإقليمية ودولية، والتى بدا بوضوح أنها حملة مستمرة لمواجهة صعود الحركات الإسلامية فى المنطقة، وأن الدول التى تتبنى هذا الاتجاه “السعودية – الإمارات” عازمة على المضى فى مواجهة حركات الإسلام السياسى، وبالرغم من قسوة الحملة وشدتها إلا أنه مازالت هناك فرص متاحة أمام الإسلاميين لإستعادة مافقدوه.
الفرص المتاحة أمام الإسلاميين
بالرغم من حملات التشويه المستمرة والمركزة التى تواجه الاسلاميين منذ صعودهم للسلطة فى دول الربيع العربى إلا أنه مازال الاسلاميون هم القوة الوحيدة القادرة على الفوز فى أى إنتخابات قادمة، فالمشهد السياسى فى مصر وتونس بالرغم من تصاعد الحركات الاحتجاجية ضد الاخوان يؤكد إلى أن من يدعون أنفسهم قوى مدنية لم تستطيع تأسيس أى إنتشار مجتمعى حقيقى وربما يبدو هذا جيداً من مخاطرة المؤسسة العسكرية وبروزها فى الصورة وذلك لغياب رموز ليبرالية تستطيع أن تكون بديلاً عن الإسلاميين، كما يؤكد هذه الوجهة تراجع عدد من المرشحين الليبراليين لصالح ترشيح الفريق السيسى أو بمعنى أدق مرشح العسكر.
1- تتميز الحركات الاسلامية بالقدرة على امتصاص الصدمات والاستفادة منها ولكن يجب أن يكون هناك التوظيف الأفضل لهذه الصدمات لما يخدم مسارات الحركة فى المستقبل، ويبدو هذا جلياً من قدرة جماعة الاخوان المسلمين بمصر والتحالف الوطنى لدعم الشرعية من استمرار الحراك والمواجهة بالرغم من المجازر والاعتقالات المستمرة.
2- من واقع الأحداث بمصر أن البديل الوحيد للإستقرار والحفاظ على مصالح الدول الغربية بالمنطقة هو دعم المسار الديمقراطى والالتزام به وأن سياسة التبعية المطلقة قد انتهت وأن عهودها قد فلت ، وأن السياسة الآن هى سياسة مصالح متبادلة وفق معايير مقبولة للطرفين.
3- مازالت ماتطلق على نفسها “القوى المدنية” أدائها ضعيف وتوجد تباينات عديدة فى مواقفها ويظل من المشكوك به ما إذا كان هؤلاء المختلفون وغير المتجانس بعضهم مع بعض بشكل دائم قادرين على تحدي الإسلاميين سياسياً. فمن خلال رفضهم لكل عروض الحوار التي قدمها الرئيس د محمد مرسى وإعلانهم مقاطعة الانتخابات البرلمانية التي كان من المزمع إجراؤها في مطلع العام المقبل، ساهم هؤلاء المعارضون في إعاقة المسيرة السياسية للبلاد. كما أن تحالفهم مع فلول نظام مبارك القديم والعديم المصداقية يبقى مشبوهاً للغاية.
فضلاً عن ذلك، فإن اعتقاد “التحالف المناوئ لمرسي” بأن الجيش نفذ إرادة الشعب وأنه يتصرف بدوافع ديمقراطية هو اعتقاد ساذج. فأولوية الجنرالات هي الدفاع عن امتيازاتهم، ذلك أن الجيش معروف بأنه مأوى للفساد ويتحكم في ربع الاقتصاد المصري على الأقل. بالإضافة إلى ذلك، فقد فشل الجيش فشلاً تاماً في إدارة شؤون البلاد في العامين اللذين تبعا سقوط مبارك.
4- إن تكرار تجارب الانقلاب على صعود الإسلاميين سواء فى الجزائر سابقاً ثم محاصرة فوز حماس فى قطاع غزة والآن الانقلاب على الاخوان المسلمين بمصر سيضر بصورة كبيرة بمصالح الدول الغربية بالمنطقة وسيقابلها بالطبع زيادة حدة الخطاب الدينى الذى يستهدف الغرب ونمو لفكر القاعدة على حساب الفكر الإسلامى الوسطى.
5- إن المشهد الآن هو أفضل التوقيتات لبناء تحالف وطنى واسع مبنى على قواعد وأسس واضحة لبناء مستقبل وطنى
6- من المؤكد أن الأحداث الأخيرة سواء فى مصر أو تونس كشفت العديد من الوجوه التى كانت تتلبس وجوه الثوار وهذا عامل مهم فى التعامل مع الدولة العميقة ومؤسساتها ورموزها الفاسدة.
7- من المؤكد وجود عناصر جديدة أضيفت للمشهد مثل “الأولتراس -حركة أحرار” وغيرها من القوى الشبابية وهذه القوى الجديدة يجب بناء علاقة قوية معها والاستفادة من قدرتها على الحشد والمواجهة
8- إن الإسلاميين اليوم أكثر من أي وقت مضى يقفون على أنبل وأصلب موقع، فهم إلى موقع القرب العقدي والمفاهيمي الثقافي من الناس، هم يقفون كما في مصر يحملون أنبل الشعارات، مثل الدفاع عن إرادة الشعب والاحتكام لصناديق الاقتراع، ويقودون ثورة سلمية رائعة، تدافع عن قيم الثورة: حرية الإعلام التي حافظ عليها حكمهم وأهدرها الانقلاب، كما هم يدافعون عن التعددية السياسية وعن قضايا الأمة الكبرى كقضية فلسطين.
بينما في المقابل تقف الليبرالية المصرية العريقة على أرضية الثورة المضادة مستنصرين بانقلاب عسكري ذابين عنه، ودباباته تدوس على صناديق الاقتراع وتطحن بها إرادة الشعب وحتى أجساده، وتضع يدها على وسائل الإعلام تكمم أصواتها وتفتح السجون على مصراعيها وتضرب الجماهير العزل بالملايين.
9- يرى بعض المراقبين أن ما حصل في مصر ليس انتكاسة للإسلام السياسي بقدر ما هو انتكاسة ستجهز على ما تبقى من تراث ليبرالي وقومي عربي علماني، وذلك ما لم يراجعوا مواقفهم ويؤوبوا إلى رشد.
ومقابل ذلك سيوفر الانقلاب فرصا للحركة الإسلامية للقيام بمراجعات لتصلح من أخطائها في الحكم فتكون أكثر انفتاحا على القوى المعارضة في مصر وفي غيرها، وبالخصوص في مرحلة انتقالية لا يمكن أن تحكم بحزب واحد ولا بتيار واحد ولا دستورها مقبول أن يكتبه اتجاه واحد.
ستدرك الحركة الإسلامية في مصر وغيرها ذلك فتكون أكثر انفتاحا على كل القوى الوطنية فاسحة في وجهها المجال لا للمشاركة الأوسع والتحالف معها فحسب بل حتى لتتبوأ مواقع قيادية في الأحزاب الإسلامية فالإسلام إرث مشترك لكل الأمة.
10- في زمن الفضاءات المفتوحة تصبح جرائم الطغاة تجري تحت أقوى المجاهر وأسطع الأضواء بما لم يكن ميسورا ولو شيء منه لفراعنة الزمان القديم الذين كانت جرائمهم تجري تحت طي السر والكتمان، فكان متاحا لفرعون موسى أن يقول “ما أريكم إلا ما أرى” (غافر/29) فارضا سلطانا مطلقا على شعبه من خلال سيطرته على المعلومة.
لقد انقضى ذلك الزمان وغدت جرائم الطغاة تتم تحت المجهر، فلا مستقبل للسيسي وأمثاله في عصر الفضاءات المفتوحة.
وكما يقول راشد الغنوشى زعيم حركة النهضة التونسية: لي أن أؤكد باطمئنان أن الإسلام السياسي لم ينهزم في مصر ولا في غيرها فعالم الأفكار مفعم بقيم الإسلام، على نحو غير مسبوق منذ غزتنا الحداثة معتلية الدبابات وهيمنت على عالم النخب دافعة الإسلام إلى الهامش مبشرة بمشاريع كبرى خاب معظمها إن على صعيد الحرية أو التنمية أو العدالة والوحدة أو تحرير فلسطين، ما أعاد وجدد الحاجة إلى التفكير في الإسلام والبحث فيه عن مشروع للنهوض متفاعلا ومستوعبا وليس رافضا لمنجزات الحداثة بعد استنباتها في حقل الإسلام .
إن ما يسمى بالإسلام السياسي ليس في حالة تراجع وإنما هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لطور جديد غير بعيد من الممارسة الأرشد للحكم، وإنه لا يحتاج إلى عشرات السنين ليسترجع فرصا أكبر تنتظره في زمن الفضاءات الإعلامية المفتوحة، وفي مواجهة مشاريع انقلابية عارية من غطاء قيمي وحضاري وسياسي.
إنه حركات متجذرة في مجتمعاتها حاملة لقيم الثورة السلمية الديمقراطية وقيم المشاركة بديلا عن الانفراد في زيجة ناجحة بين قيم الإسلام وقيم الحداثة.
وأخيراً
إن الإسلاميين مطالبون بإعادة تقييم التجربة كاملة الآن والوقوف على سلبياتها ووضع استراتيجيات للتعامل معها مستقبلاً فى كافة المحاور سواء المتعلقة بالتنظيم أم الدولة أم الخارج.