بعد تجميد قارب الـ9 سنوات، ها هم اللبنانيون على أبواب استحقاق انتخابي جديد حين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع في الـ6 من مايو/آيار المقبل لاختيار 128 نائبًا من بين 917 مرشحًا من المقرر أن يخوضوا الانتخابات البرلمانية القادمة.
الانتخابات التي تعد الأولى منذ عام 2009 وذلك بعد تمديد البرلمان الحاليّ ولايته لمرتين خلال السنوات الماضية، فرضت نفسها بقوة على موائد التحليل السياسي والإعلامي، لما تمثله من أهمية كبرى في إعادة رسم الخريطة السياسية اللبنانية خلال الفترة المقبلة، مما وضعها تحت مجهر الاهتمام، محليًا وإقليميًا، في ظل الظروف والمستجدات التي تشهدها الساحة في الآونة الأخيرة.
التنافس غير المسبوق على الفوز بالمقاعد المقررة للدورة المقبلة رافقه تبادل اتهامات وتراشق سياسي وإعلامي بين المرشحين، دفع إلى تصاعد مخاوف البعض من إجهاض تلك التجربة الديمقراطية المجمدة طيلة السنوات الماضية، وهو ما حذر منه المقربون من دوائر صنع القرار في بيروت.
16 وزيرًا يعلنون الترشح
في سابقة ربما تندر في العواصم العربية يخوض الانتخابات اللبنانية قرابة 16 وزيرًا حاليًّا في الحكومة وهو ما يعكس حجم الصراع بين الكتل السياسية اللبنانية، حيث قرر المشاركة في هذا الماراثون كل من رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية نهاد المشنوق ووزير الخارجية جبران باسيل ووزير المال علي حسن خليل ووزير الطاقة سيزار ابي خليل ووزير البيئة طارق الخطيب ووزير الثقافة غطاس خوري ووزير الشؤون الاجتماعية بيار بو عاصي ووزير المهجرين طلال أرسلان ووزير الزراعة غازي زعيتر ووزير التربية مروان حمادة ووزير الصناعة حسين الحاج حسن ووزير العمل محمد كبارة ووزير التخطيط ميشال فرعون ووزيرة التنمية الإدارية عناية عز الدين ووزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية بيار رفول.
عدد الوزراء الراغبين في خوض الانتخابات ربما فاق هذا العدد بمراحل كثيرة إلا أن ضغوطًا مورست على بعضهم دفعتهم إما لعدم الترشح أو الانسحاب، وهو ما حدث مع وزير الدفاع يعقوب الصرّاف الذي انسحب من السباق الانتخابي استجابة لرغبة قيادة التيار الوطني الحر.
هذا العدد الكبير لمرشحي الحكومة اللبنانية أثار حفيظة الكثيرين سواء من المرشحين لخوض الانتخابات أم المراقبين لها، في الداخل كان أو الخارج، ومن ثم باتت الاتهامات بين من استقر عليهم خوض العملية الانتخابية لغة الخطاب الأكثر رواجًا على الساحة السياسية خلال الأيام الماضية.
تبني السعودية إستراتيجية جديدة تهدف إلى “إعادة لمّ مكونات 14 آذار لتخوض معركة الانتخابات النيابية كفريق واحد”
تلاسن وتبادل اتهامات بين المرشحين قبيل الانتخابات
طعون واتهامات
يبدو أن سباق الاتهامات والتلاسن بدأ مبكرًا على غير المتوقع، فقبل الموعد المحدد للانتخابات بشهر ونصف الشهر تقريبًا لوح بعض المرشحين بتصعيد تهم الرشاوى الانتخابية إلى منصات القضاء، مهددين بالكشف عن عمليات رشوة مباشرة وغير مباشرة واستعمال نفوذ في مؤسسات رسمية للتدخل في التحالفات الانتخابية، حيث طالب النائب الحاليّ سيرج طورسركيسيان، بالتحقيق في تصريحات سابقة له بشأن الرشوة الانتخابية والمال الانتخابي المباشر وغير المباشر الذي يحصل في دائرة بيروت الأولى، وقد أحيل الملف على النائب العام الاستئنافي في بيروت.
انتخابات المغتربين خارج لبنان كانت هي الأخرى محل تشكيك من البعض، حيث حذر النائب بطرس حرب، من أن تصبح العملية الانتخابية في بلاد الانتشار عرضة للتزوير، في ظل غياب أي قدرة لكل من وزارة الداخلية وهيئة الإشراف على الانتخابات، على مراقبتها، وقال “إذا اعتمدنا نظرية مشاركة المغتربين، يكون لبنان الدولة الوحيدة التي حوّلت العالم، على مستوى قاراته كافة، دائرة انتخابية واحدة، على المرشحين أن يجوبوها للتواصل مع ناخبيهم، وهو أمر يستحيل على أي مرشح، باستثناء من يتولى وزارة الخارجية الذي يجول على المغتربين، فيما يغطي نفقات تجواله من الأموال العمومية التي تعود للبنانيين وليس لشخص أو فئة أو حزب، ما يجعل المنافسة بين المرشحين غير عادلة وغير متكافئة، إذ إنه يستحيل على أي مرشح أن يتمكن من التواصل مع ناخبيه في دول الاغتراب، بينما يستفيد بعض مرشحي السلطة من وجودهم في السلطة ومن الاعتمادات المتوافرة في وزاراتهم، للقيام بجولاتهم الانتخابية تحت شعار توطيد علاقة المغتربين بلبنان”.
الـ16 وزيرًا المرشحين لخوض الانتخابات كانوا في مرمى الاتهام أيضًا، حيث حذر البعض من استخدام مقراتهم الوزارية وسلطاتهم السياسية ونفوذهم المالي من أجل الترويج والدعاية والتأثير على الناخبين، وهو أمر وصفه عدد من المرشحين بالمفتقد للعدالة والمساواة ويجهض دعاوى المنافسة الشريفة.
الخبير الدستوري اللبناني سعيد مالك في تصريحاته لـ”القدس العربي” قال: “لا يجوز إبقاء وزير مرشح في وزارته يستعمل هذه الوزارة من أجل غاياته وإعلاناته الانتخابية فيما الواقع أنه يقتضي أن يكون بعيدًا عن الخدمة العامة في إطار ما يسمى الحملة الانتخابية حتى لا يُصار إساءة استعمال حقه في سياق ممارسة عمله في الوزارة”، وفي المقابل تعجب المرشح عن المقعد الماروني في جبيل زياد حواط “كيف يُمنَع رئيس البلدية من الترشح للانتخابات إذا لم يقدّم استقالته قبل نحو السنة فيما هناك وزراء في السلطة التنفيذية مرشحون وما زالوا يمارسون مهامهم الوزارية؟”.
الصراع على المقاعد في ظل تلك الأجواء الملبدة بغيوم التشكيك والاتهامات لا شك أنها ستكون تربة خصبة لظهور الكثير من الطعون بعد انتهاء العملية الانتخابية، وهو ما توقعه رئيس لجنة الإدارة والعدل النائب روبير غانم الذي رجح أن يتقدم كثير من المرشحين بطعون على عملية احتساب الأرقام وفوز مرشحين من لوائح أخرى.
التنافس غير المسبوق على الفوز بالمقاعد المقررة للدورة المقبلة رافقه تبادل اتهامات وتراشق سياسي وإعلامي بين المرشحين، دفع إلى تصاعد مخاوف البعض من إجهاض تلك التجربة
صورة لبنان الخارجية
المشهد بهذا الأفق المشحون ربما يعكس صورة سلبية عن لبنان ووحدته وتماسك مكوناته الداخلية، وهو ما يخشى منه الكثير من السياسيين، ممن طالبوا بضرورة إعادة تقييم الموقف بشكل أكثر اتساعًا حفاظًا على سمعة بلادهم خارجيًا في ظل هذا الظرف الحرج التي تمر به دول المنطقة.
رئيس المجلس الماروني العام الوزير السابق وديع الخازن، طالب المرشحين كافة “أن يرتقوا إلى مستوى راق من التخاطب السياسي، وعدم التجريح الشخصي، بغية تحسين مردود الأرقام عن الصوت التفضيلي أو الحاصل، من على سطوح الفضائيات”، مشيرًا إلى “أن العالم يراقب، ويعيب علينا انحدار مستوى خطابنا السياسي إلى مستويات لا تخدم لبنان ووحدته التي نحن في أمس الحاجة إليها اليوم”.
فيما أعرب رئيس مجلس النواب نبيه بري، عن أسفه لما أسماه “المستوى المنحدر” الذي وصل إليه الخطاب السياسي كلما اقترب موعد الانتخابات، محذرًا من أن هذا المستوى لا يخدم لبنان ولا وحدته ولا صورته أمام العالم.
بري خلال استقباله رئيس وأعضاء وﻻعبي نادي “الشباب” قبل أيام، خاطبهم بقوله: “حبذا لو أن السياسيين اليوم يقاربون اﻻستحقاق الانتخابي بنفس الروح الرياضية التي تتنافسون تحت سقفها لحصد الألقاب، ولكن للأسف كلما اقتربنا من موعد السادس من أيار ينحدر الخطاب السياسي إلى مستويات ﻻ تخدم لبنان”.
الدعم السعودي للحريري وقوى الـ14 من آذار تثير حفيظة البعض
التمويل السعودي.. علامة استفهام
الرياض ترى في هذه الانتخابات فرصة سانحة لاستعادة بعض من دورها الذي فقد خلال السنوات الأخيرة، دخلت فيها العلاقات بين بيروت والرياض كهوفًا من التوتر والتلاسن، لعل آخرها أزمة سعد الحريري ووضعه تحت الإقامة الجبرية في السعودية ودفعه إلى تقديم استقالته قبل أن تدخل فرنسا على خط الأزمة لتستقبله في الإليزيه ثم يعود إلى بلاده مرة أخرى.
ففقدان المملكة لنفوذها لبنانيًا لا يعني سحب مشروعها هناك بالكامل، خاصة بعد المليارات التي أنفقتها لتأسيس قواعده، وتدشين تحالف جديد يكون الذراع السعودية في مواجهة حزب الله والنفوذ الإيراني، هذا التحالف الذي يضم كبار الأحزاب والحركات السياسية التي ثارت على الوجود السوري في لبنان بعيد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري 2005، أو ما يعرف باسم “قوى 14 آذار”.
المعلومات التي تسربت وفق بعض المصادر تشير إلى تبني السعودية إستراتيجية جديدة تهدف إلى “إعادة لمّ مكونات 14 آذار لتخوض معركة الانتخابات النيابية كفريق واحد”، ومن ثم تقديم الدعم والمساعدات المطلوبة لتنفيذ تلك الإستراتيجية على أرض الواقع، وهو ما أثار حفيظة عدد من القوى الأخرى التي حذرت من التدخل السعودي في الانتخابات اللبنانية.
نبيه بري: للأسف كلما اقتربنا من موعد السادس من أيار ينحدر الخطاب السياسي إلى مستويات ﻻ تخدم لبنان
زيارة الحريري الأخيرة للرياض نهاية فبراير/شباط الماضي فسرها البعض – بجانب أنها محاولة لتهدئة الأجواء مع بيروت في أعقاب الأزمة الأخيرة – أنها محاولة لترتيب الأوضاع لاستعادة المملكة نفوذها داخل لبنان مرة أخرى عبر بوابة الانتخابات من خلال دعم القوى اللبنانية المؤيدة للسعودية، وهو ما يشكك في نزاهة العملية الانتخابية بحسب البعض.
تنافس محموم أقرب للصراع، وأجواء مشحونة بالاتهامات، وتصاعد أصوات التشكيك والتخوين بين المرشحين، عقبات في طريق الانتخابات النيابية اللبنانية، تهدد بإجهاضها مبكرًا بعد 9 سنوات من الحمل الكاذب، ويبقى الرهان على أصوات العقلاء من شتى الأطياف والقوى السياسية لتعبيد الطريق نحو وصولها إلى بر الأمان الأمل الوحيد أمام اللبنانيين.