ترجمة وتحرير: نون بوست
للوهلة الأولى، بدا مؤتمر السلام الإسرائيلي-الفلسطيني في تل أبيب المنعقد في مطلع تموز/يوليو منفصلًا عن الواقع، بل يكاد يكون وهمًا، وقد كان كذلك في بعض النواحي.
بحضور حوالي ستة آلاف شخص، كانت هذه الفعالية أكبر تجمع مناهض للحرب في البلاد بعيدًا عن احتجاجات الشوارع منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وبينما كان الناس يتدفقون إلى ساحة مينورا، عرضت شاشات عملاقة فيديو يعود لسنة 2019 لمجموعة من الموسيقيين من مدينة سديروت الجنوبية الذين تعاونوا مع مجموعة في غزة لإنتاج فيديو لعرض موسيقي راقص مشترك. ولزيادة التأكيد على المسافة الصارخة بين ذلك الزمن وزمننا الحالي، أعقبه على الفور مقطع من أغنية “تخيّل” لجون لينون.
بدّد هذا الجو المثالي داخل الاستاد أوّل مجموعة من المتحدثين الذين اعتلوا المنصة: يهود وفلسطينيون من مواطني إسرائيل الذين قُتل أو اختطف أفراد من عائلاتهم في الهجوم الذي قادته حماس قبل تسعة أشهر، أو قُتلوا في القصف الإسرائيلي الذي أعقب ذلك على غزة. وكانت إحدى المتحدثات، وهي ليات أتسيلي، من بين الرهائن وقد احتُجزت حتى أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر.
كان الاستماع إلى قصص الرعب الشخصية لكل متحدّث أشبه بتلقي لكمة في المعدة مرارًا وتكرارًا. بالكاد كان هناك شخص لم تدمع عيناه بين الحضور – خاصة عندما قرأوا بشكل جماعي قصيدة “الانتقام” للشاعر الفلسطيني الراحل طه محمد علي، كموقف جماعي ضد الانتقام. وبين هذه القصص، وفي ما بدا وكأنه قفزة عاطفية لا يمكن تجاوزها، تم ترديد أناشيد السلام طوال الحفل بما في ذلك قصيدة “اليوم” المفعمة بالحيوية و”صلاة الأمهات” و”أغنية من أجل السلام” – التي ارتبطت إلى الأبد باغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين – والتي قوبلت بتصفيق احتفالي ورقص حماسي.
كان من الصعب التوفيق بين التنافر في لحظات الابتهاج هذه والواقع في الخارج. فقد أدى الهجوم الإسرائيلي إلى مقتل ما يقارب 40 ألف فلسطيني، ومحو قطاع غزة بأكمله، وإجبار مئات الآلاف على العيش في الخيام دون طعام، واحتجاز آلاف آخرين في معسكرات الاعتقال في ظل ظروف من التعذيب والتنكيل. ومنذ هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الذي أودى بحياة حوالي 1200 إسرائيلي، لا يزال عشرات الآلاف الآخرين مشردين بعد إخلاء منازلهم في شمال البلاد وجنوبها، ولا يزال مصير الرهائن الباقين الذين يعانون في الأسر يشغل بال الجميع.
إضافة إلى كل هذا، وبينما كان الحشد في الملعب يرقص، أمر الجيش الإسرائيلي الآلاف في مدينة خان يونس بالفرار قبل اجتياح بريّ آخر. لم يتطرّق أي من المتحدثين إلى هذه التطوّرات ولا إلى أهوال الحرب التي تفوق التوقّعات.
وما زاد من حدة التنافر غياب أي حلول حقيقية للمشاكل الهائلة التي تواجه المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني اليوم. فقد طالب العديد من المتحدثين بوقف فوري لإطلاق النار وتبادل الرهائن والأسرى، وأشار البعض بشكل غامض إلى “تسوية سياسية”، وتحدث البعض الآخر عن “دولتين”، لكن على مدى ثلاث ساعات، لم يحدّد أي من عشرات المتحدثين خطة ملموسة لـ “معسكر السلام” الذي كان من المفترض أن يحييه هذا الحدث. (وعد ناشطا السلام ماعوز إينون وعزيز أبو سارة، وهما من مبادري المؤتمر، بأنهما يعملان على وضع مخطط تفصيلي سيتم نشره قريبًا).
من الناحية الواقعية، فإن أي تعبئة إسرائيلية كبيرة من أجل السلام يجب أن تأخذ حتمًا في الحسبان الاحتياجات الأمنية، وهذا نقاش يجب أن نواصل تطويره في اليسار. ولكن لم يقترح أحد في المؤتمر كيفية التعامل مع تحديات حماس وحزب الله على المدى القصير، ولا مع تنامي عدم شرعية السلطة الفلسطينية بين الفلسطينيين – وهي قضايا حقيقية وملحة للغاية بالنسبة للكثير من الإسرائيليين.
بالنسبة للجزء الأكبر، فإن أفضل جواب لليسار الإسرائيلي هو أن هذه التهديدات ستختفي عندما ينتهي الاحتلال ويتم التوصل إلى اتفاق سلام، ولكن هذا لا يُهدّئ المخاوف الوجودية لمعظم الإسرائيليين الذين لا يزالون مصدومين من أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ويخشون إمكانية تكرّرها. وفي غياب مثل هذه الإجابات، سيكون من الصعب تقديم بديل للهيمنة المطلقة لليمين في السياسة الإسرائيلية.
“الأمل بوصفه فِعلًا”
على الرغم من كل هذا، هناك طريقة أخرى لفهم هذه الفعالية. إلى جانب الحرب، هناك السياق الاجتماعي والعاطفي الذي نُظم فيه المؤتمر: مجتمع غارق في الخوف والكراهية واليأس والعنصرية والقسوة.
يواجه الإسرائيليون مشهدًا سياسيًا يكاد يكون فيه إنكار شامل- من إيتمار بن غفير إلى يائير لابيد – للحاجة إلى اتفاق سياسي وتحقيق العدالة للفلسطينيين وشراكة جوهرية بين العرب واليهود. نحن نتعامل مع وسائل الإعلام الرئيسية التي حاولت لسنوات إخفاء الاحتلال والحصار عن الجمهور الإسرائيلي، وهي الآن تخفي الحقيقة حول جرائم الحرب المروعة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وفي مرافق الاعتقال، في حين تقوم بإسكات كل صوت منتقد يدعو للسلام والعدالة.
حتى مؤتمر السلام بالكاد تطرقت له وسائل الإعلام المحلية وكان الشيء الوحيد الذي تم عرضه في برنامج إخباري تلفزيوني مقاطع من هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر التي عُرضت أثناء إجراء مقابلة مع أحد المتحدثين في المؤتمر، كما لو كانوا يريدون أن يقولوا للمشاهدين مع من يريد هؤلاء اليساريون أن يصنعوا السلام. لهذا السبب، فإن التجمع الذي كان من الممكن أن يبدو منفصلاً، وحيث تكررت تصريحات مبتذلة لساعات، كان في الواقع عملًا ثوريًا.
جمع هذا الحدث الناجين اليهود والفلسطينيين والنازحين والرهائن والسجناء السابقين والأسر الثكلى والناشطين ومسؤولي الأمن والشخصيات الدينية والثقافية والمثقفين والبرلمانيين الحاليين والسابقين لتكرار الالتزام المشترك بالعدالة واللاعنف والشراكة والمساواة والديمقراطية وتقرير المصير والأمن والحرية والسلام لكل من يعيش بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط. لقد كان اقتراحًا جذريًا للأمل.
وكما قال ماعوز إينون على المسرح في تلك الليلة، فإن الأمل ليس شيئًا موجودًا أو تجده ببساطة بل يجب أن يُفهم “كفعل”. وفي السياق الحالي، حيث الخطاب العام مشبع بخطاب الإبادة الجماعية، فإن إعادة تأكيد قيمنا الأساسية المشتركة وإعادة بناء الشعور بالانتماء للمجتمع هي طقوس حيوية وعاجلة.
ودون أفق يرى أن هناك شعبين سيعيشان معًا إلى الأبد في هذه الأرض، وأن الحياة معًا ممكنة، سيكون من المستحيل بناء حركة بديلة للتيارات القومية المتطرفة السائدة. ودون الإجماع على هذه القيم الأساسية، سيكون من المستحيل اقتراح حلول مستدامة تعود بالنفع على كلا الشعبين.
لكن حتى على المستوى السياسي، كانت هناك بعض اللحظات المهمة في المؤتمر. تحدّث العديد من الفلسطينيين الذين صعدوا إلى المسرح عن النكبة وأهميتها الشخصية – كيف تم تهجير أفراد من عائلاتهم الممتدة إلى غزة في سنة 1948، وكيف يُقتل الآن هؤلاء الأقارب أنفسهم بالقنابل الإسرائيلية. نادرا ما يستوعب المجتمع اليهودي الإسرائيلي هذا الارتباط بين الشعب الفلسطيني بجميع أجزائه عبر الحدود، وهناك قيمة في تسليط الضوء عليه. إن الإصرار على المساواة في المعاملة لجميع من يعيشون بين النهر والبحر يشكل أيضًا تطورًا إيجابيًا في الخطاب اليساري الأوسع في إسرائيل.
وقد أظهر مقطعا فيديو عُرضا خلال الحدث كيف يمكن ترجمة الأمل من رسالة مجردة إلى خطوات ملموسة. وضم الفيديو الأول نشطاء ومنظمات فلسطينية في الأراضي المحتلة يعملون ضد الفصل العنصري إلى جانب الجماعات الإسرائيلية الملتزمة بالمساواة والسلام. أما الفيديو الثاني، فقد سلط الضوء على سلسلة من الصراعات الدموية – جنوب أفريقيا، وأيرلندا الشمالية، ورواندا، وبين إسرائيل ومصر – حيث ساعد إنهاء القمع والظلم والسعي من أجل المصالحة في إنهاء تلك الصراعات.
تخيل المستقبل
من أجل البدء بمناقشة المستقبل، من الضروري أولاً وقف الحرب والدمار والسبي. ولكن لا يزال الطريق طويلاً حتى يتمكن معسكر السلام من حشد القوة والنفوذ اللازمين لإحداث تغيير حقيقي في إسرائيل وفلسطين، ولا يخلو طريقه من العديد من العقبات.
من بين التحديّات وضع خطة مفصلة لكيفية توفير الأمن والمساواة لكلا الشعبين. وتشير الفجوة الكبيرة بين الحضور الفلسطيني الكبير على خشبة المسرح، والعدد الصغير من الفلسطينيين بين الجمهور، إلى مشكلة يجب على الحركة معالجتها بشكل عاجل (وعد إينون وأبو سارة بتنظيم فعاليات مستقبلية في الضفة الغربية المحتلة أيضًا).
حضر المؤتمر أربعة أعضاء فقط من أعضاء الكنيست (أيمن عودة، عوفر كاسيف، نعمة عظيمي، وجلعاد كاريف)، بينما غاب يائير جولان، زعيم الاندماج الجديد بين حزبي العمل وميرتس المسمى “الديمقراطيون”. وقد أظهر هذا مدى بُعد هذا المعسكر عن أروقة السلطة.
تجسّد الكلمة المؤثرة التي ألقاها الكاتب الفلسطيني محمد علي طه، والتي كانت مليئة بالفكاهة والرحمة ولكنها حادة في انتقادها لكل من إسرائيل وحماس، جوهر ما يسعى المؤتمر إلى إعادة تفعيله. وقد تحدث عن أهوال الحرب الحالية، ومبادئ الحل السياسي، والمستقبل البعيد المتخيل حيث يلعب كلا البلدين كرة القدم، ويستمعان إلى الموسيقى، ويحتفلان بالحياة “في القدس الغربية، عاصمة إسرائيل، وفي القدس الشرقية عاصمة فلسطين، وكذلك تل أبيب ورام الله وبئر السبع وغزة”. قد يكون طه حالما، لكن على حد تعبير لينون وكما يظهر المؤتمر، فهو ليس الوحيد.
المصدر: مجلة 972+